صعّدت الصين من لهجة التهديد والوعيد تجاه ليتوانيا، بعد قيام فيلنيوس أخيراً بفتح مكتب تمثيلي لتايوان باسمها (بدلاً من تايبيه الصينية) على أراضيها، لتصف رئيسة الجزيرة تساي إنغ وين، الخطوة الليتوانية، بأنّها اختراق دبلوماسي كبير، فيما اعتبرتها بكين انتهاكاً صارخاً لمبدأ "صين واحدة". وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية جاو لي جيان، في إفادة صحافية، أول من أمس الجمعة، إن محاولات ترسيخ صيغة "تايوان واحدة" تنتهك بشكل صارخ مبدأ الصين الواحدة، وتتخلى عن التزام فيلنيوس السياسي في البيان المتعلق بإقامة علاقات دبلوماسية مع بكين، وتقوّض سيادة الصين وسلامتها الإقليمية، وتتدخل بشكل صارخ في شؤونها الداخلية. من جهتهم، رأى خبراء صينيون أنّ ليتوانيا دولة أوروبية صغيرة لديها مخاوفها الاستراتيجية منذ استقلالها عن الاتحاد السوفييتي في عام 1990، وتتصرف دائماً بصورة معادية لروسيا لإظهار الولاء للولايات المتحدة، وقد استخدمت توتر العلاقات بين بكين وواشنطن كورقة مساومة لجذب اهتمام الغرب. وبحسب هؤلاء، فإنّها نجحت إلى حد كبير في خطوتها الأخيرة بتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية.
استغلت ليتوانيا التوتر الصيني - الأميركي للمساومة
وكان وزير الخارجية الليتواني غابريليوس لاندسبيرغيس، قد صرح أخيراً، أنّ بلاده ستقدّر دعم الاتحاد الأوروبي الأقوى في نزاعها مع الصين، بعدما وافقت الولايات المتحدة على تقديم الدعم المالي لدولة البلطيق للمساعدة في تخفيف أي خسائر مالية ناجمة عن الخلاف. وفي اليوم التالي لافتتاح المكتب التمثيلي لتايوان في العاصمة فيلنيوس، الخميس الماضي، أكد لاندسبيرغيس، أنّ ليتوانيا ستوقع صفقة ائتمان تصدير بقيمة 600 مليون دولار أميركي مع مصرف التصدير والاستيراد الأميركي المملوك للدولة.
وتحت عنوان "معاقبة ليتوانيا مثل ضرب ذبابة"، اعتبرت صحيفة "غلوبال تايمز" في افتتاحيتها، أنّه من المؤكد أنّ الصين ستوجه ضربة قوية لهذه الدولة الصغيرة. وأضافت الصحيفة الناطقة باسم الحكومة الصينية: "يجب أن نجعل ليتوانيا تشعر بالألم لنظهر كرامتنا كقوة عظمى، من دون أن نعرّض مصالحنا للخطر أو يؤثر ذلك على استراتيجيتنا الأوسع... يبدو الأمر كما لو أننا نضرب ذبابة، نحتاج فقط إلى توخي الحذر حتى لا نلطخ أيدينا أو جدراننا، ولا نكسر المزهرية على الطاولة".
وعلت أصوات صينية أخيراً، تحدثت عن دور أكبر للولايات المتحدة وأوروبا في ورقة تايوان خلال الفترة المقبلة، في حين أشار آخرون إلى قدرة الصين المتزايدة على حل قضية تايوان بالقوة، معتبرين أن القدرة الأميركية والغربية على الانتقام من خلال العقوبات الدبلوماسية والاقتصادية تفقد مصداقيتها مع مرور الوقت.
تاريخياً، كانت جمهورية الصين عضواً دائماً في الأمم المتحدة، لكن بعد هزيمة الحزب الوطني (الكومنتانغ) عام 1949 على يد الشيوعيين الذين أعلنوا تأسيس جمهوريتهم الشعبية، آل مقعد الصين إلى تايوان التي أعلنت بدورها جمهوريتها المستقلة عن البر الرئيسي. وظل الأمر كذلك حتى عام 1971 حين تمكنت الصين من استعادة مقعدها بعد الاعتراف بها دولياً وإقامة علاقات دبلوماسية مع الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين ترفض بكين أن تقيم أيّ دولة علاقات دبلوماسية مع تايوان بموجب صيغة "صين واحدة" بل أكثر من ذلك، تطالب الصين هذه الدول بإصدار خطابات رسمية توضح مواقفها من مزاعم تايوان وحقها في الاستقلال. ونجحت الصين بفضل نفوذها السياسي والاقتصادي في عزل تايوان ومنعها من الانضمام إلى المؤسسات والهيئات الدولية، الأمر الذي دفع حكومة الجزيرة إلى تأسيس ما يعرف بـ"منظمة الأمم والشعوب غير الممثلة" التي تضم إلى جانب تايوان 56 جماعة عرقية تسعى إلى نيل الاعتراف الدولي.
لا تزال بكين تدرس خيارات الرد من بينها فرض عقوبات
أما بالنسبة للدول التي تعترف بتايوان، فهي 23 دولة، معظمها دول صغيرة وذات تأثير محدود في أميركا اللاتينية. إلى جانب ذلك حافظت تايبيه على درجة من التمثيل غير الرسمي في معظم الدول الغربية عن طريق مكاتب تمثيل اقتصادي وثقافي، وهي بمثابة بعثات تجارية غير رسمية يناط بها القيام بمهام قنصلية لتسهيل إجراءات الدخول والخروج من وإلى الجزيرة بالنسبة لرعاياها وللسياح الأجانب.
وحول دوافع خطوة لتوانيا وخيارات الرد الصيني، رأى أستاذ العلاقات العامة في جامعة شاندونغ، تيان ووي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن ليتوانيا اتخذت هذه الخطوة مدفوعة بشكل مباشر من الولايات المتحدة، وما يؤكد ذلك، بحسب رأيه، الكشف في اليوم التالي من إعلان افتتاح مكتب تمثيلي لتايوان، عن صفقة مع واشنطن تقدر بـ600 مليون دولار، بالإضافة إلى وعود غربية بتعويض فيلنيوس عن أي خسائر اقتصادية تتكبدها نتيجة خلافها مع الصين. وأكد تيان ووي أن "الإعلان عن مكتب تمثيلي لتايوان لم يكن مفاجئاً بالنسبة لبكين، إذ برز خلال السنوات الماضية تبني ليتوانيا سياسة خارجية معادية للصين"، مشيراً إلى تمرير مشروع في البرلمان الليتواني العام الماضي لإدانة الصين بشأن قضايا تتعلق بحقوق الإنسان في إقليم شينجيانغ ذي الأغلبية الإيغورية المسلمة.
وعن خيارات الرد الصيني، قال تيان ووي، إن بكين لا تزال تدرس خياراتها المتاحة، والتي من بينها فرض عقوبات تجارية واقتصادية على دولة البلطيق، ووضع سياسيين معادين للصين على القائمة السوداء، كما حدث في واقعة مماثلة مع سياسيين بارزين في أستراليا. ولم يستبعد خيار قطع العلاقات الدبلوماسية في حال استمرت فيلنيوس باتباع نفس النهج والارتهان للسياسات الأميركية والغربية.
من جهته، اعتبر عميد كلية الدراسات التاريخية السابق في جامعة سوتشو التايوانية، غوانغ يوان، في حديث مع "العربي الجديد"، أن خطوة ليتوانيا جاءت تتويجاً لجهود الحزب الديمقراطي الحاكم في تايوان، والذي لا يزال يكافح من أجل انتزاع اعتراف دولي يشكل ضمانة لعدم المساس بمستقبل الجزيرة. وأشار إلى أن افتتاح مكتب تمثيلي لتايوان في فيلنيوس، شكل صدمة كبيرة بالنسبة لبكين التي لا تدخر جهداً من أجل عزل الجزيرة دولياً، وبالتالي فأن تقدم دولة مثل ليتوانيا على هذه الخطوة هو تحدٍ صريح لإرادة الصين، ورسالة إلى المجتمع الدولي بأن أي دولة مهما بلغت قوتها وهيمنتها ودرجة نفوذها، لا يمكن أن تملي رغبتها على الآخرين، كما أن باقي الدول ليسوا أحجار شطرنج تحركهم الصين وفق مصالحها الخاصة، على حدّ قوله.