ليبيا: قوانين ملغّمة تهدد الانتخابات وشرعيتها

17 نوفمبر 2021
شهدت طرابلس تظاهرات رفضاً لترشح حفتر والقذافي (حمزة الأحمر/الأناضول)
+ الخط -

مقابل مضي المفوضية العليا للانتخابات في ليبيا في طريق التحضير لإجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها المقرر في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل، واستمرارها في قبول طلبات الترشح، بما في ذلك لسيف الإسلام القذافي وخليفة حفتر المتهمين بارتكاب جرائم حرب، تجتمع عوامل سياسية وخلافات قانونية متعددة تجعل المسار الانتخابي في ليبيا مفتوحاً على كل الاحتمالات، التي تبدأ من إمكانية تعطيل إجراء هذا الاستحقاق عبر تحركات داخلية، كما حصل عبر إقفال بعض المراكز الانتخابية في الأيام الأخيرة رفضاً لترشح "مجرمي الحرب"، أو حصول دفع دولي لتأجيل هذا الاستحقاق بمبرر التخوف من تفجّر الأوضاع قد يفضي إلى حالة احتراب داخلي، وصولاً إلى تشكيك الأطراف الخاسرة بنتائج هذه العملية في حال حصلت، في ظل الخلافات حول القوانين المعتمدة بعد الفشل في التوافق على قاعدة دستورية للانتخابات والتشكيك في شرعيتها وعدالتها.

غياب القاعدة الدستورية
بدأ الخلاف حول المسار الانتخابي بعد استثمار مجلس النواب حالة الفراغ الدستوري التي أحدثها فشل ملتقى الحوار السياسي (عقد بين 28 يونيو/حزيران و2 يوليو/تموز في جنيف السويسرية) في التوافق على قاعدة دستورية للانتخابات، وضيق الوقت الفاصل عن موعد الانتخابات، فبادر إلى إصدار قانون للانتخابات الرئاسية في 18 أغسطس/آب الماضي، قبل أن يلحقه بقانون للانتخابات البرلمانية، في 4 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، على الرغم من الاعتراض المستمر من قِبل المجلس الأعلى للدولة الذي طالب بحقه في ممارسة دوره بمشاركة مجلس النواب في إصدار القوانين الانتخابية، كما نص على ذلك الاتفاق السياسي. وبادر مجلس الدولة إلى إصدار حزمة من التشريعات، تضمّنت قانونين للانتخابات الرئاسية والبرلمانية بالإضافة إلى قاعدة دستورية، في 21 أغسطس الماضي، وحوّلها الى مجلس النواب كمبادرة منه لحل الخلاف بينهما، لكن مجلس النواب لم يتجاوب معه، ولم تلقَ تلك الخطوة أي تجاوب من قِبل الأوساط الليبية والبعثة الأممية في ليبيا.

وفي ظل الأزمة الدستورية التي أحدثها إصرار مجلس النواب على تفرده بإصدار القوانين الانتخابية، عمدت دول على صلة بالملف الليبي إلى التوسط بين المجلسين، فكان لقاء نظمه المغرب في الرباط مطلع أكتوبر الماضي، لكن كل المبادرات أفشلها تعنّت مجلس النواب ورفض المجلس الأعلى للدولة، وزاد من حدة تلك الأزمة اعتماد المفوضية العليا للانتخابات القوانين الصادرة عن مجلس النواب أساساً للعملية الانتخابية.


يتركز الخلاف خصوصاً حول ترشح حاملي الجنسيات الأجنبية وموعد ترك الوظيفة العامة


ومع مضي المفوضية في التحضير للانتخابات وفقاً لهذه القوانين، تقلّص الخلاف ليتركز حول مواد محددة في قانوني الانتخابات الرئاسية، والبرلمانية، وهي الفقرة الثانية من المادة العاشرة الخاصة بالسماح لحاملي الجنسيات الأجنبية بالترشح للرئاسة (تشترط على المرشح ألا يحمل جنسية دولة أخرى عند ترشحه)، والمادة 12 الخاصة بموعد ترك شاغلي الوظيفة العامة لمهامهم للترشح للانتخابات (يعد كل مواطن مدني أو عسكري متوقفاً عن العمل وممارسة أعماله قبل موعد الانتخابات بثلاثة أشهر، وعليه اشترطت المفوضية أن يرفق المرشح بأوراق ترشحه ما يفيد بتركه وظيفته قبل موعد 24 ديسمبر بثلاثة أشهر). فيما انحصر الخلاف في قانون الانتخابات البرلمانية في المادة 18 الخاصة باعتماد النظام الفردي في العملية الانتخابية ومنع نظام القوائم الحزبية، بالإضافة إلى المادة 20 التي أجّلت موعد إجراء الانتخابات البرلمانية إلى ما بعد إجراء الانتخابات الرئاسية بثلاثين يوماً.

وفي مسعى للضغط نحو التوصل إلى توافق، هدد المجلس الرئاسي بإمكانية إصدار قاعدة دستورية وفرضها بمرسوم رئاسي، وفقاً لتصريح عضو المجلس الرئاسي موسى الكوني، و"حث الشخصيات المرشحة في الانتخابات على عدم المشاركة"، وفقاً لتصريح آخر لرئيس المجلس محمد المنفي. لكن التطور الأبرز كان انخراط المفوضية العليا للانتخابات في الأزمة باقتراحها على مجلس النواب إجراء تعديلات على القوانين الانتخابية، وهي خطوة يصفها أستاذ القانون الدستوري في جامعة طرابلس، سليمان الرطيل، بـ"الخطوة التي وضعت العملية الانتخابية على طريق الانهيار".

ومفوضية الانتخابات هي هيئة "فنية غير سياسية تختص فقط بإدارة وتنفيذ العمليات الانتخابية"، بحسب قانون إنشائها عام 2012، ولذا يؤكد الرطيل في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "ليس من صلاحياتها التدخّل في صياغة القوانين الانتخابية"، مضيفاً أن "دخولها على خط الأزمة الدستورية أخرجها عن صلاحياتها ومهامها المنصوص عليها وجعل مواقف رئيسها مثار شكوك". هذه الأسباب دفعت رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري إلى اتهام المفوضية بـ"التدليس السياسي والانحياز" إلى جانب مجلس النواب.


أضيفت عبارة "ما لم يؤذن له" إلى شرط منع مزدوجي الجنسية من الترشح، ما سمح لحفتر بتقديم ترشحه


ويشير الرطيل إلى أن "المفوضية لم توضح حتى الآن على ماذا اعتمدت في التعديلات التي اقترحتها، كما لم يعلن مجلس النواب اعتماده هذه التعديلات"، مضيفاً أن "الغموض يتعلق بإعلان المفوضية شروط الترشح للرئاسة مخالفة لنصوص قانون انتخاب رئيس الدولة". ويذكر من بين تلك المخالفات إضافة عبارة "ما لم يؤذن له" إلى شرط منع مزدوجي الجنسية من الترشح، متسائلاً "على أي أساس استندت المفوضية في هذه الإضافة، التي فتحت الباب لخليفة حفتر للتحايل على المادة في أصلها التي تمنع صراحة مزدوجي الجنسية من الترشح؟".

وصاحبت الجدل والاتهامات الموجهة للمفوضية بانحيازها لمجلس النواب، تهمة أخرى تتعلق بإعلانها إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بالتتابع، وفقاً للمادة 20 من قانون الانتخابات البرلمانية والتي حددت موعد الانتخابات البرلمانية بعد شهر من إجراء الاستحقاق الرئاسي، من دون النظر في مخالفتها لخريطة الطريق التي تحدد إجراء الانتخابات يوم 24 ديسمبر 2021 في شقيها البرلماني والرئاسي بالتزامن.

جدل ترشح القذافي
وفي أثناء الشد والجذب بشأن المواد الجدلية في قانون الانتخاب، أضاف ترشح سيف الإسلام القذافي للانتخابات الرئاسية، وقبول المفوضية أوراق ترشحه، جدلاً آخر يتعلق هذه المرة بشرط ألا يكون المرشح "محكوماً عليه في جناية أو جريمة". وبغضّ النظر عن كونه مطلوباً للمحكمة الجنائية الدولية، فقد سبق أن أصدرت محكمة الاستئناف في طرابلس حكم إعدام غيابياً بحقه، في يوليو/تموز 2015، وسط تساؤلات حول كيفية حصوله على شهادة البراءة الجنائية التي يُشترط على المرشح تضمينها في أوراق ترشحه. وعن ذلك، يرى الرطيل في حديثه مع "العربي الجديد"، أن المفوضية ستدخل في مساءلة أمام القضاء للإجابة عن سؤال كيف قبلت أوراق ترشح القذافي بما فيها شهادة براءته الجنائية، بل وأكثر من ذلك "سيجر قبول المفوضية أوراق حفتر إلى سؤال يتعلق بمدى قدرة الجهات العدلية والقضائية على إثبات مخالفة المرشحين للشروط المنصوص عليها، ومنها منحهم شهادات براءة جنائية خلافاً للمتعارف عليه في الرأي العام".

ويتفق كثير من المراقبين على أن عودة القذافي إلى المشهد وترشحه للانتخابات، من تجليات تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، خلال مؤتمر صحافي عقب انتهاء مؤتمر باريس الأسبوع الماضي، بشأن ضرورة إشراك كل القوى السياسية في الترشح للانتخابات، بمن فيهم أنصار نظام معمر القذافي.

خلافات سياسية
وإزاء كل تلك الشكوك التي تواجه قدرة المفوضية على إجراء الانتخابات، تبدو القضية أكثر تعقيداً، فعلى الرغم من طابع الخلاف القانوني الذي يغلّف الاعتراضات في الظاهر، إلا أن الحسابات السياسية هي التي تقف وراءها، فلم يخفِ المشري اعتراضه على المادة التي تسمح لمزدوجي الجنسية بالترشح، بما يعني اعتراضه على ترشح خليفة حفتر، ليهدد بـ"مقاطعة الانتخابات إذا ترشح مجرم الحرب"، بحسب أحد تصريحاته. قابل ذلك بيان لـ22 حزباً وتكتلاً سياسياً، موالية لمعسكر شرق البلاد، مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، عبّرت فيه عن اعتراضها على أي محاولة لتعديل المادة 12 الخاصة بضرورة ترك المرشح للرئاسيات مهامه إذا كان يشغل وظيفة العامة قبل موعد الانتخابات بـ"ثلاثة أشهر". وكان جلياً أن سعي تلك القوى السياسية لإبقاء هذه المادة على حالها يهدف إلى عدم فتح المجال أمام خصومها السياسيين، مثل رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، على اعتبار أن حفتر ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح يتوفر فيهما هذا الشرط، إذ تركا منصبيهما منذ سبتمبر/أيلول الماضي، فيما مضى أكثر من الوقت المحدد لترك الدبيبة والمشري لوظيفتيهما للترشح. وذكّر بيان هذه الأحزاب بـ"التعهد الذي وقّعه شاغلو المناصب التنفيذية للبعثة الأمم المتحدة وملتقى الحوار والشعب الليبي في 4 فبراير/شباط 2021 بشأن عدم الترشح للانتخابات التي تلي المرحلة التمهيدية".

وزاد من قتامة المشهد الانتخابي فشل مؤتمر باريس، الذي شارك فيه عدد من قادة وممثلي الدول المعنية بالملف الليبي يوم الجمعة الماضية، في التوافق حول مخرجات بشأن ملف الانتخابات، عكسه الاختلاف الواضح بين مضمون البيان الذي شدد على ضرورة إجراء الانتخابات في 24 ديسمبر المقبل، وتصريحات بعض المشاركين فيه، لا سيما من الجانبين الإيطالي والروسي اللذين طالبا بضرورة إجراء الانتخابات على أساس قوانين انتخابية متوافق عليها. وزاد الجانب الروسي على ذلك بضرورة إشراك أنصار النظام السابق في عملية التوافق على القوانين الانتخابية.

شعبان بن نور: نتائج مؤتمر باريس جاءت سلبية، فقد زادت من فرص التدخّل الدولي في العملية الانتخابية

ويأخذ رئيس حزب الائتلاف الإصلاحي، شعبان بن نور، في حديث مع "العربي الجديد"، على المؤتمر ربطه أجندة ملف الانتخابات بملف المرتزقة والقوات الأجنبية الشائك، ما جعل أطرافاً هامة في الملف الليبي تعزف عن المشاركة في المؤتمر بفاعلية وبمستوى عالٍ من التمثيل الدبلوماسي، كتركيا وروسيا ودول أخرى، بل يعتبر بن نور أن نتائج المؤتمر "جاءت سلبية، فقد زادت من فرص التدخّل الدولي في العملية الانتخابية، خصوصاً الأطراف التي يخدم حسم الوضع السياسي في ليبيا مصالحها".

وفي سياق تدليله على محاولة أطراف مختلفة توجيه العملية الانتخابية لمصالحها، يلفت بن نور إلى قضية صلاحية القوانين الانتخابية من عدمها لغير الطبقة السياسية المتنفذة في المشهد، قائلاً "إذا لم تكن تلك القوانين في صالح هذا الطرف وفي غير صالح ذلك، فماذا عن غيرهم من القادمين من شرائح الشعب الأخرى الراغبين في الترشح للانتخابات؟ بلا شك أصبحت قضية العملية الانتخابية قضية المتنفذين في المشهد فقط".

لكن الأكثر مفاجأة في مسار تعقيدات العملية الانتخابية، هو تيقظ الأطراف الرافضة للقوانين الانتخابية على أهمية وجود قاعدة دستورية للانتخابات، فقد طالبت العديد من القوى المجتمعية والسياسية في بياناتها الرافضة لترشح القذافي بضرورة توضيح "قاعدة دستورية متفق عليها"، وانتقال الخلاف من القوانين الانتخابية إلى "مستوى أرفع للمطالبة بقاعدة دستورية لم تكن في حسبان من دفعوا بسيف الإسلام القذافي"، بحسب ما يرى بن نور، الذي يفسر الظهور المفاجئ لنجل القذافي بأنه خطوة تهدف لخلط كل أوراق المشهد لصالح أطراف دولية دفعت به إلى الانخراط في المشهد لزيادة مستوى الإرباك. ويضيف "وجود قاعدة دستورية من شأنه أن يوضح شكل الدولة ونظامها ويتيح هامشاً للمناورة من خلال اعتماد النظام البرلماني مثلاً أو النظام المختلط للحد من الصلاحيات المفتوحة التي يسعى قانون الانتخابات الرئاسية الحالي منحها لرئيس الدولة بعد أن تم تفصيله على مقاس شخصيات بعينها".

وطاولت الخلافات السلطة التنفيذية أخيراً، بين رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي ورئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، فبعد أن كشفت مصادر ليبية رفيعة، في تصريحات سابقة لـ"العربي الجديد"، عن نشوب خلافات بينهما حول القوانين الانتخابية على هامش مشاركتهما في مؤتمر باريس، عاد الرجلان إلى ليبيا محملين بمواقف خلافية. ومقابل تأكيد المنفي ضرورة إجراء الانتخابات في موعدها المحدد في 24 ديسمبر، أعلن الدبيبة عن رفضه للقوانين الانتخابية ووصفها بأنها "قوانين معيبة ومفصلة على قياس أشخاص". وبشكل مخالف للمادة 12 التي تمنعه من الترشح للانتخابات، كونه تجاوز الموعد المحدد لترك وظيفته الحكومية، إلا أن الدبيبة أكد أنه سيعلن عن ترشحه للانتخابات "في اللحظة الحاسمة".

سيناريوهات متوقعة
وإزاء تراكم كل هذه الخلافات وتشعب المواقف وحدتها، يبدو فشل العملية الانتخابية من أقرب السيناريوهات القائمة، خصوصاً أن خلافات المنفي والدبيبة تزامنت مع تصعيد كبير في غرب البلاد بإعلان خمس بلديات غرب البلاد، هي الزاوية والخمس وزليتن ومسلاته ومصراته، عن إقفال أبواب المراكز الانتخابية فيها احتجاجاً على سير العملية الانتخابية، بالتوازي مع بيانات مكونات اجتماعية في مصراته والخمس طالبت بضرورة إجراء الانتخابات وفقاً لـ"قاعدة دستورية متفق عليها".

لكن الباحث الليبي في الشأن السياسي الجيلاني ازهيمة، يرى في حديث مع "العربي الجديد"، أن النتائج المترتبة على فشل العملية الانتخابية قد لا تكون في صالح حسابات ومصالح دول متدخلة في ليبيا، وأخطر تلك النتائج عودة مشهد الاحتراب الذي أسفر عن العملية الانتخابية عام 2014 وأنتج حالة من الانقسام الحكومي، ولهذا يرى ازهيمة أن سيناريو آخر أكثر رجحاناً قد يندفع إلى واجهة الأحداث ممثلاً في انخراط دولي أكبر يتم بموجبه تأجيل الانتخابات إلى آجال أخرى كما هي الحالة في بلدان أخرى تعيش حالة صراع مشابهة للحالة الليبية. ويضيف: "إذا تم إجراء الانتخابات ستكون نتائجها مرفوضة من أي طرف لا تكون في صالحه، وعندها سيصبح المشهد أسوأ مما حدث في عام 2014"، متابعاً "في ظل توازن القوى الذي أحدثه التدخل التركي مقابل التدخل الروسي وفشل الحلول العسكرية التي دعمتها دول الثورات المضادة، لن يكون سيناريو الاحتراب موجوداً، لكن الأسوأ منه أن الظروف مهيأة حالياً لشبح التقسيم".