مرّت الانتخابات الرئاسية التي شهدتها بوليفيا، أول من أمس الأحد، حتى الساعة بهدوء. وعلى عكس العام الماضي، حين ترافقت الرئاسيات في هذا البلد، مع أحداث عنف خلّفت 30 قتيلاً، وأفقدت اليسار في أميركا اللاتينية مجدداً أحد معاقله الأساسية، يبدو أن الفوز الكاسح، الذي يرجح أن يكون هذا اليسار قد استعاده، لن يعيد صخب 2019، أقّله في الشارع. هذا ما أوحى به تصريح الرئيسة المؤقتة جانين آنييز، بدعوتها، ليل الأحد، أياً من كان فائزاً، لتغليب مصلحة البلاد. وقد يكون تصريح آنييز، ليس فقط إقراراً منها باستعادة اليسار للسلطة، مع فوز وزير الاقتصاد السابق لويس آرسي كاتاكورا، بل بفشلها الذريع في إدارة أزمة وباء كورونا، والتي قد تكون العامل المباشر في عدم تمكنها من حصد تأييد شعبي لترشحها للرئاسة، ولاحقاً خسارة مرشحي اليمين.
شهدت بوليفيا خلال عام تراجعاً متسارعاً في اقتصادها، وأعلى معدل لإصابات كورونا في العالم نسبة إلى عدد السكان
لكن في بلدٍ لا يزال فيه إيفو موراليس، "الهندي الأحمر" - وهو ليس مصطلحاً عنصرياً - محبوباً بقدر جدليته في سنوات حكمه الأخيرة، بحكم التركيبة الشعبية من أكثرية "المستيزوز" (خليط من المواطنين الأصليين والبيض)، وبأكبر نسبة في جنوب القارة الأميركية من السكان الأصليين، اختارت بلاد "الأنديز"، التصويت على الأرجح لـ"اقتصاد" موراليس نفسه، عوضاً عن الذهاب نحو اقتصاد "الانتحار"، بحسب تداعيات أشهر قليلة من حكم المحافظين. وكانت شهدت بوليفيا منذ توجه موراليس في نوفمبر/تشرين الماضي، إلى المنفى (المكسيك ثم الأرجنتين)، تراجعاً متسارعاً في اقتصادها، وأعلى معدل لإصابات كورونا في العالم نسبة إلى عدد السكان (حوالي 12 مليون نسمة)، ومن الأكثر تضرراً. كما طبعت حكومة آنييز، بشبهات فساد، في قضية شراء أجهزة تنفس اصطناعية من إسبانيا.
هذه العوامل قد تكون من بين الأسباب المباشرة التي أدت إلى فوز مرشح "الحركة نحو الاشتراكية"، لويس آرسي، بانتخابات يوم الأحد الماضي، والتي لم تعلن نتائجها بشكل نهائي ورسمي بعد. وجاء فوز آرسي (57 عاماً)، بنسبة 52 في المائة، حتى الآن، وفقاً لإحصاءات فرز مراكز الاقتراع، فيما أعلنت السلطات الانتخابية إمكانية تأخر إعلان النتيجة حتى أسبوع. لكن هذه النسبة، مقابل حوالي 34 في المائة لمرشح اليمين، الرئيس السابق كارلوس ميسا، تعني تجنب البلاد الذهاب إلى دورة ثانية.
ووعد آرسي، فور إعلان فوزه غير الرسمي، بإرساء لغة تصالحية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، بعد حملة سادتها الاتهامات المسبقة بين الطرفين المتنافسين، بالتحضر لتزوير الانتخابات، خصوصاً بعد توجه وزير الداخلية النافذ في حكومة آنييز، أرتورو موريلو، إلى واشنطن. لكن الأميركيين، المحبطين بلا شك من نتيجة الاقتراع الرئاسي في بوليفيا، أكدوا مسبقاً أنهم سيتعاونون مع أي من المرشحين، حال فوزه، بحسب ما أكد مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية قبل أيام لصحيفة واشنطن بوست.
وليس آرسي، من حيث البناء الأكاديمي، بعيداً كثيراً عن "الدمقرطة" الأميركية، أو الغربية، الاقتصادية، فهو تخرّج في الاقتصاد، من جامعة بريطانية، وحاضر كثيراً في الولايات المتحدة، بينما مزج اقتصاد موراليس، الذي أداره آرسي لسنوات، النظام الاشتراكي، بسياسات صديقة لأرباب الأعمال. لكنه يعد من المقربين جداً من موراليس، وظلّه الاقتصادي. وعلى الرغم من محاولته أخيراً النأي بنفسه عن الرئيس الاشتراكي السابق خلال الحملة، إلا أن طيف الأخير كان حاضراً بقوة في يوم الاقتراع، بعدما اعتُبر "المهندس" الفعلي لحملة وزير اقتصاده. وقال آرسي، في مقابلة سابقة مع صحيفة "واشنطن بوست"، إنه في حال فوزه، فـ"لا شيء يمنع الكامراد إيفو (الرئيس السابق الذي منع من الترشح للانتخابات)، من العودة للبلاد، لكن سيكون عليه مواجهة بعض التهم"، فيما يخشى اليمين، إذا ما أعلن فوز آرسي رسمياً، أيضاً ملاحقة رموزه الذين برزوا منذ عام، لاسيما على خلفية إدارة الأزمة الصحية، وكذلك بعض القيادات العسكرية.
وعد آرسي بحكومة وحدة وطنية ورحبّ بعودة موراليس
وشغل لويس ألبرتو آرسي كاتاكورا، منصب وزير الاقتصاد والمالية العامة في بوليفيا، منذ بداية حكم موراليس في 2006. وهو حاصل على شهادة الدراسات العليا في الاقتصاد من جامعة فارفيك في بريطانيا عام 1997، وقبلها على شهادة "الليسانس" في الاقتصاد من جامعة سان أندريس في لاباز، عام 1991. كما تخرج كمحاسب من معهد التعليم المصرفي في بوليفيا في 1984، وبنى معظم حياته المهنية قبل الوزارة في مصرف بوليفيا المركزي (حتى 2006)، حين تبوأ وزارة الاقتصاد والمالية. حاضر آرسي في عدد من الجامعات الأوروبية والأميركية (هارفرد، جورجتاون وكولومبيا)، وله مؤلفات ومقالات اقتصادية عدة، كما حصل على شهادات فخرية عدة من جامعات وطنية.
ويعد آرسي متكلماً جيداً، وهو عرف بهندسته لـ"الأعجوبة البوليفية" (الاقتصادية)، في عهد موراليس. ومقارنة مع عودة البلاد خلال عام نفي الأخير إلى "التوحش" الليبرالي، بعدما ضربت البطالة نسبة قياسية (أكثر من 11 في المائة مقارنة بـ3 في المائة العام الماضي)، وتوقع ارتفاع معدل الفقر بنسبة 7 في المائة نهاية العام، تبدو عودة اليسار، مطلباً شعبياً، لكن آرسي تحدث أول من أمس عن استعادة بوليفيا لطريق الديمقراطية، مع وعد بتصحيح أخطاء الحكومة الاشتراكية السابقة، و"إكمال الحلم".
وكان آرسي قد أشرف خلال توليه وزارة الاقتصاد على تأميم قطاع صناعة الهيدروكربون، ووضع عددا من البرامج الاجتماعية، والاعتراف بقطاع الاقتصاد "الاشتراكي الشعبي"، مع رفع ملحوظ للحد الأدنى للأجور. وفي مقابلة له قبل الانتخابات مع موقع "جاكوبين"، رأى آرسي أن بلاده اختبرت "النيوليبرالية" لأكثر من 20 عاماً، لكن نتائجها جاءت "كارثية"، منتقداً توجه حكومة اليمين الانتقالية إثر الإطاحة بموراليس، إلى "إلغاء الاستثمار الاجتماعي، وشلّ الشركات الوطنية، ما أدى إلى تدمير الناتج الوطني". كما انتقد "تركيز المداخيل في أيدي نخبة قليلة، ما جعل البوليفيين يحصدون في جعبهم، وفي معداتهم، نتائج انقلاب ما حصل أواخر العام الماضي"، واعداً بحال فوزه بإعادة سياسة توزيع الدخل التي انتهجت منذ بداية 2006. وقال آرسي، المعروف بـ"لوكو"، إنه فور عودته من المكسيك للمشاركة في الانتخابات، واجه ملاحقات عدة، كما تعرضت عائلته للتهديد، لكنه أكد أن البوليفيين سيدركون "أننا مصصمون على النجاح".