ما من شك في أن الجرائم الفظيعة للاستعمار الفرنسي في الجزائر، من قتل وتجهيل ونهب للثروات، تحتاج إلى أكثر من اعتراف واعتذار، ولقيمة باهظة من التعويضات. لكن بشيء من المنطق والواقعية السياسية، ما الذي يمكن أن يدفع فرنسا لأن تُقدم على الاعتذار أو تقديم تعويضات، والحال هذه؟
وبلد بحجم قارة كالجزائر، يستورد القمح والحليب والدواء من المستعمر القديم وشركائه، ليس ممكناً له أن يستصدر اعتذاراً من دولة الاستعمار عن جرائمها. وإذ ما زالت الفرنسية هي اللغة الرسمية للحكم وفي المؤسسات الحكومية والمعاملات والخدمات، في فاتورة الماء والكهرباء وورقة تأمين السيارة، ولغة الإدارة والوزارات، وتظل طوابير الجزائريين أمام السفارة طلباً للتأشيرة، وأغلب المسؤولين يعالجون في المستشفيات الفرنسية وفي الخارج، فلن يكون هناك ما يدعو باريس لأن تفعل ذلك.
قد يكون الكثير من الظروف الموضوعية التي ورثتها الجزائر مباشرة بعد الاستقلال، وأولويات بناء الدولة عطلت الدولة عن مقارعة فرنسا بشأن مطلب الاعتراف والاعتذار والتعويض عن جرائم الاستعمار. لكن وجود نخبة حاكمة في الجزائر، على مر ستة عقود من الاستقلال، لم تنجح في تحويل مقدرات البلد إلى حالة ازدهار تنموي. نخبة متماهية مع "عولمة النسيان" لم تحم الماضي ولم تؤسس لحاضر ولم تستشرف المستقبل، بل تواطأت، في فترات سياسية، في إفشال كل محاولة جادة لكتابة تاريخ البلد المنتصر، ولم تحسن توظيف الصورة والسرد السياسي والثقافي والسينمائي حتى لمكاشفة العالم عن فظاعة فرنسا الاستعمارية (الولايات المتحدة خسرت حرب فيتنام على الأرض، لكنها حولت الحرب إلى انتصار بفضل "رامبو" سينمائي) منح ذلك لفرنسا الوقت الكافي لتعيد ترتيب ملفات الذاكرة على نحو يغير موازين التفاوض.
من الضروري الانتباه إلى أن هناك معادلة جديدة في ملف الذاكرة بين الجزائر وفرنسا. بكل أسف، نجحت باريس الآن في تجميع قطع وملفات، وتركيب مطالب مكافئة للملفات والمطالب الجزائرية. وأصبح لديها مقابل ملف الشيخ العربي التبسي والمفقودين الجزائريين، ملف مفقودين فرنسيين تطالب بكشف مصيرهم. وفي مقابل ملف اغتيالات علي بومنجل وموريس أودان وغيرهم، صارت تطالب بملف اغتيالات الأوروبيين. وفي مقابل مجازر الثامن من مايو/أيار 1945، صار لديها ما تطالب به عما تسميه "مجزرة وهران" في حق الأوروبيين عشية الاستقلال. ومقابل التعويضات استحدثت باريس ملف ممتلكات "الأقدام السوداء" (المستوطنين الأوروبيين) واليهود.
وإذا أضيف كل ذلك إلى الاختلال الاقتصادي الحاصل بين البلدين في موازين القوة، فإن معركة الحق التاريخي للجزائريين، على عدالتها، ليست سهلة بالمطلق. لا يكفي أن يكون الحق التاريخي عادلاً ما لم تحمِه القوة، والقوة في الوقت الراهن ذات معنى اقتصادي وسياسي، والسياسة لا تحابي أحداً، والتاريخ كذلك. انتزعت الثورة الجزائرية اعترافاً فرنسياً بها كحركة تحرر، عندما أوجد الثوار لأنفسهم مقومات الإيمان بالحق والقوة بالوسيلة والندية في الموقف. ويوم يمتلك بلد بحجم الجزائر المعرفة، وما يكفي من قمحه وينتج حليب أطفاله ودواء مرضاه وسلاح جيشه، فإن اعتذار الكولونيالية الفرنسية تحصيل حاصل... ويومئذ يفرح المؤمنون.