لماذا قرر المصريون عدم الاستجابة لدعوات التظاهر مجهولة المصدر في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني؟ سؤال حملته "العربي الجديد" إلى مواطنين وسياسيين في مصر، في محاولة لاستكشاف حقيقة ما جرى في هذا الموضوع الذي شغل الأوساط الرسمية والسياسية والشعبية على مدار الأيام الماضية.
يقول سياسي مصري بارز، وهو قيادي سابق في أحد الأحزاب الكبرى، إن المصريين "يعرفون جيداً كيف يميزون بين ما هو جاد وحقيقي، وما هو مزيف وغير واقعي. ويبدو أن ما حدث في ما يتعلق بدعوات التظاهر، أن الجماهير فطنت إلى أن هناك صراعاً حول السلطة في البلاد، ولذلك فضّل الناس الاعتزال والتزام البيوت، وهي طريقة من طرق المقاومة السلبية التي مارسها الشعب المصري في أوقات معينة من التاريخ".
محمد سامح: غياب عنصر المفاجأة أفقد هذه الاحتجاجات أحد عناصر النجاح
ويضيف أن "الشعوب لديها قدر من الذكاء تستطيع من خلاله أن تميز طريقها الصحيح. ويبدو أنه في هذه الحالة، التي اتضح من خلالها وجود صراع حول السلطة، أطرافه قد تكون خارجية وداخلية في الوقت نفسه، فضّل المصريون أن يتركوا الساحة خالية، وهو ما تجسد في مشهد الشوارع الفارغة يوم الجمعة الماضي".
النظام استنفر قواه لمواجهة دعوات مجهولة المصدر
ويقول السياسي إن "النظام الذي استنفر كل قواه الأمنية لمواجهة دعوات "مجهولة المصدر"، أثبت أنه يعيش أزمة حقيقية تتمثل في انفصاله عن الواقع وعن الجماهير، وأنه يخشى من غضب الشارع، رغم أن الأخير لم يستجب لتلك الدعوات".
ولقيت الدعوة للتظاهر تجاوباً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى حد أنها دفعت السلطات، طوال الأسبوعين الماضيين، للقيام بعمليات اعتقال واسعة في صفوف نشطاء وسياسيين وصحافيين ومحامين، بحسب شهود عيان.
وتمركزت قوات أمن مدججة بالأسلحة في كمائن بالميادين الرئيسية في القاهرة وعواصم الأقاليم، فيما مشطت الشوارع الرئيسية مواكب شرطية بسيارات مصفحة، دأبت طوال سيرها على إطلاق إشارات صوتية لمرورها "سارينة"، اعتبرها مواطنون "تخويفاً لهم من النزول للتظاهر".
وقال نشطاء إنهم "نزلوا إلى الشوارع ولم يجدوا غير الشرطة الرسمية في الميادين والسرية على المقاهي"، مؤكدين أنهم تعرضوا في كمائن شرطية للتفتيش عدة مرات خلال سيرهم.
محمد سامح حمل رسوماته ومضى في شوارع وسط القاهرة عقب صلاة الجمعة الماضية، عابراً الكمائن الأمنية التي كان يستوقفه ضباطها لتفتيشه وسؤاله عن هاتفه المحمول، واستجوابه عن سر تجوله في الشوارع في هذا الوقت "المريب"، المتزامن مع دعوة واسعة الانتشار للاحتجاج، في وقت انعقاد مؤتمر المناخ بمدينة شرم الشيخ.
أضمر سامح، بنزوله، المشاركة في أي تجمعات احتجاجية ربما تكون قد احتشدت في أي منطقة، فإن لم يجد، فعلى الأقل يكون قد "أبرأ ذمته أمام نفسه من خزي التخاذل" على حد تعبيره.
سيطرة الشرطة على الأرض
يروي سامح، لـ"العربي الجديد"، أنه عاين كيف سيطرت الشرطة على الأرض، في ظل عجز وتشتت وعشوائية الناس، وكان كل شرطي قابله يعمل وكأنه يدافع عن نفسه لا عن النظام، فـ"مرارة هزيمته أمام الشعب في ثورة يناير لا تزال عالقة في حلقه"، فيما المواطن خائف من المجهول المحدق بمصيره الشخصي، ومصائر أفراد عائلته.
ويعرب سامح، وهو رسام شاب، عن اعتقاده بأن غياب عنصر المفاجأة أفقد هذه الاحتجاجات أحد عناصر النجاح، خلافاً لما جرى في احتجاجات 2019 و2020. ويضيف: "تعلمت السلطة من أخطائها، فيما يجتر الناس أخطاءهم بحذافيرها"، وهي "الأخطاء التي أدت إلى ما يعانيه الجميع، مع اعتقال ذويهم وترويع أهاليهم، في ظل انعدام تكافؤ القوى بين الطرفين".
من جهته، لم ييأس نبيل، وهو موظف حكومي، من إمكانية أن تتغير المعادلات فجأة، رغم إحباطه من العودة إلى منزله آخر النهار من الشوارع الفارغة من دون أن يفرغ طاقة غضبه في هتاف أو مسيرة احتجاجية.
لا مردود إيجابياً لتحركات الناس
ويقول نبيل، في حديث مع "العربي الجديد"، إن أسباب إحجام غيره عن التظاهر معروفة، وتتلخص في خوف الناس من ألا يكون لتحركاتها مردود إيجابي، فيجرى استخدامها كما جرى في 30 يونيو/حزيران 2013، للإتيان ببديل يمثل تجديداً لدماء النظام وتبديلاً للوجوه مع استمرار السياسات نفسها.
محمد عصام الدين: لا يمكننا الحكم أساساً على مستقبل الحراك الجماهيري بناء على تلك الدعوات
أما محمد عصام الدين، وهو أحد الشباب الذين شاركوا في ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، فيقول، لـ"العربي الجديد"، إنه "لا يمكن اعتبار ما جرى يوم الجمعة الماضي مقدمة لشيء ما، كما لا يمكننا الحكم أساساً على مستقبل الحراك الجماهيري بناء على تلك الدعوات، لأن الأحكام يجب أن تكون مبنية على شيء تم إنجازه بالفعل. لكن "ثورة 11-11"، كما كان يطلق عليها البعض، لم تحدث من الأساس".
ويضيف عصام الدين أن "عدم استجابة الجماهير لتلك الدعوات، ليس معناه "فشل الثورة"، لأن التحرك الجماهيري قد يحدث في أي وقت، وخصوصاً في ظل استمرار مسبّبات الغضب، التي تتمثل في الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد، بالإضافة إلى حالة الانسداد السياسي، التي تتفاقم يوماً بعد يوم نتيجة استمرار سياسة الاعتقال والتنكيل بالمعارضين".
أما أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية عصام عبد الشافي، فيعتبر أن الحديث عن فشل أو عدم فشل دعوات 11 نوفمبر، يرتبط بعدة اعتبارات، أولها هل كان لهذه الدعوات إيجابيات؟ وثانيها ما الذي فشلت فيه؟
ويرى عبد الشافي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الدعوة كانت لها إيجابيات لأنها خلقت نوعاً من الاستنفار السياسي والإعلامي والأمني لدى النظام، الذي حشد قواته وأجهزته ومؤسساته، عبر كل المستويات، للتعاطي مع هذه الدعوات، وقام بتفتيش هواتف الآلاف واعتقال المئات، وإغلاق الميادين والشوارع الرئيسية".
ويتابع: "كانت لهذه الدعوات إيجابياتها أيضاً على تيارات المعارضة السياسية، التي بدأت في التواصل من جديد، وتنظيم العديد من اللقاءات والفعاليات خارج مصر، وأصبحت أكثر اهتماماً نسبياً بتحولات الأوضاع في مصر، وطرح أطر للتفكير وبدائل للتغيير، وهو ما لم يكن قائماً خلال العامين الماضيين".
فشل الهدف الكبير: خروج الناس للميادين
ولكن في المقابل، يقول عبد الشافي، فشلت هذه الدعوات في تحقيق الهدف الكبير منها، وهو خروج الناس إلى الميادين، وبالتالي تحريك المياه الراكدة داخلياً كخطوة لإسقاط النظام.
وهذا الفشل مرده إلى تفسيرات عدة، بتقدير عبد الشافي، أولها الوزن النسبي لأصحاب الدعوات، وامتناع التيارات والحركات السياسية الكبرى عن الدعم والمساندة. وثانيها، بحسبه، العشوائية في الخطاب السياسي والإعلامي الذي قدمه بعض المحسوبين على هذه الدعوات. وثالثها القبضة الأمنية القوية التي يستخدمها النظام، ورابعها عدم وضوح الرؤية للكثيرين حول مرحلة ما بعد التظاهرات. وخامسها، الاعتماد في الدعوات على شبكات التواصل فقط، من دون أن تكون هناك مكونات صلبة على الأرض تشكل الحاضنة الشعبية لهذه الدعوات.
إلا أنه في الأخير، وفق عبد الشافي، فإن عملية التغيير السياسي هي عملية تراكمية ومستمرة، وكل إجراء فيها ينال من بنية الاستبداد هو خطوة على طريق تفكيك هذه البنية على المدى المتوسط والبعيد، لأن هذا النظام بالأساس يمتلك في داخله مكونات فشله وسقوطه.
من جهته، يرى القيادي في الحركة المدنية مجدي حمدان أن السبب في انعدام الاستجابة يكمن في "غياب قيادة للحراك تراكم وتستثمر حالة الغضب، مع محاولات البعض استنساخ تجارب ثورة يناير 2011، متغافلين عن أدوار التاريخ القريب، ممثلاً في قيادة الجمعية الوطنية للتغيير الحراك والإسهام في إشعاله".
عصام عبد الشافي: الدعوة خلقت نوعاً من الاستنفار السياسي والإعلامي والأمني لدى النظام
ويعرب حمدان، في حديث مع "العربي الجديد"، عن دهشته من "اعتقاد البعض بإمكانية وقوع ثورة بموعد محدد مسبقاً"، موضحاً أن "التنادي ليوم 25 يناير 2011 لم يكن دعوة لثورة، وإنما للاحتجاج على ممارسات الشرطة في عيدها السنوي، وتحولت شرارة التظاهرات لاحتجاجات واسعة لاحقاً".
ويستنكر أن تأتي دعوات من الخارج لتظاهرات تعرّض المحتجين لأخطار شتى، علاوة على غموض توجهات الداعين لها، ما دعا الجماهير للإعراض عنها، مؤكداً أنه "إن لم يأت الأمر من الداخل، فلا اعتبار ولا قبول له".
ويقول إن الخبرات التاريخية للمصريين في معاناتهم مع كل الحكّام والمحتلين والمستبدين تقول إن "تجاهل" الأمر كله يكون مفيداً أحياناً، عملاً بحكمة "فلندع الفساد يتآكل ويتحلل ذاتيا"، مؤمنين بأن "كل شيء مقدر له".
ويوضح أن "الثورة الافتراضية" التي سبقت هذا اليوم على مواقع التواصل تؤكد أن هناك "انفصالاً" بين الواقعين الافتراضي والحقيقي، ورغم ذلك، فقد تعاطت السلطة مع الأمور بجدية بالغة، واستعدت بأقصى طاقتها، نظراً لحساسية التوقيت المتزامن مع حضور الرئيس الأميركي جو بايدن قمة المناخ في شرم الشيخ، وهو كان فعلاً ذا تأثير لو تظاهر المصريون فيه.
مشكلة تقييم دعوات التظاهر
الناشط السياسي شادي الغزالي حرب كان له رأي مشابه، عبّر عنه من خلال منشور على صفحته على "فيسبوك"، إذ قال إن هناك مشكلة كبيرة في طريقة تقييم دعوات التظاهر حالياً، وهي الحكم عليها من منظور عمره أكثر من عشر سنوات، وسواء المعارضون أو المؤيدون أو حتى السلطة، فإن جميعهم يقع في هذا الخطأ في التعامل معها، من دون أن يستوعب أننا تجاوزنا هذه المرحلة.
ويرى الغزالي حرب أنه لا فرصة في الوقت الحالي لنجاح أي دعوة تظاهر، لأنه لم يعد هناك تنظيمات على الأرض تستطيع أن تبلور تلك الدعوات وتحولها إلى تظاهرات مؤثرة، وذلك يمكن أن يبدو وكأنه انتصار للسلطة وخنوع من جانب الشعب. لكن الحقيقة من وجهة نظره غير ذلك، فالسلطة نجحت فعلاً في منع التظاهرات "المنظمة"، لكن ذلك يعني أنها أصبحت أكثر عرضة للتظاهرات العشوائية، وهذا أخطر بكثير عليها وعلى الناس.