لغز "متلازمة هافانا": لا اتهامات في تقرير الهجمات الصوتية

08 ديسمبر 2020
أعيد افتتاح السفارة الأميركية في هافانا عام 2015 (فن كروتزمان/Getty)
+ الخط -

تنتظر السفارة الأميركية في هافانا، الواقعة على جادة ماليكون المشاطئة لبحر ماليكون، تنصيب الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن، لمعرفة مصير موظفيها ودبلوماسييها الذين سحبتهم بلادهم من البعثة الأميركية في كوبا، وقلصت عددهم كثيراً، في العام 2017، بعدما أصيب عدد منهم بـ"أعراض غامضة"، منذ أواخر  2016 . وكان حصل ذلك بعد عام شهد إعادة افتتاح السفارة الأميركية في كوبا، إثر عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، بعد انقطاع دام حوالي 50 عاماً. وفي الواقع، يتقاطع كلّ "شيء"، في حادثة الأعراض الغامضة، التي أطلق المصابون بها في بادئ الأمر لقب "الشيء" على ما شعروا به من أعراضٍ كانت صعبة التفسير، قبل أن تلّقب بـ"متلازمة هافانا". الإحساس بهذا "الشيء"، لم يُصب فقط دبلوماسيين أميركيين، عاملين في هافانا، كانوا مُراقبين جيداً من قوات خاصة كوبية، بل نظراء كنديين لهم، حتى أن دبلوماسيين أميركيين في الصين وروسيا شعروا بها أيضاً بحسب تقرير مطوّل لمجلة "فورين بوليسي". كما نقل موقع "أن بي سي" عن مارك بوليمروبولوس الذي عمل على مدار 26 عاماً مع وكالة المخابرات المركزية، بما في ذلك تجنيد عملاء، قوله إنه لم يشعر بالخوف طوال سنوات عمله بقدر الأعراض التي أصابته في غرفة فندق في موسكو في ديسمبر/كانون الأول 2017. ووصف ما واجهه قائلاً: "لم أستطع الوقوف. كنت أسقط. كان لدي شعور لا يصدق بالغثيان وطنين في أذني. كنت بصراحة مرعوباً". وأوضح أنه منذ الحادثة لم يشعر أبداً أنه على ما يرام مرة أخرى، وأصبح يعتقد أنه من بين الدبلوماسيين والجواسيس الأميركيين الذين يعانون من "متلازمة هافانا". وأشار إلى أنه أصبح بعد الحادثة منهكاً جداً فضلاً عن معاناته الدائمة من الصداع المزمن حتى أنه اضطر إلى التقاعد من وظيفته في العام الماضي، لكنه إلى الآن غير متأكد مما أصابه. كذلك تحدث موقع "أن بي سي"، عن شعور دبلوماسيين أميركيين عاملين في أوروبا، بها أيضاً، خلال تلك الفترة.

الترددات اللاسلكية الموجهة هي أكثر التفسيرات المقبولة

لكن في هافانا، التي تخترقها جيداً أجهزة الاستخبارات الصينية، والروسية، يتقاطع التاريخ الذي يعود إلى أجواء الحرب الباردة، مع السياسة، ومع تفسيرات علوم الاجتماع والطب والنفس، لتحديد ماهية وأسباب تلك الأعراض، التي وصفت بداية بأنها ناجمة عن "سلاح صوتي"، وكانت كثيراً ما تُشبه سماع أصوات الصراصير. وبعدما خلص تقرير حكومي جديد، أفرجت عنه وزارة الخارجية الأميركية أخيراً، إلى تفسير محتملٍ للأعراض، من دون تقديم أجوبة قاطعة، أو توجيه الاتهام إلى أيادٍ محددة، بل تأكيد طلب استمرار البحث، وتنبيه واشنطن إلى مدى عجزها عن حماية دبلوماسييها، قد يكون من المفيد الإشارة أيضاً إلى توقيت الكشف عن التقرير، مع قرب مغادرة الرئيس الأميركي الخاسر في انتخابات الرئاسة، دونالد ترامب، البيت الأبيض. وكانت إدارة ترامب، قد عارضت بشدة الانفتاح الذي شهدته العلاقات الأميركية الكوبية، في عهد سلفه باراك أوباما، وأعادت معظم العقوبات المفروضة على النظام الكوبي، والتي صبغت عقوداً من الابتعاد بين البلدين، كأحد أهم مظاهر الحرب الباردة. وإذا كانت إدارة أوباما قد احتاجت أربع سنوات من المباحثات التي جرت بسرّية تامة، أولاً، وسهّلتها أوتاوا، لعودة العلاقات، فقد احتاجت إدارة ترامب أيضاً ثلاث سنوات تقريباً للخروج بتقرير حول "المتلازمة" الغامضة. وإذا كانت أصابع الاتهام الأميركية، توجه إلى كوبا والصين وروسيا، ولا سيما الأخيرة، حيث تعود ظلال الحقبة السوفييتية إلى الذاكرة، إلا أنه من الجدير ذكره أيضاً أن "لوبي" قوياً داخل الولايات المتحدة، لا سيما من أصول كوبية، وفي الكونغرس، ومن المحافظين الجدد، لا يزال يرفض أي تطبيع مع النظام الكوبي، كما آخر قوياً أيضاً، وبيروقراطياً صلباً، في هافانا، كان "آخر من يعلم" حول محادثات راوول كاسترو والأميركيين، وكان متحسباً جداً لأن تعود وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه" إلى هافانا.

متلازمة هافانا
وعادت "متلازمة هافانا"، وهي مجموعة من الأعراض الغامضة، أصيب بها دبلوماسيون أميركيون وكنديون، بين العامين 2016 و2018، في سفارتي بلادهم في العاصمة الكوبية، هافانا، إلى دائرة الضوء أخيراً، بعدما أفرجت وزارة الخارجية الأميركية، عن تقريرٍ صدر بطلب منها، أعدته الأكاديميات الوطنية للعلوم والهندسة، وذكر أن الترددات اللاسلكية الموجهة، هي أكثر التفسيرات المقبولة لتلك الأعراض. لكن التقرير، ترك الباب مفتوحاً أيضاً أمام إمكانية وجود عوامل أخرى، منها النفسية والاجتماعية، معرباً في الوقت ذاته عن قلقه من مدى قدرة الحكومة الأميركية على التعرف على مثل هذه الحالات لدى حدوثها، والتعامل معها.
ويقدم التقرير الذي كشف عنه يوم السبت الماضي، أول محاولة تفسير رسمية من واشنطن. وكان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، قد أعلن في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أنه تمّ تخصيص "موارد حكومية كبيرة" لحلّ هذا اللغز، الذي تأثر فيه أكثر من 40 موظفاً حكومياً أميركياً، وذلك بعد إعادة بلاده في يونيو/ حزيران 2018، دبلوماسيين من قوانغتشو في الصين إثر تسجيل تعرضهم لأعراض مماثلة ولاحقاً دبلوماسيين أميركيين في موسكو. وكانت إدارة ترامب قد قلّصت عدد موظفي السفارة الأميركية في هافانا في سبتمبر/أيلول 2017، إلى أقل ما يمكن، وأغلقت القسم القنصلي فيها، في أعقاب ظهور المرض الغامض بين دبلوماسييها، فيما تأخرت كندا في سحب دبلوماسييها حتى العام 2018، جرّاء إصابة خمسة منهم أيضاً بذات الأعراض، في الفترة الزمنية ذاتها، ما حدا بهؤلاء إلى رفع دعوى على أوتاوا. واشتكى الدبلوماسيون الأميركيون كذلك من بطء التحقيقات الفيدرالية، وضعف إطلاعهم عليها، وقلّة تعويضهم.
وجاء في تقرير الأكاديميات الوطنية للعلوم والهندسة، أن تلك الأعراض، والتي تضمنت الغثيان والصداع والدوار وعدم الرؤية الواضحة، وغيرها، تبدو "متوافقة مع تأثيرات طاقة الترددات اللاسلكية الموجهة". ومن العوارض بحسب التقرير الرسمي: الإحساس الفجائي بصوت قوي، وبضغط شديد، أو اهتزاز في الدماغ، وألم في الأذن، يتردد إلى الرأس. كما لفت عدد من المصابين، أن الصوت أو الأحاسيس الأخرى، كانت تبدو وكأنها تصدر من جهة معينة، أو أن الشعور بها يحصل فقط عندما يقف الأشخاص في أماكن محددة.
وكانت تفسيرات سابقة للأعراض قد تضمنت "السلاح الصوتي"، بعد تقديم الفريق الأميركي في السفارة، والذي كان يشمل موظفين من "سي آي إيه"، لتسجيلات صوتية، كان يُسمع فيها صوتٌ دائم، مثل صوت الطائرة المسيرة. كما شملت التفسيرات أن تكون الأعراض ناجمة عن مبيدات الحشرات، أو أن يكون الصوت الذي يقول المصابون إنهم سمعوه هو صوت نوع محدد من الصراصير الكاريبية. لكن التسجيلات في هافانا أظهرت، نمطاً صوتياً يشبه صوت النبض المتفاوت، لم يتم رصده في نداءات الحشرات.
لكن كل تلك التكهنات، وحتى تلك التي تضمنها التقرير الجديد، لم تلغ فرضية أن تكون جهة معينة، هي وراء شنّ نوع من الهجوم، لكنها أيضاً لم توجه تهماً محددة إلى أي جهات. وكان فريق طبي من جامعة بنسلفانيا، قد أجرى اختبارات على حوالي 24 دبلوماسياً أصيبوا بالأعراض، في مارس/آذار 2018، وخلصوا إلى أن هؤلاء أصيبوا بما يشبه الارتجاجات في الدماغ. وقال دوغلاس سميث، الذي أشرف على البحث حينها، إن "أي أحدٍ منا، لم يصادف شيئاً مثل هذا من قبل".
لكن أبحاثاً أخرى شكّكت في مسألة الارتجاجات. أما خبراء "سي آي إيه"، فقد ذُهلوا، بحسب تقرير في 2018 لمجلة "نيويوركر"، بما اعتبروه خطراً جديداً، هو الأكثر حيرة طبياً، والأكثر غموضاً، والذي يشمل الفرق الأميركية العاملة في الخارج، منذ نهاية الحرب الباردة. وحمّل بعض السياسيين الأميركيين، مثل السيناتور من أصول كوبية ماركو روبيو، ووزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون، الكوبيين، المسؤولية، متهمين إياهم بالخضوع لرغبات الروس.

لا يستبعد التقرير العوامل النفسية والاجتماعية

وقال التقرير الجديد، إنه "بعد معاينة المعلومات المتوفرة، ومجموعة من الآليات المحتملة، فإن اللجنة شعرت أن العديد من الأعراض المميزة والحادة، والملاحظات التي وصلت من موظفي وزارة الخارجية (الأميركية)، هي متلازمة مع تأثيرات طاقة الموجات اللاسلكية الموجهة"، مشيراً إلى أن دراسات أخرى تظلّ مطلوبة. ويمثل التقرير، المؤلف من 66 صفحة، والذي أرسل إلى الكونغرس بعدما ظلّ سرياً لمدة أربعة أشهر منذ صدوره، التفسير الأكثر شمولية حتى تاريخ اليوم، لما يمكن أن يكون قد سبّب هذه الأعراض الغامضة للدبلوماسيين، لكن الحكومة الأميركية لم تفصح عن سبب هذه الهجمات بالموجات اللاسلكية الموجهة، أو ما إذا كانت تعرف مصدرها. ولطالما شكّك المسؤولون الأميركيون، لا سيما في عالم الاستخبارات، بوقوف روسيا وراء هذه الهجمات، التي وترت العلاقات بين واشنطن وكل من هافانا وبكين، لكن الإدارة الأميركية لا تملك أدلة لتوجيه أي إدانة أو اتهام مباشر للكرملين. ونفت الحكومتان الكوبية والروسية أي دور لهما في أي هجمات من هذا النوع.
وكتب ديفيد ريلمان، وهو أستاذ في علم الجراثيم في جامعة ستافورد، وقاد اللجنة التي كُلّفت بإعداد التقرير، في مقدمة البحث، أن "مجرد التفكير في مثل هذا السيناريو، يثير قلقاً شديداً من عالم فيه لاعبون حاقدون وذوو سلوك فاضح، وأدوات جديدة، لإحداث الأذى للآخرين". وبحسب تقرير الأكاديمية، فإن "أياً من الأعراض لم يجرِ توثيقها من قبل في أدبيات الطب". وقال التقرير إن "الدراسات التي نشرت في الأدب المتاح، قبل أكثر من نصف قرن، وخلال العقود اللاحقة، من مصادر غربية وسوفييتية، تؤمن دعماً ظرفياً لهذه الآلية المحتملة (أي الموجات اللاسلكية)".

ضغط النظام المعادي؟
ومع خروج التقرير إلى العلن، لا بد من الإشارة إلى كتاب صدر في العام الحالي، لروبرت روبرت بارتولومي وروبرت بالو، وهما خبيران أميركيان في الأمراض العصبية، تحدثا فيه عن عوامل نفسية وراء الأعراض. هذا الكتاب كان أخذ حيّزاً كبيراً من النقاش الإعلامي، وتوصل فيه الباحثان إلى أن ما اختبره الدبلوماسيون، وهو الضغط الكبير الذي عانوا منه في العيش والعمل في ظلّ مراقبة نظام معاد، قد أنتج ردّ فعل قلق، تبلور على شكل أعراض جسدية ناجمة عن مسببات نفسية. ورأى الكاتبان، أنه من أعراض "قلب الجندي" خلال الحرب الأميركية الأهلية، إلى متلازمة "صدمة القصف" في الحرب العالمية الأولى، وهو مصطلح صاغه عالم النفس البريطاني تشارلز صمويل مايرز لتفسير بعض الاضطرابات لدى الجنود البريطانيين، إلى "تعب المعارك" في الحرب العالمية الثانية، فإن الأعراض الشبيهة بالارتجاجات غالباً ما يجري الحديث عنها عندما يعاني أفراد من ظروف ضاغطة، ليضع بالو وبارتولومي "متلازمة هافانا" في هذا السياق. ويحيل هذا التقرير إلى تحقيق مطول آخر، كانت نشرته مجلة "نيويوركر" في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، مع تأريخ مفصل للأحداث التي رافقت الحادثة، لا سيما سياسياً. وذكرت المجلة أن الرئيس الأميركي المنتخب في 2016، دونالد ترامب، لم يبد اهتماماً يذكر لكوبا خلال حملته، سوى من باب انتقاد انفتاح أوباما عليها. كما أنه رغم تراجعه عن ذلك خلال لقائه بسلفه خلال المرحلة الانتقالية قبل حفل التنصيب، إلا أنه أعاد فرض معظم العقوبات على كوبا، ضمن سياسة "إرضاء ماركو روبيو"، كما تحدثت المجلة. وتطرق التقرير إلى الخلافات التي نشبت بين الأميركيين والكوبيين قبل افتتاح السفارة، مع معارضة هافانا لاستقدام الأميركيين معدات خاصة من الولايات المتحدة، وكذلك إلى رفض مسؤولين في النظام لفكرة الانفتاح. وكتبت المجلة، أنه "في ديسمبر/كانون الأول 2016، زار المريض رقم صفر، وهو موظف في سي آي إيه، قسم الصحة في السفارة، للتبليغ عن أعراض غريبة يشعر بها"، لكنه تحدث أيضاً عن عمليات تفتيش تعرض لها منزله، وإحساسه أن محتويات منزله دائماً ما يتم العبث بها، ليبدأ اعتراض المسؤولين في السفارة عما أسموه "المضايقات" الكوبية.

المساهمون