لبنان... قارب تائه بلا ربان

07 سبتمبر 2021
ينتظر أهالي ضحايا انفجار بيروت محاسبة المسؤولين (حسين بيضون)
+ الخط -

أن تنهار، أن تسقط، أن تسير إلى الهاوية، أن تنتحر، أن تدمر نفسك، بل أن تختفي حتى. لم نعد نعرف، منذ ما يقرب من عامين، أي فعل مناسب لوصف الغرق الطويل للبنان.

يغوص لبنان أكثر فأكثر في أزمة تعود مسؤوليتها إلى حد كبير إلى قادته الغارقين في عمليات سياسية دنيئة من ليّ الأذرع، غير مبالين بالمشهد البائس الذي يعرضونه للعالم وسوء أحوال سكانه سواء كانوا من الفقراء أو من الطبقة المتوسطة. كما هو الحال في جميع البلدان، تحتفل القلّة السعيدة ليلاً نهاراً في منتجعات الرياضات الشتوية الراقية في الجبل اللبناني بفضل المداخيل التي يتلقونها من الخارج. يُترك اللبنانيون لمصيرهم، محرومين من الكهرباء والبنزين. كما تشهد الأسعار ارتفاعاً كبيراً، وهناك نقص في الأدوية، وتعاني المستشفيات من ندرة الأدوية.

"لم يعد أحد يحكم لبنان الآن". هكذا صرح في 14 أغسطس/آب حاكم المصرف المركزي، رياض سلامة، في مقابلة مع محطة إذاعية محلية. يوم 23 أغسطس، ارتفع سعر تنكة بنزين سعة 20 ليتراً من 77500 إلى 129000 ليرة لبنانية (أو 6.5 دولارات، العملة المرجعية في بلد يستورد كل شيء، بعملة وطنية فقدت أكثر من 90 في المائة من قيمتها بنحو 20 ألف ليرة مقابل دولار واحد والتي كانت قبل الأزمة بـ1500 ليرة مقابل دولار واحد). تضاعف سعر الوقود ثلاث مرات تقريباً خلال الشهرين الأخيرين منذ أن بدأ المصرف المركزي تقنين دعم الواردات في يونيو/حزيران 2021. تمتد الزيادة إلى الاقتصاد بأكمله لترتفع الأسعار مرة أخرى في بلد يعاني من التضخم المفرط، في حين أن ما يقارب 78 في المائة من السكان أصبحوا، وفقاً للأمم المتحدة، يعيشون الآن تحت خط الفقر. وقد تبعت المواد الأساسية الضرورية الأخرى (الزيت والوقود والخبز) دوامة التضخم.

يُترك اللبنانيون لمصيرهم، محرومين من الكهرباء والبنزين

لا تعيش البلاد حقاً على ضوء الشموع، لكن المنازل لم تعد تحصل سوى على ساعتين كهرباء يومياً، ليتم تعويض الباقي عن طريق المولدات الخاصة. ولكن بشرط القدرة على دفع ثمن المازوت الذي يشغّل هذه المولدات، وهذا يستثني أجزاء كبيرة من السكان. "أعيش من كهرباء الدولة"، يقول جان أنطونيوس، نجار يعيش في شقة من غرفتين مع عائلته في بيروت، لأن هذا الوقود يزداد ندرة وهو بالتالي غالي الثمن. لكن الوضع جدّ متباين حسب مناطق البلاد وأوضاع الناس. تكتفي ليليان، وهي متقاعدة ميسورة نسبياً تعيش بمفردها في قرية صغيرة في الجبل، بما يضاهي السبع ساعات من الكهرباء التي توفرها لها الدولة ومولدها.

شجار مميت من أجل عبوة بنزين

لا يختلف الوضع بالنسبة للبنزين الذي لا يتوقف سعره عن الارتفاع مما يسبّب طوابير لا تصدق أمام محطات البنزين. ففي منطقة عكار الفقيرة جداً الموجودة على الحدود مع سورية، تسبّب شجار حول بنزين مخزّن في اندلاع حريق وانفجار أدى إلى مقتل 29 شخصاً يوم الأحد 15 أغسطس الماضي. وردَّ بعض أهالي الضحايا بإضرام النار في منزل صاحب المخزن والمتهم أيضاً بتهريب البنزين إلى سورية والتسبّب في تفاقم أزمة الندرة التي يعاني منها السكان. ساعات بعد ذلك، أثار وصول البنزين إلى محطة في ضاحية بيروت، حيث كان حشد من سائقي السيارات ينتظرون، بهجة تليق بحفل زواج. وقد أظهر مقطع فيديو جمهوراً مرحاً يرقص الدبكة على الطريق السريع ذاته.

هكذا تعيش البلاد بين فرحة عابرة للبعض ومآس لآخرين. في ظل تراكم الأزمات ضاعت بوصلة البلاد، فهي بلا جهاز تنفيذي منذ ما بعد الانفجار في مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، في مستودع كبير يحتوي على 2700 طن من نترات الأمونيوم، دمر جزءاً من العاصمة وتسبّب في مقتل أكثر من 200 شخص. لم يتقدّم التحقيق الرسمي في الموضوع. المؤسسات لم تعد تعمل. تم منذ ذلك الحين، من دون نجاح حتى الآن، تعيين 3 شخصيات لتشكيل حكومة، وأيضاً للانطلاق في إصلاحات اجتماعية ـ اقتصادية حيوية ـ وكأن لهذه الكلمة معنى في بلد مثل لبنان. وبالتالي تواصل نزيف السكان نحو سماوات أكثر رحمة. تقول نائلة عريضة، التي تعيش متعاطفة مع كل هؤلاء الناس الذين يعانون: "غادر أخيراً أصدقاء لي، لم يسبق لهم أن فارقوا لبنان على الرغم من مختلف الأزمات التي مر بها، آخذين معهم جدهم ذا 90 عاماً".

"حمار هجين"

بالنسبة لبلد يوجد تحت تأثير خارجي قوي، لا الزيارتان اللتان قام بهما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت، ولا الاهتمام الذي أبدته العديد من البلدان، ولا صرخات التحذير من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي - الذي قال إنه مستعد لدراسة حسابات الدولة ودعم برنامج للإصلاح - استطاعت تحريك "الحمار اللبناني"، كما صار الناس يسمون النومنكلاتورا (طبقة أصحاب الامتيازات) التي تسيء إليهم. لأن هذا الحمار أصبح مخلوقاً هجيناً كأنه خرج من كتاب الأساطير ولكنه أصبح حقيقياً مع مرور الزمن. يخوض أولئك الذين هم على رأس الدولة (رئيس الجمهورية المسيحي ورئيس البرلمان الشيعي ورئيس الوزراء السنّي) وحاكم المصرف المركزي، صراعات ذات أبعاد متعددة بمصالح متباينة، وفي أغلب الأحيان تحت الذريعة الكاذبة للحفاظ على طائفة دينية أو أخرى، ويشكّل كل ذلك فسيفساء تجاوزها الزمن.

أصبحت القاعدة الجديدة للعبة السياسية هي كيفية وضع عصي في عجلة الخصم

أصبحت القاعدة الجديدة للعبة السياسية، والتي تُؤدَّى يومياً وتتم متابعتها في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، هي كيفية وضع عصي في عجلة الخصم. وهكذا يشتبه على نطاق واسع في أن رئيس الجمهورية ميشال عون يريد تنصيب صهره جبران باسيل على رأس الدولة في الانتخابات المقبلة؛ ويسعى الرجل الثري جداً ورئيس مجلس النواب منذ زمن طويل نبيه بري إلى تمديد ولايته وكسب مباراة ليّ الأذرع ضد خصمه عون، مع السهر على ثروته الهائلة وطمأنة طائفته الدينية وزبائنه السياسيين؛ ويحافظ رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي على أفضل العلاقات مع مملكات النفط الغنية التي ضمنت لمدة طويلة رفاه بلاد الأرز، وأيضاً مع إيران وسورية. من دون أن ننسى "حزب الله" الشيعي، الدولة داخل الدولة بسلاحه وميزانيته وأتباعه و… ولائه لطهران.

لا ينكر حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، الذي يتهمه الشارع بنهب احتياطات البلاد من العملات الأجنبية، ثروته الكبيرة (فهو تحت متابعات قانونية في بلدان مثل سويسرا…). ولكنه يلقي مسؤولية إفلاس النظام المصرفي ومصرف لبنان على الطلبات غير المدروسة لأجهزة الدولة بقصد سد عجزها وسوء تسييرها... فقط لفائدة حماتها المتبوئين المناصب العليا.

بين طهران وواشنطن

هل يمكن ألا يتهاوى هذا الهرم؟ هل سبق أن شوهد هذا النوع من فقدان المعاني والمسؤولية؟ من دون شك لا، باستثناء بعض البلدان المدمنة على الفساد والتي تستمر في العيش كيفما اتفق. هل من المحكوم على لبنان الالتحاق بهذه البلدان المنبوذة؟ يبكي أنطوان أندراوس، رجل الأعمال والنائب السابق، قائلاً: "انتهى لبنان!". غير أن البلد الذي يقع في قلب منطقة في حالة ثوران مستمر، وهو واجهة "قذرة كانت أم لا" لشرق المتوسط، يستمر في الاستفادة من عناية (مصلحية طبعاً) بعض القوى كما كان الحال أيام الحرب الباردة. وليست أي قوى! فقد أعلنت إيران والولايات المتحدة في تناغم تقريباً في منتصف أغسطس الماضي عن استعدادهما لمساعدة اللبنانيين بتزويدهم بالكهرباء والبنزين.

البلد الذي يقع في قلب منطقة في حالة ثوران مستمر، يستفيد من عناية بعض القوى

في الوقت الحالي، يبدو الناس متشككين وقلقين أيضاً. ما الذي يخفيه هذا الكرم المفاجئ؟ المشهد الأول: في 19 أغسطس أعلن الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله خلال كلمة ألقاها بمناسبة عاشوراء عن الوصول "الوشيك" لسفينة إيرانية محملة بالوقود. وقد أبحرت يوم 26 أغسطس حسب الموقع المختص تانكر تراكرز (TankerTrackers). وحدد نصرالله وجهة هذه الشحنة والتي هي "المستشفيات، ومصانع إنتاج الأغذية والأدوية والمخابز والمولدات". بعد ذلك بثلاثة أيام زايد نصرالله معلناً بأن سفينة ثانية محملة بالوقود آتية من إيران ستنطلق "في الأيام القليلة المقبلة". كما اقترح أيضاً على الدولة اللبنانية استئجار شركات تنقيب إيرانية لاستغلال الثروة النفطية البحرية. وهو ملف نزاع مع إسرائيل في وقت وصلت فيه المحادثات بين البلدين حول تحديد الحدود البحرية بينهما إلى طريق مسدود، في حين تم اكتشاف محروقات في مياه الشاطئ اللبناني.

المشهد الثاني. ساعات قليلة فقط بعد الإعلان الأول لـ"حزب الله"، أكدت السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا، في حوار مع موقع قناة "العربية" السعودية، أن بلادها تتناقش "مع الحكومتين المصرية والأردنية [...] والبنك الدولي للوصول إلى حلول حقيقية ودائمة" لمشكلة الطاقة في لبنان. لكنها اعترفت مع ذلك بوجود بعض "العقبات". ووفقاً للخبراء، يعني هذا العرض أن الغاز سيمر عبر سورية حيث يوجد خط أنبوب الغاز الذي يربط لبنان بمصر والأردن، أي "خط الغاز العربي"، وهو أنبوب طوله 1200 كيلومتر مهترئ جزئياً. وحتى لا تتبسط الأمور، فسورية تخضع حالياً لعقوبات من واشنطن. وفي هذه الحالة يُحظَر تنفيذ اتفاق متعدد الأطراف لتزويد لبنان بالكهرباء، وهو قطاع يوجد في حالة مزرية ويكلف مليارات الدولارات للبلاد.

يريد "حزب الله" أن يلجأ لبنان إلى إيران (وإلى آسيا بشكل عام) لتطوير علاقاته التجارية الموجهة تاريخياً نحو البلدان الغربية. ولكن ماذا يمكن الانتظار من مسؤولين منقسمين بخصوص كل شيء تقريباً. ندد رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري بتصريحات نصرالله، معتبراً أنها تنال من "سيادة" لبنان. ويعد هذا فصلاً من الدعابة الحزينة المروعة من الدرجة الثانية. وماذا يفعل الأميركيون "الأشرار"؟ لقد فتحوا قبل بضع سنوات ورشة كبيرة ستؤوي سفارتهم الجديدة على قطعة أرض مساحتها 174 ألف متر مربع، على جبل مطل على البحر شمال بيروت. ومن المنتظر أن ينتهي بناء المجمع الدبلوماسي ذي المظهر المستقبلي في 2023. ستصبح هذه السفارة الأميركية الأكبر في المنطقة، بعد سفارة بغداد، حسب مصمميها. يسمح هذا المثال بالتخمين بخصوص نوايا الأميركيين في لبنان والمنطقة على الرغم من إخفاقاتهم المريرة أخيراً. هل يبقى لبنان، المُسلَّم لهؤلاء وأولئك (سورية ليست ببعيدة وإسرائيل تراقب)، والمتخلَّى عنه من قبل قادته الحاليين، ملعوناً إلى الأبد!

يُنشر بالتزامن مع "أوريان 21"

https://orientxxi.info/ar