في مكان ناء بسورية يكتظ بالنازحين الذين شردتهم الحرب على مدى 11 عاماً، كان زعيم "داعش" وعائلته يعيشون على مرأى من الجميع. كانت الأسرة تدفع الإيجار بانتظام في الوقت المحدد، وتفرض على نفسها طوقاً من العزلة، في مكان لا يتلصص فيه الجيران على ماضي بعضهم البعض.
تغيّر كل شيء وتحطّمت هذه التفاصيل، مساء الخميس، عندما اقتحمت القوات الأميركية الخاصة بلدة أطمة في شمال غرب سورية لمداهمة المخبأ. فجّر أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم إحدى أشد الجماعات إثارة للرعب في العالم، نفسه كي لا يقع في الأسر. وتقول الولايات المتحدة إنّ الانفجار أسفر عن مقتل عدد من أفراد أسرته وآخرين غيرهم.
واعتُبرت وفاته ضربة لتنظيم "داعش" مع عودة مقاتليه إلى الظهور كمصدر للتهديد الدموي في سورية والعراق.
حتى تلك اللحظة، كان سكان المنطقة يعتقدون أنّ القرشي تاجر سوري قادم من حلب بحثاً عن الأمان النسبي لنفسه وعائلته في أطمة قرب الحدود التركية، بعيداً عن خطوط المواجهة في الصراع السوري.
لم يكن هناك ما يلفت الأنظار أو يشد الانتباه إلى المبنى المكوّن من ثلاثة طوابق على أطراف المدينة منذ أن استأجر القرشي شقة فيه قبل عام، حيث أخذ الطابق الأول في البداية قبل أن يتوسع لاستئجار الطابق العلوي أيضاً.
قالت امرأة، كانت تعيش في الطابق الأرضي وتشير إلى جيرانها على أنهم "عائلة أبو أحمد"، إنّ سلوك الأطفال كان طيباً بشكل عام، مضيفة أنهم كانوا يبتعدون عن الأنظار ويرافقون والدتهم إلى المتاجر في بعض الأحيان.
أضافت المرأة التي اكتفت بتقديم نفسها باسم "أمينة"، في مقابلة عبر الهاتف مع وكالة "رويترز"، "كانوا في حالهم وأولادهم كانوا بيلعبوا مع الأولاد برا (بالخارج) بين كل فترة بس ما كان في بينا اجتماعيات".
امتنعت أمينة عن ذكر اسمها بالكامل خوفاً من التعرّض للانتقام. أضافت المرأة أنها تلقّت ذات مرة دعوة من إحدى زوجات القرشي، وهي أم أحمد، لتناول الشاي. قالت لأمينة حينها إنّ زوجها تاجر من حلب فرّ من المدينة بسبب الحرب.
بعد أن مضى أوان الدهشة، تتذكر أمينة باستغراب كيف لم تلحظ ندرة ظهوره. كانت ملابس النساء سوداء تغطيهن بالكامل.
وفي حين لم تكن الأسرة من أطمة، ما كان ذلك بالشيء اللافت للانتباه في منطقة فرّ إليها عشرات الألوف من جميع أنحاء البلاد. تقول أمينة "كنا نفكر أنهم مروا بكثير، بس زي ما بتعرف الكل عنده مأساة هون ما حدا بيحكي للتاني شو صار معه في ها الأزمة وبنفضل تبقى بداخلنا".
الاختباء بجوار الأعداء
تولى القرشي قيادة "داعش" بعد مقتل مؤسسه أبو بكر البغدادي في 2019. تشابهت النهايتان، إذ قُتل البغدادي أيضاً عندما فجّر عبوة ناسفة أثناء غارة للقوات الخاصة الأميركية.
اختبأ البغدادي هو الآخر في شمال غرب سورية، آخر معقل كبير للمعارضة المسلحة. ولم يبعُد مخبأه سوى 25 كيلومتراً عن أطمة بمحافظة إدلب أيضاً.
كان مخبأ القرشي قريباً من نقطة تفتيش تديرها الجماعة المسلحة التي تسيطر على معظم إدلب وهي "هيئة تحرير الشام"، الفصيل الذي كان يُعرف في السابق باسم "جبهة النصرة"، ولها خصومة منذ سنوات مع "داعش". ولم يكن بعيداً أيضاً عن مواقع القوات التركية في منطقة عفرين القريبة بشمال غرب سورية، بحسب "رويترز".
على الرغم من قرب القوات المعادية، كان المكان جيداً نسبياً للاختباء بالنسبة للقرشي الذي كان يسعى لإحياء تنظيم "داعش"، الذي كان قد سيطر على ثلث العراق وسورية في 2014 قبل أن يتقهقر.
يقول السوريون إنّ من السهل على الغرباء المرور دون أن يلحظهم أحد. وعلاوة على النازحين، يعيش بالمنطقة إسلاميون أجانب سافروا إلى البلاد أثناء الحرب كمتطوعين للقتال أو للأعمال المدنية.
وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تم القبض على قيادي آخر في تنظيم "داعش"، وهو سامي جاسم، في شمال غرب سورية في عملية عراقية نفذت بمساعدة تركية.
وقال مسؤول كبير بالبيت الأبيض، إنّ هناك اعتقاداً بأنّ الانفجار أسفر عن مقتل القرشي وزوجتيه وطفل في أحد طوابق المنزل، وطفل آخر على الأرجح كان في طابق آخر مع مساعد القرشي وزوجته اللذين قُتلا بعد إطلاق النار على القوات الأميركية.
لماذا كان استهداف القرشي أمراً مهماً لواشنطن؟
يظهر قرار الولايات المتحدة الأميركية نشر معلومات عن استهداف الوحدات الخاصة قائد تنظيم "داعش" خلال العملية التي نفذتها شمال غربي سورية، أنه شخص "مهم" بالنسبة إلى واشنطن، بحسب ما يورده موقع هيئة البث البريطانية "بي بي سي"، مذكّراً بأنّ الولايات المتحدة كانت تستهدف قادة تنظيمي "داعش" و"القاعدة" على مدار السنوات الماضية بطيارات دون طيار.
فإرسال قوات خاصة لتنفيذ عملية إنزال على الأرض هو أمر بالغ الخطورة، وقد يتم العمل به في حالة محددة لتنفيذ أهداف عالية الدقة أو تلك التي تكون فيها الظروف صعبة مثل العملية التي نفذت لقتل أسامة بن لادن في باكستان عام 2011.
وأشار الموقع إلى أنّ الولايات المتحدة الأميركية تستخدم هذه الطريقة عادة للقبض على فرد وهو على قيد الحياة، أو للحصول على معلومات استخباراتية من أحد المواقع. إلا أنّ "بي بي سي" يلفت إلى أنّ هناك مخاطر كبيرة كانت خلال تنفيذ العملية، إذ جرى تدمير طائرة هليكوبتر على الرغم من عدم إصابة أي جندي أميركي.
لم يعرف الكثير عن القرشي، حيث كان يفتقر إلى مكانة الزعيم السابق أبو بكر البغدادي. ويشير الموقع إلى أنّ القرشي كان ضابطاً في الجيش العراقي خلال فترة حكم صدام حسين قبل الانضمام إلى القتال ضد الولايات المتحدة الأميركية في بغداد عام 2003 بعد انتمائه إلى تنظيم "القاعدة"، فيما فضل فيما بعد الانتقال إلى "داعش".
وكانت الولايات المتحدة عرضت في وقت سابق مكافأة لمن يدلي بمعلومات عن القرشي، بصفته قائداً إرهابياً بارزاً في "تنظيم القاعدة" في العراق، قبل "تنظيم داعش"، وقد ترقى بشكل متتال في الرتب إلى أن تولى دور نائب زعيم التنظيم.
كما قالت إنّ القرشي كان من أبرز منظري "داعش" وساعد في دفع وتبرير واختطاف وذبح الأقلية الإيزيدية شمال غربي العراق.
لم يعد تنظيم "داعش" يسيطر على مساحات شاسعة من العراق وسورية كما كان في ذروة قوته، كما لم يعد نقطة جذب للجهاديين كما كان في السابق عندما اجتذبت سيطرته على وسائل التواصل الاجتماعي المجندين وحرّض الآخرين على شنّ هجمات في أماكن إقامتهم.
وكانت هناك مخاوف في أوساط مسؤولي مكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة الأميركية من محاولة التنظيم إعادة تشكيل نفسه في العراق وسورية، وبناء قدرات أكبر له. إذ شوهد ذلك خلال الكمائن والهجمات التي شنّها، ولا سيما المحاولة الكبيرة لاقتحام سجن غويران شمال شرقي سورية.
وتأمل واشنطن أن يؤدي قتل القرشي في منع أي تجدد للتنظيم، لكن هذه المجموعات غالباً ما تجد زعيماً جديداً لها، إلا أنّ الجهد الذي يحتاجه أيّ زعيم جديد للبقاء على قيد الحياة سيجعل من الصعب على التنظيم العمل وترتيب نشاطه.