يعتقد وزير المالية الإسرائيلي الوزير بوزارة الدفاع، ومسؤول حزب الصهيونية الدينية، بتسلئيل سموتريتش، أنّ البيئة باتت مناسبة أمام تنفيذ رؤيته، التي طرحها منذ سنواتٍ، تحت عنوان "خطة الحسم مفتاح السلام بين النهر والبحر"، بهدف فرض حلٍّ نهائيٍ بالقوّة على الفلسطينيين، وفق الرؤى والمصالح الإسرائيلية في أبعادها الأكثر تطرّفًا.
تتضمّن الخطة بنودًا أساسيةً عدّةً أهمّها وأوّلها ضمٌّ؛ ولو غير معلن، رسميٌ بالبداية للمناطق "ج"، التي تبلغ مساحتها 60% من مساحة الضفّة الغربية، كنتيجةٍ طبيعيةٍ لتسريع وتيرة الاستيطان والتهجير فيها، ثم الضغط على السلطة الفلسطينية سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا لدفعها إلى الانهيار، وعودة تسلم إسرائيل كامل المسؤولية في الضفّة الغربية، ووضع الفلسطينيين فيها أمام ثلاثة خياراتٍ أساسيةٍ، إما الخضوع والاستسلام، أو التهجير طوعًا أو قسرًا، ومن يرفض ويقاوم يكون مصيره القتل على يد جيش الاحتلال، الذي يتولى المهمة لاستكمال ما لم ينجح في تحقيقه في النكبة الأولى عام 1948.
في الحقيقة؛ يمثّل اتّفاق أوسلو لعام 1993 العامل الأبرز خلف طرح سموتريتش لخطته، واعتقاده أنّ البيئة باتت مناسبةً تمامًا أمامها، وثمة قدرةٌ على تنفيذها، وذلك بناءً على ثلاثة معطياتٍ أساسيةً، تضاعف عدد المستوطنين سبع مرات منذ توقيع الاتّفاق قبل ثلاثة عقود، ونجاح رئيس الوزراء، وزعيم اليمين المتطرف، بنيامين نتنياهو في تحويل المرحلة المؤقتة إلى اتّفاقٍ دائمٍ ضمن هيمنةٍ تامةٍ لليمين، كما قال عن حقٍّ مهندس الاتّفاق يوسي بيلين، وأخيرًا الانقسام السياسي والجغرافي الفلسطيني، والعجز عن مواجهة، أو عن الإقرار بفشل خيار التفاوض الثنائي عامّةً، وضرورة بلورة استراتيجيةٍ وطنيةٍ موحدةٍ، لمواجهة الواقع المستجدّ إثر موت الاتّفاق سريريًا.
لا بدّ من ردٍّ فلسطينيٍ ملائمٍ ومطلوبٍ، بل وضروريٍ في الذكرى الثلاثين لاتّفاق أوسلو
قال ياسر عبد ربه أحد رموز حقبة أوسلو، وبعدما أطنب في مدح الشهيد ياسر عرفات، أن هذا الأخير لم يكن مفاوضاً بارعًا، لدرجة أنّه فوجئ ذات مرّةٍ عندما اضطّر؛ نتيجة عاصفةٍ ثلجيةٍ، للعودة برًّا من عمان إلى رام الله، مرورًا بمستوطنة بمعاليه أودميم، وسأل مستغربًا أيّ مدينةٍ إسرائيليةٍ هذه.
في البروتوكولات والوثائق الخاصّة بجلسة الحكومة الإسرائيلية التي أقرت الاتّفاق؛ التي سمحت الرقابة بنشرها في ذكراها الثلاثين، حُذفَ جزءٌ مهمٌ من كلام المستشار القانوني للحكومة آنذاك، إلياكيم روبنشتاين، عما أسماها أراضي دولةٍ في الضفّة الغربية، وهي نفسها مناطق "ج"، التي تبلغ مساحتها 60% منها، وهو ما يفسّر الإصرار على التمسك بها، على اعتبارها احتياطي الاستيطان والتوسع، علمًا أنّها تمثّل كذلك خزان الضفّة الغربية المائي، والزراعي كذلك.
قانونيًا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الاتّفاق قد صاغه المستشار القانوني لوزارة الخارجية الإسرائيلية، يوئيل سنغر، بعدما اكتشف، أو تذكر، الوفد الفلسطيني المفاوض، الذي ضمّ هواةً أيضًا، أنّهم من دون خبيرٍ ومستشارٍ قانونيٍ، حينها استنجد الوفد بالأمين العام للجامعة العربية، عصمت عبد المجيد، لإرسال خبيرٍ على وجه السرعة إلى أوسلو، لكنه وصل بعدما سبق السيف العذل، وكانت المسودة الأصلية قد صيغت فعلاً، من قبل يوئيل سنغر، المستشار القانوني للخارجية الإسرائيلية، الذي كان ضمن وفد دولته، عملاً بأبسط أبجديات التفاوض.
تضمّن محضر جلسة الحكومة الإسرائيلية؛ الذي كشف عنه أخيرًا، حديث رئيس الوزراء، إسحق رابين، عن محاربة السلطة الفلسطينية لحماس، والتصدّي لعمليات المقاومة، وأنّها ستكون سلطة عالمٍ ثالثٍ مستبدةً، من دون منظّمة بتسيلم لحقوق الإنسان ومحكمة العدل العليا، كما كان يقول دائمًا بعنصريةٍ وغطرسةٍ. في حين قال وزير الخارجية شيمون بيريز، عرّاب الاتّفاق، هنا ليس ياميت؛ المستوطنة التي فككت في سيناء، بعد توقيع اتّفاقية كامب ديفيد مع مصر، متباهيًا بالنجاح في إخضاع وإقناع الجانب الفلسطيني بعدم التمسك، أو الإصرار على ضرورة تجميد الاستيطان خلال المرحلة الانتقالية للاتّفاق، الممتدة لخمس سنواتٍ بعد توقيعه.
بناءً عليه؛ استمر الاستيطان بوتيرةٍ مرتفعةٍ، خاصّةً مع موت الاتّفاق سريريًا، وانزياح إسرائيل نحو أقصى اليمين المتطرّف، إذ تضاعف عدد المستوطنين سبع مرّاتٍ، ضمن هيمنة بنيامين نتنياهو التامة، بصفته زعيم اليمين المتطرف، على الحياة السياسية في العقد الأخير، ونجاحه في تحويل الاتّفاق المرحلي إلى دائمٍ، وفق الواقع الراهن، وكما تمنى دائمًا حكمًا ذاتيًا بلس "زائد"، وأقلّ من دولةٍ للفلسطينيين، وتحت الهيمنة الإسرائيلية الكاملة، سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، وهي النقطة التي يقول نتنياهو أنّه كان على توافقٍ تامٍ حولها مع رابين.
بالتوازي مع ما سبق ومعطوفًا عليه، وقع الاقتتال، ثم الانقسام الفلسطيني عام 2007، الناتج أساسًا عن اتّفاق أوسلو، وعن عدم امتلاك الشجاعة للإقرار بموته سريريًا، وتضاؤل؛ بل تلاشي، حلّ الدولتين من جهةٍ. وبسبب الاقتتال حوّل كعكة السلطة الزائفة والوهمية من جهةٍ أخرى. وكذلك نتيجة العجز عن تبنّي استراتيجيةٍ وطنيةٍ توافقيةٍ بديلةٍ، ينخرط فيها الشعب الفلسطيني بكافّة ومختلف فئاته وشرائحه.
مسلّحًا بالمعطيات الثلاث السابقة، اعتقد سموتريتش أنّه أمام فرصةٍ تاريخيةٍ للحسم النهائي، وفرض حلٍّ أحاديٍ بالقوّة، ليس انفصالاً أو فكّ ارتباطٍ من جانبٍ واحدٍ، كما فعل رئيس الوزراء السابق، أرئيل شارون، إنّما حلٌّ يكفل الحفاظ على أرض إسرائيل كاملةً، وفق الرؤية التوراتية المتطرفة، وفرض السيطرة التامة نهائيًا على فلسطين التاريخية؛ تجاهل غزّة تمامًا على اعتبارها أصبحت إلى هذا الحدّ أو ذاك تحت الوصاية المصرية، ووضع الفلسطينيين هناك أمام ثلاثة خيارات، أوّلها الخضوع والتحوّل إلى مواطنين من الدرجة الثانية؛ وحتّى الثالثة، كيدٍ عاملةٍ رخيصةٍ، للمشروع الصهيوني الاستعماري، ضمن نظام فصلٍ عنصريٍ موصوفٍ، لا شكّ أو جدال فيه، وهو ما لا يخشى سموتريتش ولا رفيقيه وحليفه إيتمار بن غفير، إعلانه صراحة بل والدفاع عنه.
أما الخيار الثاني، فيتمثّل بالتهجير طوعًا رفقة إغراءاتٍ ماليةٍ ولوجستيةٍ، أو قسرًا تحت ضغط الجيش، والمؤسسة الإسرائيلية، وغول الاستيطان، وجرائم المستوطنين المتصاعدة، والمحمية رسميًّا.
أما من يرفض الخضوع والتهجير، بشقيه، فيواجه القتل على يد جيش الاحتلال، لإنجاز المهمة التي لم ينجح في إكمالها في النكبة الأولى 1948، حسب تعبير سموتريتش حرفيًا.
يمثّل اتّفاق أوسلو لعام 1993 العامل الأبرز خلف طرح سموتريتش لخطته، واعتقاده أنّ البيئة باتت مناسبةً تمامًا أمامها
بناءً عليه، وبعد ثلاثين عامًا على اتّفاق أوسلو، لا شكّ أنّنا أمام مخاطر نكبةٍ ثالثةٍ موصوفةٍ؛ بعد نكبتي عامي 1948 و1967، مع ملاحظة ما يجري في المقدسات، وتحديدًا الحرمين القدسي والخليلي، وبعد التقسيم الزماني والمكاني، إثر مذبحة باروخ جولدشتاين 1994، إذ يغلقُ الحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل أمام الفلسطينيين، من أجل الاحتفال بالأعياد اليهودية. وفي السياق ذاته، وليس بعيدًا عن أجواء أوسلو، قال الوزير الإسرائيلي السابق، يوسي سريد، إنّ السلطة لم تصرّ بعد المذبحة على إبعاد مستوطني الخليل وطردهم، وعلى تفكيك البؤرة الاستيطانية فيها، رغم وجود أكثريةٍ مؤيدةٍ لذلك في الحكومة الإسرائيلية في حينه. لقد بات التقسيم الزماني والمكاني حقيقةً واقعةً؛ ولو بشكلٍ غير معلنٍ في المسجد الأقصى، كما رأينا في الأعياد اليهودية، الأسبوع الماضي، وصولاً إلى أداء صلواتٍ ومراسمٍ توراتيةٍ، والنفخ بالبوق أمام باب الرحمة.
عمومًا، يواصل سموتريتش تنفيذ خطته، دون إعلانٍ رسميٍ، خاصّةً بعد تعيينه وزيرًا في وزارة الدفاع، وتوليه المسؤولية عن الاستيطان، وتحكمه بالإدارة المدنية لجيش الاحتلال، التي عادت إلى تولي المسؤولية عن تسيير مناحي الحياة المختلفة للفلسطينيين، بعد إضعاف وتهميش وإهانة السلطة، ضمن انتهاكٍ وتجاوزٍ منهجيٍ وفظٍ لاتّفاق أوسلو؛ على علاّته، وبعد ربط المستوطنين بإسرائيل نفسها، في فرض نظامٍ مختلفٍ، وفصلٍ عنصريٍ موصوفٍ ضدّ الفلسطينيين، وضمٍ غير معلنين رسميًّا.
وفقًا للمعطيات سالفة الذكر، لا بدّ من ردٍّ فلسطينيٍ ملائمٍ ومطلوبٍ، بل وضروريٍ في الذكرى الثلاثين لاتّفاق أوسلو، وعلى اعتقاد سموتريتش أنّ البيئة التي أنتجها الاتّفاق مواتيهٌ تمامًا لتنفيذ خطته للحسم الأحادي، النهائي والقسري بين البحر والنهر، والأمر يقتضي حتمًا مواجهة الواقع، بل الوقائع، المستجدّة بشجاعةٍ وصدقٍ ونزاهةٍ، والإقرار بموت الاتّفاق سريريًا، وتأثيراته السلبية، والكارثية على المصالح العليا لنا كفلسطينيين، بما في ذلك علاقته المباشرة بالانقسام السياسي والجغرافي، الذي لا بدّ من إنهائه اليوم قبل الغد، وهذا لن يتحقق إلّا في ظلّ قيادةٍ فلسطينيةٍ جديدةٍ ومغايرةٍ، شابةٍ وديموقراطيةٍ، ونقيةٍ من الاستبداد والفساد والإفساد.