مع انشغال إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، بأزمات عالمية خطيرة ومتتالية منذ وصولها إلى البيت الأبيض قبل عام، لم يحظ ملف كوريا الشمالية بالاهتمام الكافي، وفق ما يرى العديد من المحللين.
ويبدو أن ذلك شجّع بيونغ يانغ، التي تعاني من صعوبات اقتصادية كبيرة، على تصعيد نشاطاتها العسكرية خصوصاً منذ مطلع العام الحالي، إلى أن أطلقت أول من أمس الأحد، أقوى صاروخ لها منذ العام 2017، من طراز "هواسونغ -12" القادر على حمل رؤوس نووية، وهو نفس السلاح الذي هددت ذات مرة باستخدامه لاستهداف جزيرة غوام الأميركية.
وأثارت هذه التجربة مجدداً قلق الدول المجاورة لكوريا الشمالية، ولا سيما كوريا الجنوبية واليابان، وبالطبع الولايات المتحدة التي عادت لدعوة نظام الزعيم كيم جونغ أون إلى الحوار.
ولكن السؤال هو إلى أي مدى يمكن أن تتفاعل كوريا الشمالية مع دعوات كهذه، ليست جديدة، في وقت أن جلسات حوار، بما في ذلك قمتان بين كيم والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، لم تصل إلى نتيجة. وهل فعلاً هذه التجارب هي تصعيد يسبق حوارا محتملا؟
الاختبار الأخير هو السابع الذي تجريه بيونغ يانغ منذ بداية العام
تجربة صاروخية جديدة لكوريا الشمالية
وأطلقت كوريا الشمالية، أول من أمس الأحد، أقوى صاروخ لها منذ العام 2017 في وقت تعتقد سيول أن بيونغ يانغ قد تنفّذ قريباً تهديدها باستئناف تجاربها النووية أو إطلاق صواريخ بالستية عابرة للقارات. وهذا الاختبار هو السابع الذي تجريه بيونغ يانغ منذ بداية العام.
وآخر مرة أجرت كوريا الشمالية فيها عدداً كبيراً من التجارب خلال مدة زمنية قصيرة، كانت في 2019، بعد انهيار المحادثات بين كيم جونغ أون وترامب.
وأكدت كوريا الشمالية أمس الإثنين، أنها أطلقت صاروخاً بالستياً من طراز "هواسونغ -12"، حسبما ذكر الإعلام الرسمي. وقالت وكالة الأنباء الرسمية الكورية الشمالية إن "تجربة تقييم إطلاق صاروخ هواسونغ البالستي من نوع 12 أرض-أرض متوسط وطويل المدى، أجريت يوم الأحد". وأضافت أن الاختبار "أكد دقة وأمن وفعالية تشغيل نظام هواسونغ-12 قيد الإنتاج".
وأشارت الوكالة إلى أن الاختبار أُجري باستخدام "نظام الإطلاق من أعلى زاوية" لضمان سلامة الدول المجاورة، لافتة إلى أن الرأس الحربي حمل كاميرا التقطت صوراً أثناء وجوده في الفضاء.
وكانت آخر مرة اختبرت فيها بيونغ يانع صاروخا من نوع "هواسونغ-12" في عام 2017، عندما قطع 787 كيلومتراً ووصل في الحد الأقصى من ارتفاعه إلى 2111 كيلومتراً. في ذلك الوقت، وجد المحللون أن هذا الصاروخ قادر على قطع 4500 كيلومتر، وأن يبلغ بذلك جزيرة غوام، الأرض الأميركية في المحيط الهادئ. وقالت كوريا الشمالية في وقت سابق إن الصاروخ هواسونغ-12 يمكنه حمل "رأس نووي كبير الحجم".
دعوة أميركية للحوار
وتعليقاً على التجربة الأخيرة، قال مسؤول أميركي كبير للصحافيين في واشنطن أمس، إن الولايات المتحدة تشعر بالقلق من أن تكون تلك التجارب المتزايدة بمثابة تمهيد لاستئناف التجارب على أسلحة نووية وصواريخ بالستية عابرة للقارات، وتعهد برد لم يكشف عنه "يهدف إلى إظهار التزامنا تجاه حلفائنا".
وقال المسؤول "الأمر لا يتعلق فحسب بما فعلوه بالأمس (الأحد)، بل إنه يأتي في أعقاب عدد كبير جداً من التجارب هذا الشهر". لكن المسؤول الأميركي دعا بيونغ يانغ في الوقت ذاته إلى الانضمام لمحادثات مباشرة من دون شروط مسبقة.
دعا مسؤول أميركي بيونغ يانغ إلى محادثات مباشرة من دون شروط مسبقة
من جهتها، نددت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس-غرينفيلد بإطلاق الصاروخ، معتبرة أنه يشكل "استفزازاً". وقالت لشبكة "إيه بي سي" إن الولايات المتحدة "منفتحة تماماً على لقاء دبلوماسي بدون شرط مسبق".
وحذرت كوريا الجنوبية، أول من أمس الأحد، من أن كوريا الشمالية تتبع "مساراً مشابهاً" لمسار العام 2017 عندما كان التوتر في ذروته في شبه الجزيرة الكورية.
وقال الرئيس الكوري الجنوبي مون جاي-إن في بيان إن بيونغ يانغ "تقترب من خرق التعليق الذي فرضته على نفسها" للتجارب النووية واختبارات الصواريخ البالستية العابرة للقارات.
وفي بيان أمس الإثنين، قالت وزارة الدفاع الكورية الجنوبية إن وزير الدفاع، سوه ووك، زار قيادة الصواريخ أمس، للتأكد من جاهزيتها في مواجهة تجارب إطلاق الصواريخ التي أجرتها كوريا الشمالية.
وقال سوه إن "سلسلة إطلاق الصواريخ التي أجرتها كوريا الشمالية، بما فيها إطلاق صاروخ متوسط المدى، تشكل تهديداً مباشراً وخطيراً لنا، وتحدياً كبيراً للسلام والاستقرار الدوليين". وأضاف "سنُبقي على وضع الاستعداد العسكري الكامل الذي يمكنه الرد على الفور على أي موقف".
بدوره، قال وزير الدفاع الياباني نوبو كيشي، للصحافيين إن كوريا الشمالية تصعد استفزازها للمجتمع الدولي، وأضاف أن "تطورها الملحوظ" في تكنولوجيا الصواريخ "لا يمكن التغاضي عنه".
تجارب صاروخية في مرحلة حساسة
وتأتي العمليات المتكررة لإطلاق الصواريخ من قبل بيونغ يانغ، لتُضيف مشكلة أخرى إلى لائحة ضخمة أصلاً من التحديات الدولية التي تواجه واشنطن.
كما تأتي في مرحلة حسّاسة تشهدها المنطقة، إذ تستضيف الصين، الحليف الرئيسي لنظام كوريا الشمالية، دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في فبراير/شباط الحالي، بينما تُجري كوريا الجنوبية انتخابات رئاسية في مارس/آذار المقبل.
كذلك، تستعد بيونغ يانغ للاحتفال بالذكرى الثمانين لميلاد والد كيم، الزعيم الراحل كيم جونغ إيل الشهر الحالي، ثم الذكرى العاشرة بعد المائة لميلاد كيم إيل سونغ الزعيم المؤسس للبلاد، في إبريل/نيسان المقبل.
وفي السياق، قال ليف إيسلي، الأستاذ في جامعة إيها في سيول، لوكالة "فرانس برس"، إن "نظام كيم يسمع ما يُقال في الخارج عن ضعفه الداخلي، وبالتالي فهو يريد أن يذكّر واشنطن وسيول بأن أي محاولة لإطاحته ستكون مكلفة جداً".
وتأتي مضاعفة تجارب الأسلحة أيضاً بينما يواجه الاقتصاد الكوري الشمالي صعوبات كبيرة بسبب العقوبات الدولية وبسبب إغلاق الحدود منذ عامين تقريباً باسم مكافحة فيروس كورونا.
الاختبارات المتتالية للصواريخ، قد تكون وسيلة لوضع الولايات المتحدة في موقف تفاوضي أضعف
رفض بيونغ يانغ مقترحات للحوار قدمتها أميركا
ومنذ تولي الرئيس الأميركي جو بايدن مهماته في يناير 2021، رفضت بيونغ يانغ مقترحات الحوار المختلفة التي قدمتها واشنطن. وقد هدد النظام الكوري الشمالي في 20 يناير/كانون الثاني الماضي، باستئناف تجاربه النووية أو الصاروخية، مبرراً ذلك بالسياسة "العدائية" التي تنتهجها الولايات المتحدة تجاهه.
ووسط موجة من الجهود الدبلوماسية في عام 2018 والتي شملت لقاءات قمة مع الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب، أعلن الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون اكتمال قوته النووية، وقال إنه سيوقف التجارب النووية وعمليات إطلاق الصواريخ ذات المدى الأبعد.
وبعد تعثر المحادثات في عام 2019، قال كيم إنه لم يعد ملزماً بهذا الأمر. وتعهد كيم قبيل العام الجديد بتعزيز القدرات العسكرية لكوريا الشمالية.
ووفق شبكة "سي أن أن" الأميركية، يقول مسؤولون أميركيون إن "الاختبارات المتتالية للصواريخ، قد تكون وسيلة لوضع الولايات المتحدة في موقف تفاوضي أضعف".
ولطالما أعلنت إدارة بايدن عن رغبتها باستئناف الدبلوماسية مع بيونغ يانغ، بينما لم يكن هناك "نقاش جاد داخلياً" حول لقاء بين بايدن وكيم، وفق ما نقلت "سي أن أن" عن مسؤول أميركي كبير.
وأوضح المسؤول أن المسؤولين في الإدارة الحالية "حريصون على إجراء محادثات على مستوى أدنى في أي وقت وفي أي مكان". وتابع المسؤول أنه "في حين أن واشنطن واثقة من تلقي رسائلها، إلا أنها ما زالت تنتظر رداً من كوريا الشمالية".
وكان المتحدث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس، قد قال في وقت سابق، إن "الحوار والدبلوماسية هما أكثر الوسائل فعالية لمساعدتنا في الوصول إلى الهدف الشامل، وهو نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية بشكل كامل". كما قال إن الولايات المتحدة مستعدة لإجراء محادثات مع كوريا الشمالية "من دون شروط مسبقة".
شيرمان قد تكون أفضل مسؤولة أميركية لقيادة الدبلوماسية بشأن كوريا الشمالية
ويقول بعض المحللين، وفق تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز"، نشر الخميس الماضي، إن نائبة وزير الخارجية الأميركي، ويندي شيرمان، قد تكون أفضل مسؤولة أميركية لقيادة الدبلوماسية بشأن كوريا الشمالية. فإلى جانب خبرتها، فإن منصبها كثاني مسؤولة في وزارة الخارجية يمنحها مكانة في هذا الإطار.
ويشير المحللون إلى أن المسؤولين الكوريين الشماليين أرادوا في سنوات ترامب شريكاً في المفاوضات يكون أعلى من ستيفن إي بيجون، المبعوث الأميركي الخاص إلى كوريا الشمالية وقتها.
ويقول محللون، وفق صحيفة "نيويورك تايمز"، إن العقوبات الشديدة التي فرضها أسلاف الرئيس بايدن على بيونغ يانغ، لم تدفع كيم إلى الاقتراب من التخلي عن برنامج أسلحته النووية.
كما أن عنصراً حاسماً يقترن عادةً بالعقوبات، وهو الدبلوماسية، كان مفقوداً حتى الآن في نهج بايدن، بينما كانت أزمات أخرى، بينها أفغانستان وأوكرانيا وإيران، أولوية على أجندة السياسة الخارجية الأميركية. ويبدو أن كيم يريد أن يكون من ضمن هذه الأولويات، وفق "نيويورك تايمز".
تراجعت الجهود المبذولة في واشنطن لحمل كوريا الشمالية على وقف برنامج أسلحتها النووية
وبحسب الصحيفة، تراجعت الجهود المبذولة في واشنطن لحمل كوريا الشمالية على وقف برنامج أسلحتها النووية بعد أن التقى كيم وترامب في هانوي، في فيتنام عام 2019.
وأضافت أنه "من الواضح أن علماء كوريا الشمالية يعملون أن برنامج الأسلحة، ركن أساسي في دعاية بيونغ يانغ وفي نفوذ كيم في المفاوضات مع الولايات المتحدة ودول أخرى"، مشيرة إلى أنه "كلما زاد عدد الأسلحة التي يمتلكها كيم، وكلما زادت قوتها، زادت مكانته داخل وخارج كوريا الشمالية".
ولكن واحدة من أكبر المعضلات في شأن أي مفاوضات محتملة، هي كيفية العمل مع الصين للحد من برنامج أسلحة كوريا الشمالية، إذ يوازن الرئيس الصيني، شي جينبينغ، بين أهداف مختلفة؛ لكونه يريد إنهاء الاضطراب الذي تسببه أسلحة بيونغ يانغ، بينما يسعى أيضاً لتجنب اقتراب الأخيرة من واشنطن أو سيول.
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)