تستمر معاناة القطاع الصحي المصري تحت نير جائحة كورونا، مع نقص المواد الطبية بصفة عامة، والأكسجين بصفة خاصة، مع تقاعس الدولة وعجز وزارة الصحة والموردين عن سدّ العجز القائم منذ ثلاثة أسابيع تقريباً، أي مع بداية تفشي الإصابات بالموجة الثانية من الجائحة، في جميع المستشفيات الحكومية والخاصة ومراكز بيع الإسطوانات بالجملة والتجزئة. وهي الأزمة التي تفاقمت على مراحل. وحتى أن المصريين شاهدوا على مدار اليومين الماضيين، مقاطع فيديو من مستشفى زفتى بالغربية، ومستشفى الحسينية بالشرقية (المحافظتان في دلتا النيل)، هزّت مشاعرهم وانتشرت على نطاق واسع. وتظهر المقاطع وفاة جماعية لمصابي كورونا المحجوزين في العناية المركزة، بسبب توقف إمدادات الأكسجين في المستشفيين نهائياً.
أزمة الأكسجين عامة، وليست خاصة بمحافظتي الغربية والشرقية
وتحت ضغط الانزعاج الكبير بين المواطنين على مواقع التواصل الاجتماعي، والدعوات المتصاعدة لعدم التوجه إلى المستشفيات ومحاسبة وزيرة الصحة هالة زايد، وجّهت الاستخبارات العامة الوزيرة للظهور مع الإعلامي عمرو أديب مساء أول من أمس السبت، للدفاع عن نفسها ومحاولة إظهار حوادث نقص الأكسجين باعتبارها مشاكل فردية وستحاسب المتسببين فيها. وجاء ذلك فضلاً عن التشكيك في مصداقية بعض المعلومات المنشورة على صفحات التواصل من قلب مستشفيات أخرى على مستوى الجمهورية، بالتزامن مع صدور بيان من النيابة العامة تتعهد فيه بالتحقيق العاجل في واقعة مستشفى زفتى، على الرغم من سابقة نفيها من قبل مديرية الصحة بالغربية.
وكشف مصدر مسؤول في ديوان وزارة الصحة، أن أزمة الأكسجين عامة، وليست خاصة بالمستشفيين المذكورين أو بمحافظتي الغربية والشرقية، موضحاً أن 70 في المائة من مستودعات الأكسجين على مستوى الجمهورية لا تُعبّأ يومياً، ما معناه عدم وجود احتياطي كافٍ موزع بشكل غير مركزي وعادل ليعين المستشفيات على استقبال المرضى، لا سيما في حالات الطوارئ.
وأضاف المصدر أن واقعتي المستشفيين حدثتا بالطريقة نفسها تقريباً مع اختلاف التوقيت وعدد الضحايا، إذ أبلغت إدارة المستشفيين المسؤولين في الإدارة والمديرية والمحافظة بضرورة تعبئة المستودع العمومي لكل منهما قبل أكثر من 24 ساعة على نفادهما، لكن المسؤولين الأعلى لم يتمكنوا من توفير الأكسجين نتيجة ضعف الضخّ في المحافظتين وتوزيع النسبة الأكبر منه على مستشفيات أخرى لم تحصل عليه منذ وقت أطول. وأوضح المصدر أن المستشفيين نفّذا بصورة حرفية تعليمات الوزارة والإدارات الصحية بقصر تزويد الأكسجين على حالات كورونا المتأخرة فقط من دون غيرها من الحالات، وتحويل الحالات التي في حاجة لعمليات جراحية كبيرة إلى مستشفيات أخرى، واتباع إجراءات طبية مغايرة في حالات العمليات الجراحية البسيطة والمتوسطة لتلافي استخدام الأكسجين.
وأكد المصدر أن حديث وزيرة الصحة عن توافر 350 ألف ليتر من الأكسجين الطبي في الشبكات الخاصة بمستشفيات الوزارة، هو اعتراف ضمني بسوء التقدير وعدم إدراك حقيقة الموقف المأزوم أو التغاضي عنه لأسباب سياسية أو اقتصادية، لأن هذا الرقم يشمل جميع المستشفيات الحكومية والخاصة والمعاهد القومية، ولا يشمل فقط المستشفيات العسكرية والجامعية التي تمتلك شبكات خاصة بها، ولا يُعرف على وجه التحديد كيفية التصرف فيها. أما الزيادة التي وعدت الوزيرة منذ 10 أيام تقريباً بضخّها يومياً، بالإضافة إلى الكميات المتوافرة وهي 60 ألفاً، لم تصل عملياً أبداً إلى نصف هذا الرقم، بسبب ضعف الإنتاج من الشركات الحكومية والخاصة التي تتعاقد معها الوزارة، علماً بأن شركات قطاع الأعمال العام تزود المستشفيات الحكومية بنحو ثلث حاجتها اليومية من الأكسجين.
نقص التوريد ليس السبب الوحيد
وكشف المصدر عن محور آخر لتفاقم الأزمة في الواقع العملي، يتمثل في الزيادة المطردة في أعداد المصابين الذين تستوعبهم المستشفيات الحكومية من مرضى كورونا خلال الموجة الثانية الحالية، بما يفوق قدرة شبكات الأكسجين والمستودعات القائمة على حاجة غرف العناية المركزة والحالات الخطيرة.
وشرح المصدر ذلك بالأرقام، أن الوزارة حالياً بات لديها قدرة أكبر على استيعاب المرضى في المستشفيات الحكومية، قياساً بالموجة الأولى من الجائحة، حيث أصبح متوفراً 363 مستشفى بسعة 34 ألف سرير تقريباً، منها 26 مستشفى للعزل بسعة تقل قليلاً عن سبعة آلاف سرير. لكن الحقيقة أن نسبة لا تقل عن 25 في المائة من هذه القدرة، أضيفت حديثاً خلال فترة الاستعداد للموجة الثانية، بتكليفات رئاسية بزيادة القدرة الاستيعابية للمستشفيات، وتم تمويلها من خارج ميزانية وزارة الصحة، وتحديداً بواسطة حزب "مستقبل وطن" التابع للاستخبارات العامة وعدد من الجمعيات الأهلية القريبة من السلطة وكذلك صندوق "تحيا مصر" التابع للرئاسة والجيش.
لكن المشكلة أن القدرة الاستيعابية زادت في عدد الأسرة فقط، من دون أن تواكب هذه الزيادة زيادات أخرى في جميع أركان المنظومة الصحية، بداية من عدد أفراد الطواقم الطبية والتمريض وحتى الإمكانات اللوجستية وقدرة شبكات الأكسجين والمستودعات وأجهزة التنفس الصناعي وأجهزة ومواد التحاليل الطبية اللازمة بشدة وكثافة خلال جائحة كورونا.
وأوضح المصدر أن هذا الأمر يخلق مشهداً عبثياً يتحول من دون أن يدري المسؤولون إلى حشد أعمى وعاجز للمصابين داخل المستشفيات، من دون امتلاك القدرة على علاجهم، ما يهدد بزيادة معدلات الوفيات على الرغم من أن الموجة الثانية في معظم أنحاء العالم تأتي بمعدلات وفاة منخفضة قياساً بانتشار الإصابات. وحتى أمس الأحد، بلغ العدد الإجمالي لحالات الإصابة المسجلة بمصر 140878 بينما بلغ عدد الوفيات 7741، لتستقر نسبتها عند 5.5 في المائة لإجمالي الإصابات.
زيادة مطردة في أعداد المصابين الذين تستوعبهم المستشفيات الحكومية من مرضى كورونا خلال الموجة الثانية الحالية
وهنا يأتي سبب آخر للتكدس في المستشفيات وعدم كفاية الموارد، والذي لا يتسق مع تصريحات وزيرة الصحة عن عدم تجاوز نسبة الإشغال الـ40 في المائة، وهو أن نسبة كبيرة، يقدرها المصدر المطلع بحوالي 50 في المائة من المصابين بكورونا الذين تستقبلهم المستشفيات، لا يسجلون من الأصل كمصابين، وهي ظاهرة تمثل، منفردة، مفارقة غير منطقية بالنظر لأعداد الإصابات الضئيلة المعلنة يومياً من قبل الوزارة.
ويعود هذا التناقض إلى أن المستشفيات تقبل المصابين القادمين في حالة حرجة بمجرد الاطلاع على الأشعة والفحوص الطبية العيادية، من دون انتظار لإجراء تحليل "بي سي آر"، وبالتالي فإن نسبة معتبرة من المصابين يدخلون المستشفيات ويخرجون من دون إجراء التحاليل، وبالتالي من دون التسجيل في منظومة المصابين. ويأتي ذلك في الوقت الذي يزدحم فيه الجميع، سواء كانوا قد أجروا التحليل أو اكتفت المستشفى بالفحص العيادي لهم، طلباً للأكسجين محدود الكمية من الأساس، ما يتسبب في زيادة الآثار السلبية للأزمة. وأشار المصدر إلى أن البديل الوحيد للوضع الحالي، هو التلبية السريعة لتوصية الوزارة بضرورة التفعيل العاجل للمستشفى الميداني الذي سبق وجهزّته القوات المسلحة في أرض المعارض الجديدة في التجمع الخامس شرقي القاهرة. وكان رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي قد افتتح هذا المستشفى في يونيو/حزيران الماضي، واستعرضه دعائياً وإعلامياً، من دون تشغيله أو استضافة أي مصاب من خارج فئة ضباط وأفراد القوات المسلحة وأسرهم.
دور القوات المسلحة
ورجّح المصدر بناءً على معلومات جديدة متداولة في أوساط الحكومة، أن القوات المسلحة ستتولى الإشراف على منظومة إنتاج الأكسجين قبل نهاية الشهر الحالي، لكن لم يتضح حتى الآن ما إذا كانت ستتولى بنفسها الإنتاج والبيع في السوق من عدمه، الأمر الذي ربما يكون مصدر دخل كبير لها خلال الفترة المقبلة، سواء بالتعاقدات مع الكيانات المختلفة أو البيع للأفراد. واستطرد المصدر بأن جميع تعاقدات الوزارة في هذا الملف حالياً مع شركات لا تمت للجيش بصلة.
وذكر المصدر أن الوزارة رصدت انتعاشاً كبيراً للمبادرات الشعبية لتوزيع أسطوانات الأكسجين على المرضى في المنازل، غير أنه وصف هذا الأمر بالسلاح ذي الحدّين. فمن ناحية، ستساهم هذه المبادرات في تخفيف العبء عن القطاع الصحي، خصوصاً بالنسبة للحالات المتوسطة التي لا تتطلب عناية مركزة، ولكن لا ينصح ببقائها في المنزل بصورة عادية، لكن في الوقت نفسه ربما تؤدي المبادرات إلى زيادة انتشار الفيروس بسبب غياب الثقافة الطبية عن المتطوعين واحتمالية عدم إتقانهم التعامل مع أدوات علاج مريض كورونا بصورة احترازية.
وسبق أن قالت مصادر في مجلس الوزراء ووزارة الصحة إن من المؤشرات الخطيرة التي رصدتها لجان متابعة مستشفيات العزل والصدر والحميات في الأسبوعين الأخيرين، انخفاض متوسط الوقت الذي يقضيه مصاب كورونا في وحدات العناية المركزة في تلك المستشفيات بين الدخول والوفاة، وذلك نتيجة التسجيل المتأخر للإصابات وعدم إجراء التحاليل المطلوبة مبكراً، لا سيما في المحافظات والمناطق الشعبية. ويأتي ذلك فضلاً عن صعوبة استيعاب جميع الحالات الخطيرة التي تحول بشكل مركزي إلى المستشفيات في المناطق التابعة لها جغرافياً.
وأشارت المصادر إلى أنه وفقاً للنموذج الخاص بالأعداد المتوقعة للمصابين، فإن عدد الإصابات حالياً يتخطى 28 ألفاً، وهو رقم قريب مما كان متوقعاً في منتصف الشهر، بناء على عدد الإصابات الرسمية المسجلة في المستشفيات، وعدد النتائج الإيجابية لتحليل "بي سي آر" في المعامل المركزية والخاصة التي أتاحت هذه الخدمة قريباً، وعدد حالات الاشتباه المسجلة في المستشفيات الحكومية والخاصة، ومتوسط عدد التحاليل التي كان من المفترض إجراؤها قياساً بحالات الاشتباه تلك. ويرصد ذلك مع اعتبار هذه الأعداد جميعاً تمثل نسبة الخُمس من إجمالي الحالات المصابة الموجودة في الشارع، للتوصل في النهاية إلى محاكاة قريبة لنماذج افتراضية أخرى عديدة متبعة في دول العالم، التي تتوسع في إجراء تحاليل "بي سي آر" لمواطنيها، خصوصاً ألمانيا وبريطانيا وفرنسا.
وكان اجتماع اللجنة العليا للأزمة في مصر قد أسفر عن اتخاذ قرارات اعتبرها مراقبون أضعف بكثير من التصدي للوضع الوبائي الحالي. وتمثلت هذه القرارات في الاكتفاء بإلغاء الاحتفالات بمناسبة رأس السنة واتخاذ إجراءات الإغلاق لأي منشأة تقوم بتنظيم أي احتفالية، ووقف الفعاليات والاحتفالات والمهرجانات والإغلاق الكامل لدور المناسبات، وغرامة فورية على أن تبدأ من 50 جنيهاً للأفراد الذين لا يُطبقون الإجراءات الاحترازية في المواصلات العامة، وغرامة 4 آلاف جنيه (252 دولارا أميركيا) مع إغلاق المنشأة لمدة أسبوع للأماكن التي لا تلتزم بالإجراءات الاحترازية، وذلك ابتداء من الأحد المقبل.