تسارعت التطورات في قضية المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أمس الأول الخميس، مع اقتراب موعد الزيارة المرتقبة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى العاصمة الفرنسية باريس ليلتقي نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، في أول مباحثات دولة موسعة بينهما منذ عامين تقريباً، وسط هجوم إعلامي وانتقادات حقوقية فرنسية، واستعدادات لتسيير تظاهرات أمام قصر الإليزيه، احتجاجاً على استضافة رئيس يُكرس نظامه الاستخبارات والأمن والقضاء للتنكيل بالمعارضين والحقوقيين.
ومن حصيلة تواصل "العربي الجديد" مع مصادر دبلوماسية وحقوقية مصرية وغربية بالقاهرة بشأن حقيقة ما دار قبل الإعلان المفاجئ عن إخلاء سبيل النشطاء الثلاثة بالمبادرة، جاسر عبد الرازق وكريم عنارة ومحمد بشير، أظهرت المعلومات أن اتصالات مكثفة بين الإليزيه وقصر الاتحادية الرئاسي، وبين وزيري الخارجية والسفارة الفرنسية في القاهرة، صبت في اتجاه ضرورة حل هذه الأزمة بالإفراج الفوري عن المعتقلين الثلاثة، وإلا فسوف يتحدث ماكرون خلال المؤتمر الصحافي، الذي سيعقب لقاءه بالسيسي، عن هذه الأزمة، كما حدث في زيارته الأخيرة للقاهرة، في يناير/ كانون الثاني 2019، عندما دخل الاثنان في خلاف علني حول طبيعة ومفهوم حقوق الإنسان ومدى احتياج الشعب المصري لفتح المجال العام. وخلف هذا الأمر وقتها حالة من الفتور بين الطرفين، وأدى إلى تعثر التعاون في عدد من المجالات، على الرغم من استمرار التنسيق - بل وتناميه - في مجالات أخرى، أبرزها التعاون الاستخباراتي والعسكري في مواجهة تركيا، لا سيما على التراب الليبي.
نجحت السلطات بتمرير اللائحة التنفيذية لقانون العمل الأهلي من دون الاضطرار لعرضها على السفارات الأجنبية
وذكرت المصادر أيضاً أن مفوضية الاتحاد الأوروبي، وكذلك عدداً من العواصم الأوروبية الأخرى، أشارت إلى إمكانية استغلال زيارة السيسي لباريس، لإصدار بيانات شجب لسياساته في ملفات حقوق الإنسان والتعامل مع المعارضة. وبالتوازي مع التهديدات الخارجية، فإن ثمة أصواتاً داخل النظام المصري، وتحديداً من وزارة الداخلية وجهاز الأمن الوطني، نصحت دائرة السيسي بتحقيق انفراجة في الملف دون غلقه تماماً، مستندة إلى أربعة أهداف رئيسية، تحققت بالفعل من الهجمة الأمنية على المبادرة، والتي حركتها بشكل أساسي الدائرة الصغيرة المتحكمة في المخابرات العامة وباقي الأجهزة الأمنية، والمشكّلة من مدير المخابرات عباس كامل ومساعده أحمد شعبان ونجل السيسي ضابط المخابرات محمود.
أول تلك الأهداف نجاح النظام في تمرير اللائحة التنفيذية لقانون العمل الأهلي، والتي لم تعلن تفاصيلها حتى الآن، من دون الاضطرار لعرضها على السفارات الأجنبية، وبضمان عدم ظهور معارضة موضوعية لها. واستطاع النظام خفض سقف توقعات الدول الغربية من جانب، والمنظمات الحقوقية المحلية من جانب آخر. وبدلاً من تحويل اللائحة إلى معركة مفتوحة إعلامياً، تغيرت الأولويات وبات الإفراج عن المعتقلين الثلاثة على رأس مطالب الحركة الحقوقية والسفارات الأجنبية، بغض النظر عن التبعات، وتأثير هذه الأزمة على العمل الحقوقي والأهلي بشكل عام.
أما الهدف الثاني فهو جعل المبادرة تحت الضغط، وهي واحدة من المنظمات الحقوقية النادرة ذات النشاط المستمر في مصر بعد الانتكاسة التي أصابت العمل الأهلي بشكل عام، بفتح قضية التمويل الأجنبي للمنظمات الحقوقية عام 2015، ثم إصدار قانون العمل الأهلي الملغى عام 2017، خصوصاً أن قرار التحفظ على أموال المبادرة ما زال سارياً ولا يعرف أحد مصيره (من المقرر النطق بالحكم فيه غداً الأحد)، فضلاً عن الاهتمام الحكومي بتوفيق المبادرة لأوضاعها تحت اللائحة الجديدة للقانون الحالي الصادر عام 2019، بعدما كانت وزارة التضامن تعرقل في السنوات الماضية محاولات المبادرة توفيق أوضاعها.
وسيؤدي هذان الأمران، التحفظ وتوفيق الأوضاع، بالضرورة إلى صعوبة مزاولة المبادرة نشاطها بالوتيرة المرتفعة والمناهضة للنظام ذاتها، خصوصاً في الموضوعات التي أبرزت التحقيقات التي أجريت مع النشطاء الثلاثة غضب الدولة من إثارتها، مثل الدفاع عن حقوق المثليين، وأوضاع السجناء الصحية والنفسية في ظل جائحة كورونا، وحالات الإعدام السريعة.
أما الهدف الثالث الذي حققته الهجمة الأمنية من وجهة نظر أصحاب هذه الرؤية من الأمن الوطني، فهو النجاح في توجيه رسالة إرهاب وتخويف إلى جميع مؤسسات العمل الأهلي والحقوقي من الخروج عن مظلة القانون واللائحة التنفيذية المرتقبة. وكذلك تهديد أصحاب الرأي داخل مصر، بمختلف توجهاتهم ووسائل الإعلام أو التواصل التي يظهرون فيها، بالتنكيل بهم لأبسط الأسباب. وكذلك تخويف الكيانات ذاتها من التواصل مع السفارات الأجنبية بشكل علني، ارتباطاً بالاجتماع الذي نظمته المبادرة في مطلع الشهر الماضي وحضره عدد من سفراء الدول الأوروبية.
وبناء على تحقق تلك الأهداف، من وجهة النظر الأمنية، نصحت أصوات الأمن الوطني دائرة السيسي بالإفراج عن المعتقلين لتخفيف الضغوط المنتظرة خلال رحلة باريس، واستغلالها في توجيه رسائل إيجابية للإدارة الأميركية الجديدة أيضاً. كما نصحت أيضاً بأن يتم إخراج المشهد بصورة توحي بأن حراكاً من داخل النظام نفسه هو السبب في الانفراجة، وأن وساطات سياسية وأمنية داخلية أثمرت إخلاء السبيل. وبناء على تلك النصيحة استعان النظام بمحمد أنور السادات، رئيس حزب "الإصلاح والتنمية"، والمعروف بعلاقته المتذبذبة مع أجهزة النظام ومشاركته الدائمة في الاجتماعات التنسيقية التي تعقدها المخابرات والأمن الوطني مع ممثلي القوى السياسية، ليجتمع على مدار ثلاثة أيام بشخصيات حقوقية ونشطاء، وكذلك بممثلين لسفارات أوروبية. ثم اجتمع، الخميس الماضي، بصحبة النائبة بمجلس الشيوخ فريدة النقاش، والدة جاسر عبد الرازق، برئيس مجلس الشيوخ المستشار عبد الوهاب عبد الرازق، ليبدو المشهد وكأنه نتاج وساطة داخلية لحل الأزمة.
قرار التحفظ على أموال المبادرة ما زال سارياً ولا يعرف أحد مصيره
والمفارقة أنه بينما التقط عدد من الحقوقيين، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، الرسالة، وحرصوا على توجيه الشكر، عبر صفحات التواصل الاجتماعي، إلى السادات وعدد من النواب والسياسيين والأمنيين الذين اشتركوا في الاتصالات الأخيرة، ففي المقابل التفتت الغالبية العظمى من المتابعين إلى الحملة الحقوقية التي شارك فيها عدد من نجوم الصف الأول بهوليوود والسينما البريطانية للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين، مثل سكارليت جوهانسون وإيما طومسون وكاري موليغان، والتي لم تشهد مصر مثيلاً لها من قبل، بفضل العلاقات القوية التي تربط نشطاء المبادرة بدوائر حقوقية فاعلة في الولايات المتحدة وبريطانيا.
وتكتسب زيارة السيسي لباريس أهمية استثنائية بسبب الوضع الحالي لحقوق الإنسان في مصر، وإصرار الفرنسيين، في الوقت نفسه، على استعادة الأولوية في صفقات السيسي العسكرية والاقتصادية، وتلافي الآثار السلبية التي وقعت على مجالات الاستثمار وبيع الأسلحة في العامين الأخيرين، بالنظر لحجم الصفقات التي أبرمها الجيش المصري وحكومة السيسي مع إيطاليا وألمانيا. ويواجه ماكرون انتقادات لاذعة بسبب تعامل حكومته المتقدم مع نظام السيسي في السنوات الماضية، وبصفة خاصة في ملف التسليح، امتداداً لهجوم سابق من منظمات عدة، أبرزها منظمة العفو الدولية بسبب تصديرها أسلحة مختلفة استخدمت في قمع المدنيين داخل البلاد، مؤكدة في أكتوبر/ تشرين الأول 2018، أن قوات الأمن المصرية أطلقت النار على المتظاهرين من داخل سيارات مدرعة ورّدتها فرنسا.
وسبق أن قالت مصادر دبلوماسية مصرية وأخرى أوروبية في القاهرة إن الملف الحقوقي على أهميته للفرنسيين، وحتمية مناقشته خلال الزيارة من عدة جوانب، إلا أن الأولوية ستكون لملف التعاقدات الاقتصادية والعسكرية والتسهيلات التي ترغب باريس في تأمينها لأكثر من 90 مستثمراً فرنسياً في مصر، بعضهم يشارك في مشروعات حكومية كبرى، والبعض الآخر يبحث عن فرص حقيقية لتوسيع أعماله مع الجيش والوزارات المعنية، خاصة في مجالات الخدمات العامة والمرافق والمشروعات الكبرى.