أثار كشف وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين أخيراً عن لقائه السري في روما مع وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش تساؤلات، بقدر ما أثار عدم ارتياح الإدارة الأميركية التي دفعت نحوه وأشرفت على هندسته.
في العادة، كانت الاتصالات الإسرائيلية الأولية مع عواصم عربية تحتفظ بسريتها لحين نضوج طبخة إعلانها. الخروج عن القاعدة هذه المرة لا يبدو أنه كان غلطة. وجاء زعم كوهين بأنه كان من المتفق مع الليبيين الكشف عن الاجتماع، ليعزز هذا الاعتقاد، إذ إنه لا يستقيم مع السوابق ولا مع الوقائع، وإلا ما كان ليثير امتعاض واشنطن.
ملامح استياء الإدارة كانت واضحة، وإن بصورة مبطّنة، في رد مسؤول في الخارجية الأميركية، يوم الثلاثاء، على الموضوع، بقوله إن من شأن هذا الكشف أن يزيد من "تعقيد" عملية التطبيع مع ليبيا. وكأن خطوة الخارجية الإسرائيلية كانت بمثابة "تخريب" للمحاولة التي بادرت إليها الإدارة، كخطوة في توجهها لتوسيع "اتفاقيات أبراهام"، والتي تعطيها الأولوية في سياستها الشرق أوسطية الراهنة كمدخل لإقامة معادلة جديدة في المنطقة.
بدأ تصويب الإدارة على ليبيا في يناير/ كانون الثاني الماضي، خلال زيارة مدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي أي إيه) وليام بيرنز إلى طرابلس، و"تشجيعه" لرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة لينضم إلى قافلة المطبعين العرب مع إسرائيل، وفق ما أشارت إليه المعلومات. وقد ذكرت أن الدبيبة "أبدى موافقة مبدئية على الفكرة، ولو مع خشيته من ردود فعل الشارع".
ويقال إن وزير خارجية إيطاليا أنتونيو تاياني أدلى هو الآخر بدلوه، وشجّع رئيس الحكومة الليبية على مثل هذه الخطوة، من خلال إبراز حسنات التطبيع، لناحية "التعاون مع إسرائيل في مجال المساعدات، والخبرات الزراعية والمائية"، وغيرها. وربما تكون الإدارة قد فاتحت رئيسة حكومة إيطاليا جيورجيا ميلوني بالموضوع أثناء زيارتها الأخيرة إلى واشنطن، على أساس أن إيطاليا تربطها علاقات تاريخية مع ليبيا، وأن ميلوني من المقربين من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو.
ولهذه المبادرة خلفية منسوبة سيرتها إلى معلومات إسرائيلية. ففي 2021، أجرى نائب الدبيبة حسين القطراني اتصالاً مع الطبيب النفسي الإيطالي ديفيد جيربي اليهودي، وهو من أصل ليبي، طالباً وساطته مع السفير الأميركي في ليبيا ريتشارد نورلاند لتأمين الدعم الأميركي للدبيبة ضد اللواء المتقاعد خليفة حفتر. وبحسب الرواية "جرى لقاء في تونس خلال نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، بين جيربي ونورلاند والقطراني، تقرّر أن يليه اجتماع آخر في روما بعد أسبوعين، وبحضور السفير الإسرائيلي في إيطاليا، لكن القطراني تراجع قبل الموعد"، ولم يحصل اللقاء.
مبادرة بيرنز جاءت استكمالاً لتلك الاتصالات التمهيدية، والتي رأت فيها واشنطن مقدمات واعدة. لكن تبرّع كوهين بفضح لقائه السري مع المنقوش أطاح الترتيب الذي سعت إليه الإدارة. وفي الترجيح أن هذا الفعل كان متعمداً وبعلم نتنياهو، بل بإيعاز منه. فهو غير مستعجل على تطبيع قابل للتأجيل، خاصة إذا كانت إدارة بايدن على خطه، وقد توظفه لمطالبة إسرائيل بتنازلات في تطبيع أهم مع السعودية، ليس نتنياهو على استعداد لتقديمها على حساب تماسك حكومته الذي يعطيه الأولوية في الوقت الراهن.
والاحتفاظ بهذه الحكومة، وإطلاق يدها في الضم والتوسع الاستيطاني، من شأنه، في الحسابات الإسرائيلية، أن يخلق واقعاً على الأرض تصبح معه هذه التنازلات غير ذات موضوع.
لكن الإدارة مستعجلة على بناء معادلة جديدة في المنطقة، بالترافق مع ترتيباتها الجارية للانتقال إلى التركيز على الصعود الصيني الإقليمي والدولي، والذي شهد نقلة نوعية أخيراً، تمثلت في إطلاق نواة لمشروع "ناتو" آسيوي جرى على ما بدا إرساء مداميكه الأساسية قبل حوالي أسبوعين في القمة الثلاثية في كامب دافيد، والتي جمعت كلاً من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان. كشف اللقاء الإسرائيلي الليبي كان بمثابة عرقلة، وإن مؤقتة، لعموم هذا التوجه الأميركي. ومن هنا، كان انزعاج الإدارة من قنبلة كوهين.