كريم خان.. اضطرار لطلب إصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو وغالانت بعد اضطراب طويل مثخن بالحقائق
استمع إلى الملخص
- انتقادات لخان بسبب تأخره في التعامل مع جرائم الاحتلال الإسرائيلي وتجميد التحقيقات المتعلقة بغزة، مما يعكس تحيزًا محتملًا في النظام القضائي الدولي ويثير تساؤلات حول دوافعه.
- تعقيدات موقف خان تظهر في رغبته الأخيرة بإصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، مما يشير إلى تغيير محتمل في مسار العدالة الدولية ولكن يبقى الجدل حول ما إذا كانت استجابة للضغوط الدولية.
حين ترشح خان لمنصب مدعي الجنائية الدولية لم تعترض أميركا وإسرائيل
خان دان حماس لكنه لم يتطرق لأشهر لما ترتكبه إسرائيل من جرائم بغزة
خان لم ينتبه لصلاحياته بشأن غزة إلا حين أُخذت القضية لمحكمة العدل
كان عمر الحرب في أوكرانيا خمسة أيام فقط عندما قرر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان الخوض في جرائم حرب منسوبة إلى الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022، بما جعل خطوته السريعة، وعدم انتظاره إحالة مجلس الأمن الدولي القضية، تذكر سريعاً بازدواجية العدالة الدولية حين يتعلق الأمر بدولة الاحتلال الإسرائيلي.
أظهر خان "شجاعة" في وجه روسيا حين قرّر إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيسها فلاديمير بوتين العام الماضي، مشدداً على أن البحث عن الجرائم سيعيد محكمته إلى أواخر 2013 وبداية 2014، أي إلى فترة ضم شبه جزيرة القرم. الوجه الآخر لتلك "الشجاعة" لم يكن سوى تسويف في ما خص جرائم الاحتلال، ومنها تلك الموضوعة على رفوف محكمته منذ مارس/ آذار 2021، وتلك التي شاهدها العالم كله على مدار الأشهر الثمانية الماضية.
صحيح أنه في مواجهة روسيا سرعان ما سُخّر الاصطفاف الغربي لإظهار "مخالب" المحكمة الجنائية الدولية، مستخدماً صلاحياته في فتح تحقيق دون انتظار أن يحركه أحد، أو لا حاجة أصلاً للتحريك حيث البوصلة واضحة، إلا أنه في مقابل الادعاء وطلب القبض على فلاديمير بوتين واستخدام لغة متشنجة، بدا الرجل منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي في حالة استرخاء، ولم ينتبه إلى صلاحياته لوقف الإبادة والجرائم إلا حين أحرجه أخذ جنوب أفريقيا القضية إلى محكمة العدل الدولية، غير بعيد عن مقره في لاهاي الهولندية.
تبرير كريم خان أن "معاهدة الأمم المتحدة التي تنص على منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" تتيح له التصرف لم يشمل فلسطين التي مارس بحقها أعلى درجات التلكؤ، أو ربما لأنها بعيدة عن بوصلة واتجاه التصويب المطلوب. فمنذ اختياره مدعياً عاماً للجنائية الدولية في 2021 لم يجد أفضل من ملاحقة "الإرهاب الإسلامي"، كما في مهمة أوكلت إليه في محاكمة داعش في العراق بين 2018 و2021، مؤكداً أن مهمة محكمته في أفغانستان ستنحصر في جرائم حركة طالبان وفرع خراسان لتنظيم داعش، وهو أمر عرّضه لانتقادات منظمة العفو الدولية (أمنستي) وحقوقيين أفغان، بينهم الناشطة في حقوق الإنسان حورية مصدق، بسبب استثناء الأميركي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، والقوات النظامية الأفغانية، من تحقيق جرائم حرب محتملة، واعتبرته مصدق بمثابة "استهزاء بآلاف الضحايا".
جدل لا ينتهي حول خلفية ودوافع كريم خان
بعد أن عبّر كريم خان أخيراً عن رغبته في إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير أمنه يوآف غالانت، سرعان ما حضرت المزيد من الأسئلة المحيرة بشأن تفلت المحتلين بصورة شبه دائمة مع اقتراب العدالة الدولية منهم، إذ إن التحقيق الموضوع على طاولة المحكمة الجنائية الدولية منذ مارس/ آذار 2021، بسبب عدوان إسرائيل الدموي على غزة، جرى تجميده بعد تسلم خان منصبه فعلياً في صيف ذلك العام.
أما إجاباته على الانتقادات التي طاولته، فركزت على أن مجلس الأمن الدولي فشل، وهو الذي اعتبره شرطاً للخوض في القضايا المتعلقة بفلسطين، في إحالة أي من قضايا الانتهاكات الإسرائيلية، بينما أثبت اضطراره إلى طلب مذكرة توقيف أخيراً (بحق نتنياهو وغالانت) يكشف شيئاً آخر ليس بالضرورة خاضعاً لمجلس الأمن الدولي، بقدر ما هو خاضع لتوجهات دول حتى من خارج المحكمة نفسها.
كثيراً ما يكرّر كريم خان في تصريحات عامة، بحسب ملاحظات تقارير إخبارية تتابع نشاطه منذ أعوام، الاستشهاد بالقرآن والتزامه الديني، حيث لا يخفي الرجل نظرته إلى نفسه، وبحكم أنه ينتمي إلى الأقلية الأحمدية، على أنه مضطهد دينياً في بلده الأصلي باكستان، بل واتهامات بأنهم يملكون علاقات وثيقة بدولة الاحتلال الإسرائيلي، قبل انتقال تلك الجماعة في ثمانينيات القرن الماضي إلى بريطانيا. وفي أحاديثه، يجعل الأحمدية وتجاربها الاجتماعية جزءاً من انجذابه إلى مجال حقوق الإنسان.
وفي أحيان أخرى، تعرض المحامي خان لانتقادات لاذعة على خلفية أسماء الزبائن الذين دافع عنهم وتعاون معها، وتولى مثلاً كمحامٍ الدفاع عن نائب الرئيس الكيني وليام روتو، عندما اتُهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، في أعقاب أعمال العنف التي أعقبت الانتخابات في عام 2007، والتي أدت إلى مقتل 1200 شخص، ذلك إلى جانب دفاعه عن الرئيس الليبيري السابق تشارلز تايلور، الذي أدين بارتكاب جرائم حرب، وزبائن آخرين من مثل سيف الإسلام القذافي (ابن معمر القذافي)، وقضايا أخرى متعلقة بجرائم حرب في رواندا وكمبوديا والعراق، وفقاً لما ذهب إليه تقرير صحيفة نيويورك تايمز يوم 20 مايو/ أيار.
حين ترشح كريم خان إلى منصبه مدعياً عاماً في المحكمة الجنائية الدولية لم تعترض عليه لا أميركا ولا إسرائيل غير الموقعتين على نظام روما الأساسي الذي يحكم عمل المحكمة، بل وجد دعماً من حكومة لندن باعتباره مواطناً بريطانياً. الشيء المثير للانتباه في عدم اعتراض واشنطن وتل أبيب، حتى على المستوى الإعلامي، أنه في نهايات 2020، وأثناء البحث في المرشحين، كانت الجنائية الدولية برمتها عرضة للاستهداف بسبب بحثها في جرائم حرب إسرائيلية وأميركية، وباعتبارها "معاداة سامية خالصة"، كما ذهب نتنياهو منذ سنوات، بينما أعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب فرض عقوبات على المحكمة، مثلما يهدد الآن الديمقراطي جو بايدن وأعضاء في الكونغرس الأميركي.
عندما تحرك كريم خان بوجه روسيا بدا وكأنه يتحرك من تلقاء نفسه كمدعٍ عام، لكن المواقف الغربية المسارعة في طلب شيطنة موسكو لم تكن بمعزل عن ضبط بوصلة تحركات ترتيب ملف الاتهام بارتكاب جرائم حرب. وحين قام الرجل، في محاولة الظهور محايداً، بإدانة هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ودون دلائل سوى ترديد السردية الصهيونية، لم يتطرق إلى ما يرتكبه الجانب الإسرائيلي من جرائم على الهواء. وتبين لاحقاً أن زيارته إلى دولة الاحتلال جاءت بدعوة من العائلات الإسرائيلية التي تضررت من هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، بحسب تقرير لجريدة فلسطين الإنكليزية (بالستاين كرونيكال).
إسقاطات التدين للطبطبة على الجريمة
الربط بين ثقافة وديانة كريم خان والتقاعس مع فلسطين، وأحياناً مساواة الجلاد والضحية، وحتى الخلط بين تنظيم داعش الإرهابي وحركة مقاومة مثل حماس، ليس من اختراع منتقدي الرجل، بل يؤسس له كريم خان بتصريحاته وتصرفاته، أو عدم تصرفاته.
وفي هذا الصدد، سجلت الكاتبة المغربية عائشة البصري، في مقال كتبته على صفحات "العربي الجديد" في 19 فبراير/ شباط الماضي، تحت عنوان "خطاب كريم خان الديني"، كيف أن خان "لم يعر أي اهتمام بجريمة إبادة الإسرائيليين المتواصلة للفلسطينيين في غزّة التي يقرّ بها كبار القانونيين والخبراء في دراسات الإبادة الجماعية عبر العالم"، موضحة أن إشاراته إلى جرائم الدولة الصهيونية باهتة وحذرة وغير مباشرة، على عكس وصفه الجرائم المنسوبة إلى حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي قال إنها "تصدم ضمير الإنسانية".
لم تستبعد الكاتبة البصري أن خلطاً متعمداً بين تدين خان بدين "الأحمدية" ومحاولاته ضرب حركة حماس من منظور أن أفعالها هي "أفعال بغيضة بالنسبة لأي شخص يؤمن بالله. إنها أكثر الأعمال غير الإسلامية ولا يمكن ارتكابها باسم دين اسمُه السلام"، كما جاء في خطابه أثناء زيارته إلى القاهرة يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. ولم يملك ذات الجرأة للحديث مثلاً عن كل مشاهد جنود الاحتلال وهم يرتكبون الجرائم بإسقاطات واستدعاءات دينية، وصلت حتى قمة هرم سلطتهم في استدعاءات تلمودية - توراتية.
ولعل مثل تلك المواقف المتحيزة يردها بعض الكتاب الغربيين إلى فكرة "ما بعد الاستعمار"، إذ يحاول المُستعمر السابق إلى أقصى جهد الظهور متماهياً ومتماشياً مع مستعمره السابق، بما في ذلك في مسائل تمس العدالة ومفهومها وشمولها وفروق قراءة قيمة الضحايا، تؤدي إلى صدور مواقف يقرأها منتقدو كريم خان باعتبارها تدمر أسس ما هو منوط بمحكمته وقضاتها.
في نهاية المطاف، لعل الأخطر ليس أن يطالب مثلاً بمثول رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، أمام المحكمة، بقدر ما تعد الخطوة محاولة خبيثة لخلط التحيز الشخصي، أو الاقتناع بأن خط القاضي "الديني" هو الأصح؛ وبالتالي أصح من حركة تقاوم محتلاً لوطنها وقاتلاً لشعبها، ومن شعب يطالب بالتحرر، وبما يختزل مأساة غزة في أنها بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، منفصلة عن تاريخ طويل من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي عجزت عنها العدالة الدولية إلى حين، فجاء خان ليظهرها أكثر عجزاً، في محاولة سقيمة للظهور "نزيهاً" في مساواة الضحية والجلاد، برغم اعتراف حماس بأن أخطاء وقعت مع بداية هجوم "طوفان الأقصى".
صحيح أن ما قدمه كريم خان أخيراً، وبغض النظر عن كيف يصنف، يعتبر بكل المقاييس ضربة مؤلمة لدولة الاحتلال، ومع ذلك من الواضح أن الضحية الفلسطيني لم يسقط في فخ سقطات التفكير الصهيوني بأن كل شيء لا يروق لتل أبيب يصنف "سخيفاً ومعادياً للسامية وضد اليهود". مع ذلك، وحتى باضطراره إلى طلبه، فإن كريم خان قدم من حيث لا يريد ربما كشف حساب جديداً مع سردية صهيونية مثخنة بالحقائق.