لم يُخفِ الرئيس التونسي قيس سعيّد منذ وصوله للرئاسة أواخر العام 2019، مناهضته للنظام السياسي القائم في البلاد، مروّجاً مراراً للنظام الرئاسي، ليفتح معركة مع البرلمان صوّرها كمعركة ضد الأحزاب والنخب السياسية، وتوّجها بتعليق عمل البرلمان في قراراته الانقلابية التي أعلنها مساء 25 يوليو/تموز الماضي، وفق ما قال إنه الفصل 80 من الدستور. أتبع سعيّد ذلك بقرارات وتعيينات وتوجيهات لمسؤولين في قطاعات حيوية، هي من اختصاصات رئيس الحكومة في النظام الحالي، غير أنها في جوهر أعمال رئيس الدولة في نظام رئاسي خالص. وبذلك، يبدو سعيّد وكأنه في حملة انتخابية تسبق الاستفتاء على النظام السياسي، مروّجاً لفشل النظام القائم، مقابل فعالية النظام الرئاسي وسرعة اتخاذ القرارات ونجاعة التدخل على عكس ما كان يحدث مع البرلمان والحكومة المعطلة والخلافات السياسية، مقدماً مثالاً على ذلك النجاح في تلقيح فئات واسعة من الشعب وتقليص خطورة وباء كورونا. لكن في ظل الظروف الاستثنائية التي تعيشها البلاد، وتعليق عمل البرلمان مع غياب المحكمة الدستورية، تُطرح تساؤلات عن الخطوات التي يمكن أن يتخذها سعيّد للمرور إلى النظام الرئاسي الصرف، ومدى دستورية ذلك في الأجواء الراهنة.
سعى سعيّد منذ تسلّمه الحكم لتحميل النظام القائم مسؤولية الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحادة
وسعى سعيّد منذ تسلّمه الحكم لتحميل النظام القائم مسؤولية الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحادة التي شهدتها البلاد. وخلال زيارة إلى مدينة قابس جنوب البلاد لمعاينة حريق في أحد المصانع في مارس/آذار الماضي، وجّه الرئيس التونسي انتقادات للنظام البرلماني الذي تعتمده تونس منذ العام 2014، قائلاً: "لو كان نظام الحكم في تونس رئاسياً، لما آلت الأوضاع إلى هذا المستوى من الخراب والدمار". وردد الكلام نفسه تقريباً عندما دعا في يونيو/حزيران الماضي إلى قصر قرطاج رئيس الحكومة المقال هشام المشيشي وعدداً من رؤساء الحكومات السابقين، ودعا إلى حوار وطني يقود إلى الاتفاق على نظام سياسي جديد وتعديل دستور 2014 الذي قال إن "كله أقفال".
أستاذة القانون الدستوري منى كريم، شرحت في حديث مع "العربي الجديد"، طبيعة النظام الحالي في تونس قائلة إنه ليس نظاما برلمانيا صرفا ولا نظاماً رئاسياً صرفاً بل هو نظام مزدوج أو برلماني معدّل. وأوضحت أنه في الأنظمة البرلمانية لا يتم انتخاب الرئيس بشكل مباشر ولا يحظى بصلاحيات هامة كما في الوضع التونسي، ولا يقاسم رئيس الحكومة الصلاحيات، كما أنه في أعراف الأنظمة البرلمانية العريقة يقود الحكومة الحزب الأغلبي في البرلمان، وعادة ما يكون زعيم ذلك الحزب أو الائتلاف البرلماني، أما الرئيس فيُعيّن من البرلمان أو ينتخبه، وتكون صلاحياته الدستورية فخرية أو رمزية بتعيين رئيس حكومة يختاره ائتلاف البرلمان أو إبرام اتفاقات أو بعض الضمانات الدستورية.
أما في الأنظمة الرئاسية، وفق كريم، فإن الرئيس يمتلك صلاحيات تسيير الجهاز التنفيذي واقتراح القوانين والتشريعات، وهو يعيّن وزيراً أول أو رئيس وزراء لمساعدته في تنفيذ سياساته، وتكون صلاحيات الرئيس المنتخب مباشرة من الشعب، واسعة، ويكون دور البرلمان رقابياً على الرئيس والحكومة، ويُعتبر البرلمان ضمانة، بالإضافة إلى المحكمة الدستورية العليا التي تراقب الرئيس ومدى دستورية قراراته. ولفتت إلى أن رهان الدساتير في الأنظمة الديمقراطية هو تجسيد التوازن بين السلطات والفصل بينها وتجسيد حكم الشعب عبر ممثليه ومن يختارهم للحكم، موضحة أن تحقيق الديمقراطية هو ما يميز بين النظامين الرئاسي والبرلماني وكلاهما جيد إذا ما حقق ذلك، فيما الاختلاف يكمن في الممارسة.
لكنها أشارت إلى أن الهواجس والمخاوف من النظام الرئاسي في تونس تعود إلى فترة ما قبل 2011، إذ كان واضعو الدستور يخشون العودة بالبلاد إلى نظام رئاسوي، في وقت يمكّن النظام البرلماني من تمثيل أوسع ومشاركة أكبر للمعارضة، معتبرين أن الحكم البرلماني ضمانة ضد عودة الاستبداد أو الانحراف بالحكم، فيما يعتبر مناصرو النظام الرئاسي أنه أكثر قوة وصرامة وسرعة في التنفيذ وهو ما تحتاجه البلاد للمسارعة بالخروج من الوضع.
ورأت كريم أن المرور من النظام الحالي، إلى النظام الرئاسي الصرف أو البرلماني الصرف، يكون عبر تعديل الدستور الذي ينظّم صلاحيات كل سلطة والعلاقة بينها، ولكن في الوقت الحالي من غير الممكن تعديل الدستور، كما ينصّ الدستور نفسه، بسبب تعليق البرلمان، المسؤول عن التعديل الدستوري الذي يمكن أن يقترحه الرئيس أو النواب، كما لا يمكن ذلك أيضاً بسبب عدم تعيين أعضاء المحكمة الدستورية التي يشترط أن تراقب مدى دستورية هذا التعديل وعدم الانحراف به.
ولفتت إلى أنه في الوضع الاستثنائي الحالي وفي غياب محكمة دستورية وتعليق البرلمان يمكن أن يستند الرئيس إلى تدابير استثنائية من خارج الدستور الحالي معتمداً على المشروعية القانونية والشعبية بأن يطرح استفتاء لتغيير النظام السياسي. وبيّنت أن إصدار مرسوم منظم للسلطات العمومية يجسد النظام الرئاسي بدلاً عن الدستور هو إجراء لادستوري باعتبار أن الدستور يشترط إصدار مراسيم في حالة حل البرلمان وليس تجميده أو تعليق أعماله، ويمكن للرئيس ذلك بعد حله نهائياً، مشيرة إلى أنه لا يمكن في الحالة الاستثنائية تعديل الدستور عبر أوامر رئاسية.
أمام هذا الواقع، ينتظر التونسيون أن يفصح سعيّد عن نواياه، أو بالأحرى عن كيفية تنفيذ توجهاته، وهو قال للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم السبت الماضي إنه سيكشف قريباً عن خريطة الطريق للفترة المقبلة و"سيواصل إيلاء الشرعية الشعبية ما تستحقه من مكانة وأهمية". ويحيل التشديد على "الشرعية الشعبية" في هذا البيان إلى أن سعيّد ماضٍ في برنامجه معتمداً أساساً على هذه الشرعية. وعن ذلك، قال رئيس "الكتلة الديمقراطية" المعارضة، نعمان العش، في تدوينة على صفحته في "فيسبوك": "نحن في حالة تعليق للدستور غير معلن، قف انتهى".
أجرى سعيّد تعيينات وأعطى توجيهات لمسؤولين في قطاعات مختلفة، وهي من اختصاصات رئيس الحكومة
ومتخلصاً من أعباء البرلمان، وقيود الدستور باعتبار الحالة استثنائية، واختفاء المعارضة وعدم معارضة ما يقوم به من قبل جزء من الشعب، يتصرف سعيّد بأريحية كبيرة في وضع برنامجه خطوة بخطوة، إذ عيّن مسؤولين على الوزارات لم يسمهم وزراء، بل مكلفين بتسيير الوزارات، وهي المالية والداخلية وتكنولوجيا الاتصال والصحة، وذلك قبل اختيار رئيس وزرائه (الدستور التونسي يتحدث عن رئيس حكومة وليس رئيس وزراء أو وزيراً أول، لأن تلك تسميات في نظام رئاسي). وعلى امتداد الأسبوع الماضي، استقبل مسؤولين عن قطاع الحبوب والصيدليات والمياه والبنوك ورجال الأعمال وغيرهم، داعياً إلى تقليص الأسعار وتسهيل الحياة على المواطنين، وهي من اختصاص رئيس الحكومة في النظام البرلماني الحالي.
وعن ذلك، رأى أستاذ القانون الدستوري رابح الخرايفي، في حديث مع "العربي الجديد"، "أننا نعيش في جوهر النظام الرئاسي، ولكن هذا محدود بمدة ثلاثين يوماً، وسعيّد يحاول أن يزيل مكامن التعطيل في الإدارة التونسية". ولفت إلى أن "سعيّد بصدد بعث رسالة للتونسيين بأن النظام السياسي السابق هو نظام فاشل وعاجز ويجعل القرار السياسي رخواً، ولكن عندما تم تجميع قرار السلطة أصبح أكثر نجاعة وسرعة في المتابعة والمحاسبة".
واعتبر الخرايفي أن "النظام الرئاسي أكثر نجاعة وقوة وصرامة، وكنتُ من مناصريه عندما كنت نائباً في المجلس الوطني التأسيسي، لأن تفتيت السلطة وتوزيعها وحكم الأحزاب، غير الناضجة خصوصاً، يضعف الدولة"، مشيراً في المقابل إلى أن "هناك تفهماً للمخاوف من النظام الرئاسي على الحكم، إلا أنه بوجود ضمانات وآليات قوية تُمنح لبرلمان يتكوّن من أعضاء نزهاء أكفاء يمكن مراقبة الحكم". وأشار إلى أن "هذه المرحلة تشهد تحوّلات عميقة، جاءت لكنس الطبقة السياسية لـ2011 وما خلّفته، ولكن هناك إشكالاً وخطراً يتمثل في أن حركة 25 يوليو لم تفرز قيادات ومفكرين سياسيين ومنظّرين وقانونيين، بل أفرزت رئيساً للجمهورية فقط، مستعيناً بالإدارة".
محلل سياسي: الرئيس يجمع كل السلطات في يده راهناً ولم يسمح باستمرار البرلمان
من جهته، أكد المحلل السياسي شكري بن عيسى، لـ"العربي الجديد"، أن "طبيعة نظام الحكم الحالي هو نظام الحالة الاستثنائية، تم التنظير له من كارل شميت وجورجيو أغامبين، وهو نظام لا قواعد دستورية له وتحكمه وضعية الضرورة، أي أن كيان الدولة في خطر، ما يتعطل معه السير العادي لكل سلطات الدولة". واعتبر أن "الوضع الحالي هو استبدادي، أي أعلى درجة من النظام الرئاسي المحض، فالرئيس يجمع كل السلطات في يده، ناهيك عن أنه لم يسمح باستمرار البرلمان". وشبّه بن عيسى طبيعة الحكم في تونس في هذه المرحلة "بالسلطات المطلقة وكأنها سلطات إلهية تقارب النظام الثيوقراطي بما جعل الرئيس تجسيداً للأمة وللدستور"، مشيراً إلى أن سعيّد بالغ في استخدام الفصل 80 حتى أصبح هو الفصل 80 نفسه، فحلّ الحكومة وعلّق البرلمان ورفع الحصانة، وهي سلطة ثيوقراطية أعلى عشرات المرات من النظام الرئاسي الذي يفصل بين السلطات، ويكون القضاء مستقلاً والصحافة تعدل وفيه كل الضمانات، بينما اليوم لا توجد أي ضمانات، بحسب رأيه.
ورأى بن عيسى أنه "بسبب الفاعلين السياسيين الذين حكموا البلاد، وعدم كفاءتهم السياسية والاقتصادية والقانونية في كل المجالات، بدا أن النظام البرلماني فشل، خصوصاً مع التأزم الصحي الأخير بفقدان حوالي 20 ألف تونسي بسبب كورونا"، معتبراً أن "النظام البرلماني في نسخته التونسية وفي تطبيقه أثبت أنه لم يعد يصلح، ورئيس الجمهورية منذ ترشحه مقتنع بأن الرئيس لا يمكن أن يكون بلا صلاحيات".
وشدد على أن سعيّد يؤمن "بأن الرئيس يجسد الأمة وجاء لتحقيق إرادة الشعب والإرادة العامة في شخصه وبالتالي يجب أن تكون له سلطات وصلاحيات واسعة"، منتقداً "تدخّل الرئيس في تفاصيل وجزئيات، وهي على أهميتها لا تفيد، من خلال التدخّل في تخفيض أسعار المواد الغذائية وأزمة المياه والغذاء والتدخّلات في الأدوية والبنوك"، مشيراً إلى أنه "يجب أن تكون للدولة سياسات عمومية في كل المجالات المالية والصحة والاقتصاد". وشدد بن عيسى على أن "هذا يثبت أنه ليست لسعيّد سياسات ويؤكد أنه في ورطة من خلال تجربة هذا النموذج الذي يفكر فيه وفي تجسيد التصور الرئاسي الذي يبحث عنه".