قيادة المعارضة الفنزويلية وحكومتها: قصة فشل

11 يناير 2023
غوايدو يحيي أنصاره خلال تجمع في كاراكاس، أكتوبر الماضي (فيديريكو بارا/فرانس برس)
+ الخط -

بين 11 يناير/ كانون الثاني 2019، و30 ديسمبر/ كانون الأول 2022، تبدلت أحوال المعارضة الفنزويلية إلى الأسوأ، نتيجة لجملة عوامل أثّرت سلباً في مسارها، وسمحت لنظام الرئيس نيكولاس مادورو بالتقاط أنفاسه.

في التاريخ الأول، اتحدت أحزاب المعارضة حول رئيس البرلمان خوان غوايدو، وسمّته "رئيساً موقتاً" للبلاد، مُطلقة شرارة تأثير تعاقبي، نجم عنه اعتراف أكثر من 50 دولة، وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا والبرازيل وكولومبيا، بغوايدو رئيساً شرعياً لفنزويلا.

عبّد ذلك الطريق أمام تفعيل حركة إطاحة مادورو، نتيجة للتردّي الاقتصادي والفساد والقمع المتغلغل في كراكاس، فسيطر أنصار غوايدو على عدة سفارات خارجية، وأبرزها السفارة الفنزويلية في واشنطن. لكن في التاريخ الثاني، سقط الاتحاد المعارض، ليتفكك من حول غوايدو، عبر حلّ "الحكومة الموقتة"، التي استُتبعت بإغلاق السفارة في الولايات المتحدة، الجمعة الماضي. وهي ليست أول سفارة يستعيدها النظام في كراكاس، إذ استعاد قبلها السفارة في هندوراس، مطلع العام الماضي.

أُغلقت السفارة الفنزويلية في واشنطن التي كانت تديرها المعارضة

في بدايات السنوات الأربع الماضية، بلغت المعارضة الفنزويلية أقصى نفوذها، عبر الحصول على التفاف دولي حولها، سمح لها بتنظيم تظاهرات منددة بمادورو، في العاصمة ومدن فنزويلية أخرى، مستندة إلى سلبيات راكمها خَلَف الرئيس الراحل هوغو تشافيز، وعجزه عن معالجة الأزمات الاقتصادية. وشكّل قرار المحكمة العليا في عام 2017، منح مادورو سلطات مطلقة، وتجريد البرلمان، المعارض، من صلاحياته، قنبلة حقيقية بوجه مادورو، إذ نجحت المعارضة في حشد بين 2 و6.5 ملايين شخص، في احتجاج أُطلق عليه اسم "أم التظاهرات"، في 19 إبريل/ نيسان 2017. سقط 3 قتلى، وجُرح نحو 62 آخرون، قبل أن تتراجع المحكمة عن قرارها، بطلب من مادورو بالذات.

العقوبات الأميركية ونيّات ترامب بإسقاط مادورو

وساهمت العقوبات الدولية، الأميركية خصوصاً، على نظام مادورو، في زيادة رصيد المعارضة، حتى إن الرئيس السابق دونالد ترامب، بحث مراراً إمكانية إسقاط الحكم في كراكاس. فقد نقل موقع "أكسيوس"، عن عضو مجلس الشيوخ الأميركي الجمهوري، ليندسي غراهام، في يناير 2019، قوله إن "ترامب يفكر في خيار عسكري لحل الوضع في فنزويلا". وكشف غراهام عن حوار جرى بينه وبين ترامب، قائلاً: "سألني ترامب: ما رأيك في استخدام القوة في فنزويلا؟ قلت: عليك أن تكون حذراً، هذا يمكن أن يكون مشكلة. أجاب: طيب أنا مندهش، فأنت تريد أن تغزو في كل مكان". وعلّق غراهام، في هذا السياق، قائلاً إن "ترامب معبّأ بشكل عدواني تجاه فنزويلا".

غير أنه في الفترة الأخيرة، تراجع رصيد المعارضة في الخارج والداخل لاعتبارات عدة. في البداية، أفسح الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي، المجال أمام تقارب أميركي ـ فنزويلي، خصوصاً أن أزمة الطاقة الناجمة عن الحرب، دفعت الولايات المتحدة إلى البحث عن حلول بديلة، سواء لسوقها الداخلي أو لأوروبا، لإنهاء اعتماد الأخيرة على الطاقة الروسية. وبما أن فنزويلا تتمتع باحتياطي نفطي هو الأكبر في العالم، بلغ 303.8 مليارات برميل، وفقاً لتقرير نشره موقع "وورلد بوبولايشن ريفيو" أخيراً، فقد كان واضحاً أن الأكلاف المتبادلة بين واشنطن وكراكاس، لاستخدام هذا الاحتياطي، ستدفع ثمنه المعارضة الفنزويلية.

وتأتي هذه الخسائر المعنوية لمناهضي مادورو، في وقتٍ يستعد فيه الأخير لتنظيم انتخابات رئاسية في عام 2024، وانتخابات عامة في عام 2025، تبدو ظروفها وكأنها تمهّد الطريق له لتحقيق انتصار كاسح، وطيّ صفحة الاعتراضات الداخلية ضده. وتتحدث المعارضة عن احتمال ترشيح غوايدو في مواجهة مادورو في الاستحقاق الرئاسي، في سياق محاولة لاعتماد تكتيك مختلف، من الواضح أنه يبدأ بالاعتراف برئاسة مادورو، وهو ما يعني التراجع الضمني عن الاعتراض على نتائج الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في عام 2018، ووصفتها المعارضة بـ"المزوّرة".

وأيضاً، تدرك المعارضة أن الزخم الدولي حولها تراجع، بالتالي لا بد من اعتماد أسلوب أقرب إلى الواقعية، يسمح بخوض الاستحقاقات الانتخابية بصفتها فريقاً موجوداً، في مواجهة نظام مُعترف به. أما حظوظ المعارضة في استعادة الأكثرية في البرلمان، أو حتى الفوز بالرئاسيات، فتبدو شبه معدومة، في ظلّ التقارب المستمر بين كراكاس وواشنطن. ويعود ذلك إلى جملة من الأسباب، لعل أبرزها عودة العلاقات بين الرئيس الفنزويلي وواشنطن التي أوفدت مبعوثين للتحدث إليه مباشرة.

وخفف البيت الأبيض العقوبات المفروضة على فنزويلا في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بعد تحقيق انفراج في المفاوضات بين السلطة والمعارضة، ولا سيما عبر السماح لشركة النفط "شيفرون" بالعمل في فنزويلا خلال ستة أشهر. ولاقى مادورو الأميركيين في وسط الطريق، مع تبادل الإفراج عن سجناء في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ثم إعلان استعداده مطلع الشهر الحالي لتطبيع العلاقات مع واشنطن، على الرغم من تكرار الأخيرة عدم اعترافها بشرعيته رئيساً لفنزويلا.

فشل غوايدو في استقطاب الجيش

ومن الأسباب الأساسية لتراجع غوايدو، فشله في استقطاب الجيش إلى جانبه. أهمية الجيش في كراكاس، تنبع من كونه العمود الأساسي للسلطة، خصوصاً أن تشافيز، الذي وصل إلى السلطة في عام 1999، استند إلى كونه أبرز العسكريين في الجيش، ويحظى بثقة كبار الضباط فيه. وسمح ذلك له بوضع دستور جديد، مؤسساً ما أسماه "الجمهورية الخامسة" في فنزويلا، يتمحور حول "الثورة البوليفارية"، نسبة إلى محرّر أميركا الجنوبية من الاستعمار الأوروبي، الفنزويلي سيمون بوليفار. وأُسُس "الثورة" التي سعى لتثبيتها تشافيز، تدور حول بناء تحالف بين الدول الواقعة في القارة الأميركية الجنوبية، لتطبيق "البوليفارية" من منظور اشتراكي، ونشر الوطنية وحصر الاقتصاد بيد الدولة.

فشل غوايدو في استقطاب الجيش إلى صفوفه

نجاح تشافيز في الجيش، ورثه مادورو، الذي لم يكن جندياً، غير أنه حافظ على علاقاته بالعسكر، وهو ما جعل محاولات غوايدو في سحب الجيش إلى صفوفه، تبوء بالفشل. يبلغ عديد الجيش الفنزويلي نحو نصف مليون جندي، ويمسك بمواقع أساسية في صنع القرارات الاقتصادية والسياسية، فضلاً عن تورّط العديد من الضباط بقضايا إجرامية كثيرة، كتجارة المخدرات وغسل الأموال وغيرها. ومعظم الضباط الكبار، هم من جاء بهم تشافيز في عام 1999، حين كانوا جنوداً صغاراً في السن والرتب، وأضحوا اليوم محور القرار الفنزويلي. وعملياً، إن الكثير من خطوات مادورو السياسية، ناجمة عن قرار مُتخذ في الصفوف العسكرية.

وفي 30 إبريل 2019، شهد غوايدو على قوة النواة الصلبة في الجيش، إذ بعد محاولته القيام بانقلاب عسكري، بدءاً من تحرير أبرز المعارضين الفنزويليين، ليوبولدو لوبيز، الذي كان في الإقامة الجبرية في منزله، منذ عام 2014، فشل غوايدو في المحافظة على الزخم، بل إن فشل الانقلاب سمح لأنصار مادورو بتطهير الجيش من المشكوك في ولائهم للسلطة. بدأ نفوذ غوايدو بالتضاؤل منذ تلك المحاولة الفاشلة، ومع تفشي وباء كورونا في عام 2020، وتأثيره بالدول النامية، ومنهم فنزويلا، التي عانت من نقص في الأدوية والأجهزة الطبية، شكّلت الانتخابات البرلمانية في العام عينه، ضربة قاسية للمعارضة، التي قاطعت الاستحقاق، وسمحت لأنصار النظام بالهيمنة على البرلمان.

وبعدما كان غوايدو نجماً في أماكن مثل منتدى "دافوس" الاقتصادي، وضيفاً في خطاب "حال الاتحاد" الذي ألقاه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، في 4 فبراير 2020، بدا كأنه أصبح في موقع خلفي، مع تبدل مواقف العديد من الدول التي أيدته في السابق، خصوصاً عبر اعترافها بحكومة مادورو. وفقد غوايدو دعم جميع الحكومات الأجنبية باستثناء القليل منها، فتخلت الدول الأوروبية عن اعترافها به، وتحرك القادة اليساريون المنتخبون حديثاً في أميركا الجنوبية لإعادة العلاقات مع مادورو، وأبرزهم كولومبيا والبرازيل.

ويقول مراقبون في العاصمة الفنزويلية لـ"فرانس برس"، إن حل الحكومة المؤقتة للمعارضة يمكن أن يؤثر بفرصها في الانتخابات الرئاسية، ويبدون شكوكهم في قدرة المعارضة على توحيد صفوفها، في ظل الانقسام الحالي الذي تواجهه، خصوصاً أنها فشلت في رصّ صفوفها خلال انتخابات إقليمية جرت عام 2021 وفاز بها تيار السلطة. وقد أظهرت نتائج استطلاع للرأي في كراكاس، أواخر نوفمبر الماضي، أن 6 في المائة فقط من الفنزويليين سيصوتون لغوايدو إذا شارك في الانتخابات الرئاسية العام المقبل، بينما حصل عدد قليل من قادة المعارضة الآخرين على نسب أكبر من أصوات الناخبين المحتملين.

ونقلت صحيفة "فايننشال تايمز"، السبت الماضي، عن بعض الخبراء قولهم إن "محادثات المكسيك بين السلطة والمعارضة، يمكن أن تحدث تغييراً كبيراً، خصوصاً إذا واصلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأميركا الجنوبية الضغط على مادورو". وقال الخبير في ملف أميركا الجنوبية في معهد "تشاتام هاوس" كريستوفر ساباتيني للصحيفة، إن "هناك إمكانية للتقدم في فنزويلا، فقد حان الوقت للبدء بتوسيع الحوار بين أصحاب العلاقة داخل فنزويلا والدول المعنية بالملف الفنزويلي". واعتبرت القائمة بأعمال رئيس الأميركتين في منظمة "هيومن رايتس ووتش" لـ"فايننشال تايمز"، تامارا تاراسيوك برونر، أنه "ليس لدى حكومة مادورو أي حافز لاستئناف المفاوضات، ولذلك يجب دعم المعارضة للدفع نحو الحوار".

ورقة الأصول الفنزويلية بيد المعارضة

وتبقى أمام غوايدو ورقة واحدة، بإمكانها التأسيس لحوار جدّي مع مادورو، وهي أموال أصول النفط الفنزويلية في الولايات المتحدة، فضلاً عن ذهب البلاد الموجود في بريطانيا. المعارضة، مع كل انقساماتها، تعي أن هذه الورقة قد تسمح بتعزيز موقفها لجهة الدفع بالحوار بحدّ ذاته، أو في تمتين موقفها خلاله.

ولم يحصل مادورو على "هدنة" أميركية فحسب، إذ استقبلت كراكاس، في 3 الشهر الحالي، أول سفينة سياحة أوروبية منذ 15 عاماً بعدما تجنّبها السياح منذ مدة طويلة بسبب أوضاعها الأمنية والاقتصادية. ورست "أماديا" التي ترفع علم الباهاماس في جزيرة مارغاريتا الكاريبية وعلى متنها نحو 500 راكب معظمهم من إسبانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وسويسرا.

وفي الربيع الماضي، عمدت السلطات إلى دولرة الاقتصاد، وهو ما أدى إلى بروز مؤشرات على تعافي الاقتصاد وقطاع السياحة بشكل خجول. وسمحت زيادة الواردات ببدء عودة بعض اللاجئين الذين فرّوا من البلاد في السنوات الثماني الماضي. وبحسب تقرير لـ"بي بي سي" البريطانية، نُشر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فقد هاجر 7.1 ملايين فنزويلي البلاد بدءاً من عام 2015. ونشر موقع الأمم المتحدة، في سبتمبر/أيلول الماضي، خريطة توزع اللاجئين الفنزويليين في العالم، إذ استقبلت كولومبيا 2.48 مليون فنزويلي، وبيرو، التي تعاني من أزمة سياسية ـ اقتصادية ـ اجتماعية في الوقت الحالي، 1.49 مليون، والولايات المتحدة 545.200 ألفاً، والإكوادور 502 ألف، وتشيلي 448.100 ألفاً، وإسبانيا 438.400 ألفاً، والبرازيل 365.400 ألفاً، والأرجنتين 171 ألفاً، وبنما 144.500 ألفاً، وجمهورية الدومينيكان 115.300 ألفاً.

(العربي الجديد، قنا، فرانس برس، رويترز)

 


 

المساهمون