في مسعى روسي جديد لتعزيز الاستقرار ومنع "حرائق" جديدة في جنوب القوقاز، يلتقي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم الجمعة في منتجع سوتشي على البحر الأسود مع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، في قمة من المنتظر أن تناقش الخطوات المقبلة الهادفة إلى تعزيز الاستقرار في إقليم ناغورنو كاراباخ، و"النظر في سير تطبيق ما جرى الاتفاق عليه بين زعماء الدول الثلاث، في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 و11 يناير/كانون الثاني من العام الحالي"، حسب بيان صادر عن الكرملين، أشار أيضاً إلى أن "المحادثات ستركز على القضايا المتعلقة باستئناف وتطوير العلاقات التجارية الاقتصادية والمواصلات".
وتُعقد القمة الجديدة بين الزعماء الثلاثة بعد عشرة أيام على أخطر اشتباكات حدودية بين أرمينيا وأذربيجان، أسفرت عن مقتل 6 جنود وأسر 32 جندياً أرمينياً، حسب باشينيان.
يمكن النظر إلى العملية العسكرية الأذربيجانية على أنها تهدف إلى إجبار باشينيان على ترسيم الحدود
واندلعت الاشتباكات الأخيرة في 16 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، وتوقفت بعد ست ساعات إثر اتصالات حذر فيها وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو نظيريه الأرميني والأذربيجاني من عواقب التصعيد. ودارت الاشتباكات العنيفة التي استخدمت فيها المدفعية حول نقطتي تفتيش في منطقة جبل تسيتسيرناكار (بالأرمينية)، أو كيليسالي (بالأذربيجانية). وفي صباح اليوم التالي، أقرت يريفان بخسارة الموقعين اللذين يتمتعان بأهمية استراتيجية، لأنهما يمنحان الجيش الأذربيجاني قدرة على رصد الطريق من جنوب أرمينيا باتجاه العاصمة يريفان، وإطلاق النار حين الضرورة. وبدا واضحاً أن الاشتباكات الأخيرة مختلفة عن عشرات المرات السابقة من حيث عدد القتلى المعلن، والحديث عن وجود أسرى من أرمينيا، وهي نقطة حساسة، لأن أعداداً جديدة تضاف إلى الملف الذي لم يحسم بعد منذ حرب العام الماضي.
إجبار على التفاوض
وكما درجت العادة فقد حمّل كل طرف الآخر مسؤولية التصعيد. ولكن الواضح أن أذربيجان أرادت بعث رسالة تحذيرية حول الثمن الذي يمكن أن تدفعه أرمينيا في حال واصلت المماطلة فيما يتعلق بمصير إقليم ناغورنو كاراباخ، وترسيم الحدود. ويوم الجمعة الماضي، حذر وزير الخارجية الأذربيجاني جيهون بيراموف من أنه "في حال لم تتصرف أرمينيا بما يتوافق مع القانون الدولي، أو إذا شعرنا بأنها تتخذ أي خطوة يمكن أن تشكل تهديداً لأذربيجان، فسنرد بالشكل المناسب على الفور". وأكد أن بلاده مستعدة للتباحث مع أرمينيا حول تطبيع العلاقات بعدما حررت أراضيها، وبسطت سيطرتها على حدودها، لكنه شدد على ضرورة مراعاة مبدأ وحدة أراضي أذربيجان وسيادتها على أراضيها بما يتوافق مع القانون الدولي، والالتزام بتنفيذ بنود البيان الثلاثي، الذي وقعته باكو ويريفان وموسكو، في 10 نوفمبر 2020.
والمعلوم أن أرمينيا وأذربيجان وقّعتا برعاية روسية على البيان الثلاثي الذي تضمّن تسعة بنود، أهمها وقف إطلاق النار واحتفاظ كل طرف بالمواقع التي سيطر عليها، أي تثبيت تقدم أذربيجان في كاراباخ، إضافة إلى انسحاب أرمينيا من سبع مناطق مجاورة للإقليم، ونشر قوة حفظ سلام روسية من 1960 فرداً، وإشراف روسيا على طريق يصل بين الإقليم وأرمينيا ويمر عبر منطقة لاشين. وفي يناير/ كانون الثاني من العام الحالي تعهّدت أرمينيا بضمان النقل بين المناطق الغربية لأذربيجان وجمهورية ناخيتشيفان ذات الغالبية الأذرية المحاطة بالأراضي الأرمينية، مع السماح ببناء خطوط نقل جديدة بين المنطقتين، على أن يخضع التنفيذ لمراقبة حرس الحدود الروسي.
وكان من المنتظر أن تُعقد القمة الحالية تزامناً مع الذكرى السنوية الأولى لوقف إطلاق النار الذي رعته موسكو بين الطرفين، لكن باشينيان نفى عشية الاجتماع وجود اتفاق على عقده، ما عطّل القمة، ولاحقاً تبدّلت المواقف الأرمينية لتظهر في الأفق قمتان، الأولى في سوتشي، والثانية في بروكسل منتصف الشهر المقبل على هامش قمة الشراكة الشرقية للاتحاد الأوروبي. وبدا واضحاً أن الاشتباكات الأخيرة دفعت باشينيان إلى تبديل مواقفه. ومن المرجح أن عدم رغبة باشينيان في عقد القمة برعاية روسية في الموعد المحدد سابقاً نابع من عدم استعداده لتقديم تنازلات في المفاوضات مع أذربيجان، من ضمنها تسريع القرار بشأن إنشاء ممر زانغيزور، الذي يجب أن يربط الأراضي الرئيسية لأذربيجان بجمهورية ناخيتشيفان، وترسيم الحدود، والتخلي عن أي مطالبات بإقليم كاراباخ.
يكشف سعي أرمينيا لتنظيم لقاء تحت رعاية الاتحاد الأوروبي عن تزايد الاستياء في يريفان من الموقف الروسي غير الداعم لها
ومن المؤكد أن باشينيان لا يستطيع التوقيع على أي اتفاقات جديدة في هذه القضايا، ما دفعه إلى تعطيل القمة. وفي المقابل يمكن النظر إلى العملية العسكرية الأذربيجانية الجديدة على أنها تهدف إلى إجبار باشينيان على ترسيم الحدود، وإنشاء ممر زانغيزور بالقوة، والتخلي عن كاراباخ، نظراً لأن الاشتباكات كانت قريبة من منطقة سيونيك، التي تفصل ناخيتشيفان عن الأراضي الأذربيجانية الرئيسية، وإلا فإن البديل هو خسارة أرمينيا أراضي إضافية.
وبعد يومين من وقف الاشتباكات، قال باشينيان، في اجتماع حكومي، إن بلاده تقبل مقترحات وزارة الدفاع الروسية بشأن بدء المرحلة التحضيرية لترسيم الحدود الأرمنية-الأذربيجانية. ودعا، الثلاثاء الماضي، إلى تكثيف اللقاءات والاتصالات بين ممثلي أرمينيا وأذربيجان من أجل "تسوية الوضع وإيجاد الحلول ومحاولة تجنب الأزمات". وأوضح أن قمة سوتشي سوف تبحث في موضوع ترسيم الحدود، فيما قال إن قمة بروكسل ستناقش المواضيع الإنسانية. ومعلوم أن أذربيجان وافقت على اقتراح روسيا تشكيل لجنة ثلاثية للبدء بترسيم الحدود بعد اشتباكات اندلعت في مايو/ أيار من العام الحالي.
استنجاد بأوروبا لتوسيع دائرة المناورة
ما أن توقفت الاشتباكات حتى أعلنت يريفان وباكو الاتفاق على لقاء بين باشينيان وعلييف، في 15 ديسمبر/كانون الأول في بروكسل. وشكلت الأنباء الواردة عن عقد القمة مفاجأة لكثير من المراقبين. وبدا أن أرمينيا سعت إلى اللجوء للاتحاد الأوروبي هرباً من ضغوط روسية للتوقيع على اتفاقات تسهم باستقرار الأوضاع. ويكشف سعي أرمينيا لتنظيم اللقاء تحت رعاية الاتحاد الأوروبي عن تزايد الاستياء في يريفان من الموقف الروسي غير الداعم لها، والذي يسعى إلى موازنة العلاقات بين الطرفين، مقابل دعم تركيا غير المحدود لأذربيجان. والواضح أن أرمينيا كانت تأمل في الحصول على دعم فرنسي قوي في مطالبها، من أجل توسيع قدرتها على المناورة في أي جولات مفاوضات مقبلة برعاية روسية.
في المقابل فإن أذربيجان لم ترغب في تعطيل أي اجتماع برعاية خارجية ما دامت قوية على الأرض. كما أنها مقتنعة بأن أطرافاً أوروبية مهمة ستدعم موقفها، نظراً لأنها مصدر مهم للنفط والغاز إلى عدد من بلدان القارة العجوز، إضافة إلى قناعتها بأن أي مفاوضات في بروكسل لن تؤدي إلى نتائج على الأرض من دون موافقة روسيا، لأنها الطرف الأكثر قدرة على لعب دور الوساطة نظراً لوجودها على الأرض وانطلاقاً من تجارب الحروب السابقة، إضافة إلى أن الاتحاد الأوروبي لا يملك أدوات كافية لحل الأزمة. وبالتالي ترى باكو أن اجتماع بروكسل لن يكون منافساً لدور الوساطة الروسي ولن يكون إلا مكملاً له.
وبدا واضحاً أن باشينيان الذي أدرك أن الاتحاد الأوروبي لن يكون بديلاً في التوسط لحل الأزمة، عاد وأعرب، في اتصال هاتفي مع بوتين الأحد الماضي، عن "امتنانه لجهود الوساطة الروسية النشطة"، وناقش معه "الوضع في المنطقة والإجراءات المتخذة لتحقيق الاستقرار فيه". وهو اضطر إلى المشاركة أولاً في اجتماع سوتشي الذي حُدد جدول أعماله من فترة، بعدما كان يفضّل اجتماع بروكسل، نظراً لأنه اجتماع من دون جدول أعمال محدد ولا يفرض التزامات واضحة. ومن المؤكد أيضاً أن الاشتباكات الأخيرة لعبت دوراً مهماً في تليين مواقف باشينيان.
لم ترغب أذربيجان في تعطيل أي اجتماع برعاية خارجية ما دامت قوية على الأرض
وفي العام الأخير أعرب كثير من المسؤولين الأرمن عن خيبة أمل من موقف روسيا، واتهموها بعدم مساعدة أرمينيا بمقتضى الاتفاقات والمعاهدات الدفاعية بين البلدين. وفي مايو الماضي أرسل الأرمن طلباً للمساعدة بشأن كاراباخ إلى منظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تضم روسيا وأرمينيا ودولاً من الاتحاد السوفييتي السابق. لكن المنظمة كررت ردودها السابقة بأن المنطقة تعدّ وفقاً للقانون الدولي تابعة لأذربيجان، ولهذا فإن الحلفاء ليسوا ملزمين بالوقوف إلى جانب أرمينيا في هذا النزاع. وفي الاشتباكات الأخيرة، منذ أيام، شددت المنظمة على أن "النزاع يجب أن يحل بالوسائل السياسية والدبلوماسية السلمية فقط".
وترتبط روسيا وأرمينيا بمعاهدة ثنائية وقّعت في 1997 بشأن الصداقة والتعاون والمساعدة المتبادلة. وتنص على أنه في حالة حدوث عدوان عسكري على أحد الموقّعين، يجب على الطرف الآخر أن ينقذ المُعتدى عليه. لكن الجانب الأرميني يدرك أن روسيا لن تفعّل العمل بالمعاهدة المذكورة، لأنها لم تفعلها أصلاً في حرب العام الماضي في كاراباخ ومحيطها. وبعد الاشتباكات الأخيرة، قال أمين مجلس الأمن الأرميني أرمين غريغوريان: "تعتقد أرمينيا أنه يمكن حل الأزمة بمساعدة روسيا ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، وإذا فشلوا في القيام بذلك، فسيتعين علينا اللجوء إلى شركاء دوليين آخرين".
اتفاقات مؤجلة
وعلى الرغم من حضور باشينيان وعلييف القمة مع بوتين فمن المستبعد أن يوقّع الطرفان اتفاقات جديدة. والأرجح أن تصاغ أي تفاهمات في اتفاقات يمكن التوقيع عليها إلى الاجتماع المقبل للجنة الثلاثية حول الطرق والنقل في موسكو، وهي الآلية التي تم التوافق عليها مطلع العام الحالي لفتح الطرق التي تم إغلاقها نتيجة حرب العام الماضي. وتسعى أذربيجان إلى التسريع بإنشاء ممر زانغيزور، الذي من المقرر أن يضم طرقاً سريعة وخطوط سكك حديد تربط أذربيجان بأراضيها الواقعة في ناخيتشيفان عبر الأراضي الأرمينية.
وفي موضوع ترسيم الحدود، يبدو أن باشينيان سوف يضطر إلى تقديم تنازلات للبدء بهذه العملية، على الرغم من أنها يمكن أن تفتح على احتجاجات واسعة قد تكلفه مستقبله السياسي، وتصل إلى اتهامات له بالخيانة، لأن الترسيم يعني التخلي عملياً عن ناغورنو كاراباخ بشكل نهائي. وكحل مؤقت يمكن أن تطرح أرمينيا إنشاء منطقة عازلة منزوعة السلاح على كامل الحدود، وحل عقدة المواصلات، حتى الترسيم النهائي للحدود، ولكن في هذا الحل يجب على روسيا إقناع أذربيجان بأنها لا تميل نحو الأرمن، والأهم السماح للجيش الروسي بتوسيع صلاحياته على الأرض في عدة مناطق حدودية، ومنها سيونيك الأرمينية التي يمر عبر أراضيها ممر زانغيزور.