تتصدّر قضية المعتقلين السياسيين في تونس المشهد السياسي في البلاد، إذ يدخل عدد منهم، اليوم الاثنين، أسبوعهم الثاني من إضراب الجوع. والمضربون هم الأمين العام لـ"الحزب الجمهوري"، عصام الشابّي، والقياديان في "جبهة الخلاص الوطني" جوهر بن مبارك ورضا بلحاج، والأمين العام السابق لـ"التيار الديمقراطي"، غازي الشواشي، والناشط السياسي خيام التركي، والقيادي السابق في حركة "النهضة" عبد الحميد الجلاصي.
وأصدر المضربون في 11 فبراير/شباط الحالي بياناً من داخل سجنهم، المرناڤيّة، بضواحي تونس العاصمة، بعد مضي عام على اعتقالهم في ما يُعرف بقضية "التآمر على أمن الدولة"، أن ملف القضية "مفبرك فاقد لأي إثباتات أو أدلة مادية من شأنها أن تبرر ترسانة التهم التي وُجهت إلينا من قبل وكالة الجمهورية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب".
وطالبوا بإطلاق سراحهم و"الكف عن الملاحقات الأمنية والقضائية في حق كل السياسيين ونشطاء المجتمع المدني الذين طاولهم الظلم والتعسف".
ظهور علامات الإرهاق
وكشفت هيئة الدفاع عن المعتقلين السياسيين في تونس أنه "تم عرض كل المضربين عن الطعام على طبيبة السجن باستثناء بن مبارك والجلاصي "اللذين رفضا الخضوع للفحص، في إطار موقفهما بمقاطعة المتابعة الطبية للمصالح التابعة للسجن واكتفاء بالمتابعة الطبية من الرابطة التونسية لحقوق الإنسان والهيئة الوطنية لمقاومة التعذيب، اتخذاه منذ بداية الإضراب".
وبيّن الكشف الطبي لخيام التركي، وعصام الشابي، وفق الهيئة الأسبوع الماضي، "فقداناً سريعاً للوزن منذ بداية الإضراب ونزول معدل السكر في الدم". كما "بدأت علامات الإرهاق تظهر على الجميع، لكنهم لا يزالون مصرّين على مواصلة الإضراب، والعزيمة قوية جداً والمعنويات مرتفعة رغم التضييق والصعوبات".
الإضراب خيار اضطراري
وفي السياق ذكر عضو هيئة الدفاع عن المعتقلين السياسيين في تونس المحامي سمير ديلو، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن هؤلاء المضربين يمثلون في إحدى قضايا "التآمر"، والتي بلغت حوالي 15 قضية، مضيفاً أن المتهمين يقدرون بالعشرات.
ولكن ما هي دوافع العودة ثانية إلى إضراب الجوع بعد أشهر من الإضراب الأول، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وهل هي تعبير عن اليأس من المسار القضائي؟
فقد اعتبر عضو هيئة الدفاع عن المعتقلين السياسيين، المحامي مختار الجماعي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الإضراب خيار اضطراري، "خصوصاً أنه ليس الأول لهؤلاء، فقد قرروا التعبير عن رفضهم للوضعية القانونية والصحية والسياسية لهم".
مختار الجماعي: الإضراب يأتي بعد سنة كاملة من الإرهاق والشعور بالظلم
ولفت الجماعي إلى أن "الإضراب يأتي بعد سنة كاملة من الإرهاق والشعور بالظلم، وتعبيراً عن عدم قبول القرارات الصادرة ضدهم، والمعتبرة في نظرهم تصفية لخصومة سياسية وليس كإجراء احترازي اقتضته الضرورة الإجرائية".
ورأى أنه بخوض عدد من المعتقلين السياسيين في تونس معركة الأمعاء الخاوية "يدخل مجموع المضربين مرحلة من المعاناة الصحية، تُضاف لحالة التضييق والإهمال الصحي والنفسي الذي يعيشونه باعتبارهم سجناء مصنّفين، محرومين من أدنى حقوق السجناء في الرعاية والتواصل مع ذويهم".
كما أنهم ممنوعون "في أي مناسبة من زيارة مباشرة على خلاف ما يتمتع به حتى أكثر المسجونين خطورة".
وقال الجماعي إن "تجربة ثانية من حرب الأمعاء الخاوية جاءت بعد تأثيرات صحية خلفتها المعركة الأولى منذ أشهر، وربما لن تمر مروراً عادياً، لكنهم برغم ما ينتظرونه من آثار وخيمة قد ترافقهم بقية حياتهم، قرروا خوضها رفضاً لحالة الأسر التي هم عليها".
مماطلة في ملف "التآمر على أمن الدولة"
وأشار إلى أنهم "ينتظرون وقفة أكثر حزماً من المنظمات الحقوقية المخوّل لها التدخل والرقابة، كتجنيد الأطباء والجهات الصحية لإجراء المتابعة الجيدة لسير هذا الإضراب". وبيّن أن "الدخول في الإضراب ليس تعبيراً عن اليأس من المسار القضائي فقط، وإنما هو تعبير عن رفض الواقع المرير الذي يعيشونه ويعيشه الوطن".
واعتبر الجماعي أن "المسار القضائي لم يكن مساراً سليماً منذ بدايته وهذا ما اقتنع به الجميع، موقوفين ودفاعا"، مضيفاً أن "تجديد الإيقاف التحفظي مرة بعد مرة هو أفضل تعبير عن سوء هذا المسار، إذ تقرر الاحتفاظ بهؤلاء مدة ستة أشهر لتجدَد لمدة ثانية ثم ثالثة من دون أي تقدم في الأبحاث (التحقيق)".
وتعهّد أنه "كفريق دفاع سنفضح هذا المسار ونثبت للجميع أن الملف لم يتقدم تقريباً منذ أيامه الأولى، عدا إصدار البطاقات ثم تجديد الحبس ومماطلة في ختم الأبحاث".
وشدّد الجماعي على أن "اليأس من المسار القضائي ناشئ بالضرورة عن فقدان المعايير الضرورية لقضاء عادل ناجز، بعد تحويله من القضاء السلطة إلى القضاء الوظيفة، وحلّ مجلسه الأعلى الشرعي، وتطهيره من القضاة الشرفاء، وصولاً إلى عدم احترام أحكامه المناقضة للمسار من قبيل إرجاع القضاة المعفيين".
ولفت إلى أن "الإضراب لم يتوجه فقط للقضاة المكبلة أيديهم والمقيّدَة أقلامهم، وإنما يتوجه إلى المنظمات الحقوقية لتوعيتهم بحالة الانسداد، وإلى عموم شعب لم تتوفر له أدنى شروط الحياة الكريمة من نظام كل برنامجه ومشروعه هو إصدار بطاقات الإيداع في حق خصومه السياسيين، وتجديد حبسهم دورياً إلى أجل لا نعلم أوانه".
يُذكر أنه في 1 يونيو/حزيران 2022، أصدر الرئيس التونسي قيس سعيّد مرسوماً رئاسياً بإعفاء 57 قاضياً، سبقه مرسوم يقضي بتعديل القانون المتعلق بالمجلس الأعلى المؤقت للقضاء، والذي عيّنه بعد حلّ المجلس المنتخب، بشكل يسمح له بإعفاء كل قاضٍ تعلّقت به "شبهة فساد".
جرس إنذار لخطورة الوضع في تونس
من جهته، قال القيادي في "جبهة الخلاص الوطني"، رياض الشعيبي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنه "بعد الاعتراض على كل مطالب السراح التي تقدمت بها هيئة الدفاع، وبعد مرور سنة على إيقافهم، وبعد أن اتضح للجميع خلو ملف القضية من أي اتهام جدي، وبالنظر لاستمرار سياسة الاستهداف والتنكيل، لم يتبق للمعتقلين السياسيين غير الدخول في هذا الإضراب لإيصال صوتهم، والضغط على السلطة لإنهاء هذه المظلمة".
رياض الشعيبي: الإضراب نجح في إعادة قضية المعتقلين السياسيين إلى الصدارة
وشدد على أن الإضراب "نجح في أسبوعه الأول في إعادة قضية المعتقلين السياسيين إلى صدارة الشأن الوطني وإلى فضح انتهاكات الحريات وحقوق الإنسان"، محذراً من أنه "إذا استمر إنكار السلطة وعدم تجاوبها مع مطالبهم فمن المتوقع توسع دائرة المضربين واستمرار التحركات الداعمة لتحركهم".
واعتبر الشعيبي أن "الإضراب عن الطعام شكل خطير من أشكال النضال الحقوقي والسياسي"، موضحاً أن "وضع المُضرب صحته وحياته في الميزان قرار خطير، ولا شك أن في ذلك تعبيراً أيضاً عما وصله الوضع في البلاد من تعفن واستبداد".
وتابع: "دائرة الاعتقالات تتوسع كل يوم، والتضييق على حرية الرأي والتعبير يتصاعد، وتستعمل أدوات الدولة الأمنية والقضائية لتصفية خصوم السلطة السياسيين". ورأى أنه "إذا أضيف لكل ذلك عبثية السياسات الاقتصادية وترهل الإدارة، فسيكون ذلك مؤشراً على خطورة الوضع" في تونس.
وشدّد الشعيبي على أن "هذا الإضراب بمثابة جرس الإنذار لخطورة الوضع الذي وصلت إليه البلاد، ونحن جميعنا معنيون بتجنب المصير المؤلم الذي تقود إليه هذه السلطة، الشعب التونسي".
خوض معركة التغيير عبر الانتخابات
وعن تأثير ذلك على مشهد الانتخابات الرئاسية المنتظرة في يوليو/ تموز 2024، قال الشعيبي: "لقد حقق التونسيون مكاسب عديدة خلال العشرية الديمقراطية، وأهمها تنظيم انتخابات شفافة لطالما حلمت بها وناضلت من أجلها أجيال متعددة". واعتبر أنه بالتالي "لن يكون من اليسير على أي كان فرض إرادته على التونسيين ووأد هذا المكسب".
وشدد على أن "الاستحقاق الانتخابي المقبل سيكون تاريخياً بكل المعايير، لذلك سيكون أمام المعارضة الديمقراطية رهانان اثنان: خوض معركة المحافظة على شروط الانتخابات النزيهة، ومعركة التغيير من خلال الانتخابات واستئناف المسار الديمقراطي".
ورأى أنه "رغم ما تقوم به السلطة منذ أكثر من سنتين، والذي يعد تراجعاً واضحاً عن المسار الديمقراطي وانقلاباً ذاتياً على المسار الدستوري، إلا أن مقاومة هذا الانقلاب واستعادة المسار الديمقراطي تقتضي التقاء المعارضة لكسب هذين الرهانين الوطنيَّيْن".