فلسطين وأنسنة الرياضة

27 نوفمبر 2022
أطفال غزة يلعبون كرة القدم (مجدي فتحي/Getty)
+ الخط -

تركز المنظمات والهيئات الرياضية على أهمية الرياضة في تعزيز القيم الإنسانية السامية، القائمة على نشر المساواة والمحبة والسلام، كما تكرر مقولة الحياد الرياضي، خصوصاً في ما يتعلق بالشأن السياسي، على اعتبار الرياضة قيمة إنسانية عليا تسمو على الصراع السياسي وانقساماته المصلحية.

مَثلت هذه المبادئ جزءاً مهماً من المحددات التي ضبطت مرحلة الحرب الباردة، إذ لم تُستبعد أي من دول المعسكرين الشرقي والغربي من النشاطات الرياضية على خلفية الانقسام السياسي، بل على العكس تبادلت دول المعسكرين تنظيم هذه النشاطات، وتوافدت جميع الوفود إلى الدولة المستضيفة بغض النظر عن اصطفافها السياسي. إذ شارك الاتحاد السوفييتي إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا والصين وكوبا على حدٍ سواء، رغم التنافس والصراع الدولي الكبير بينهم، عكست تلك المشاركات تأكيد مجمل الوفود أهمية الرياضة في تعزيز القيم الإنسانية، الأمر الذي انعكس في مظاهر عديدة، باتت اليوم جزءاً من البروتوكول الرياضي، مثل مصافحة اليد وتبادل الأعلام والصور.

واقعياً؛ لا يعكس مصطلح الحياد الرياضي حقيقة الوضع، رغم ترفّع الرياضة عن التنافس بين الدول، لأن الرياضة تحمل قيماً إنسانية سامية، تفرض في لحظات وحالات معينة موقفاً سياسياً يعبر عن قيمها الإنسانية العليا، كما حصل تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا، وتجاه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، كل منهما انتهك القيم الإنسانية، ما فرض اصطفافاً رياضياً واضحاً مع القيم الإنسانية، في مواجهة ومعاقبة كلا الطرفين، الأمر الذي يعكس أنسنة الرياضة لا حيادها، إذ لا يتقاطع الحياد مع المبادئ، بل تفرض المبادئ موقفاً حاسماً وواضحاً تجاه منتهكيها.

فلسطينياً؛ نجح منطق أنسنة الرياضة في تجاوز الإخفاقات السياسية الفلسطينية، الناتجة عن فقدان قطب تحرري عالمي أولاً، وعن ترهل واستسلام الجسم السياسي الفلسطيني ثانياً، إذ وجد هذا المنطق طريقه إلى قلوب وعقول مشجعي الرياضة عالمياً، الذين رفعوا الأعلام الفلسطينية واللافتات التي تؤيد الحقوق الفلسطينية، المترافقة مع إدانتهم الاحتلال الصهيوني على مجمل جرائمه اليومية.

أيضاً؛ نجح منطق أنسنة الرياضة في إفشال خطط الاحتلال الصهيوني السياسية في مراتٍ عديدةٍ، لا سيما التي حاول عبرها شرعنة احتلال الأراضي الفلسطينية؛ القدس خاصةً، كما كان حينما ألغى منتخب الأرجنتين مباراته مع منتخب الاحتلال في مناسبتين منفصلتين؛ عامي 2018 و2022، كذلك إلغاء منتخب أوروغواي زيارته لـ "دولة الاحتلال" قبل مشاركته في المونديال القطري الحالي.

لم يعلن المنتخب الأرجنتيني؛ أو حكومة بلاده، عن أسباب إلغاء أي من المباراتين، في حين نقلت صحيفة هآرتس الصهيونية؛ في العام 2018، عن أحد نجوم التانغو؛ غونزالو هيغواين، حديثه عن دور ليونيل ميسي الحاسم في ذلك، حين خاطب زملاءه في المنتخب متسائلاً "كيف لنا أن نلعب ببال هادئ في الوقت الذي يعاني فيه كثيرون من الفلسطينيين".

لم يُدل نجوم المنتخب الأرجنتيني بأي تصريحات سياسية حول فلسطين، وكذلك غالبية نجوم الرياضة العالمية؛ إذا ما استثنيا قلة قليلة منهم مثل دييغو مارادونا وإريك كانتونا، ربما نتيجة قصور في المعرفة السياسية أو لتجنب القضايا والمواقف السياسية، تماماً؛ كما تتجنب غالبية شعوب العالم الانخراط في الشؤون السياسية، لصالح هموم الحياة اليومية.

في حين يصعب على نجوم الرياضة وشعوب العالم تجاهل الشؤون والقضايا الإنسانية وتجنبها، فهي تخترق الوعي الإنساني اليومي بسهولة وانسيابية لا نظير لها، كما تؤسس القضايا الإنسانية لوعي سياسي قيمي دائم غير لحظي، يصعب على الاحتلال وقوى الإجرام والاستغلال العالمي تجاوزه بسهولة، وعي يتحول إلى جزء من بنية وثقافة الشعوب، كما جسدته جماهير أندية رياضية عديدة، من روما ولاتسيو الإيطاليين إلى سيلتيك الاسكتلندي مروراً بجماهير الباسك الإسباني.

فلسطينياً؛ نجح منطق أنسنة الرياضة في تجاوز الإخفاقات السياسية الفلسطينية

لا يمكن الاعتراض على شعار أنسنة الرياضة، كما لا يمكن نزع المضمون السياسي منه، فالقيم الإنسانية عابرة للحدود والانتماءات، رغم الحدود والحواجز التي يصنعها الاحتلال وداعميه، استناداً لذلك يفشل الصهيوني دائماً في مواجهة القيم الإنسانية وفي منع انتشارها. في المقابل، ينجح شعب فلسطين الأصلي في خلق حواضن شعبية عالمية انطلاقاً من أنسنة قضاياه وحقوقه السياسية والوطنية، ومن أنسنة الرياضة ذاتها أيضاً، حتى يكاد يصح اعتبار معركتنا التحريرية في شقها الرياضي معركة أنسنة الرياضة.

المساهمون