أكملت السلطات المصرية برئاسة عبد الفتاح السيسي تشكيل مجلس النواب الجديد، ضامنةً نسبة تأييد على بياض لسياساتها وقراراتها بأغلبية غير مسبوقة، تتخطى الأكثرية المباشرة التي كانت السلطات تحظى بها خلال الفصل التشريعي السابق، والمُشكلة من الأعضاء المنتمين لتحالف الأحزاب الموالية، وعلى رأسها حزب "مستقبل وطن" التابع للاستخبارات العامة والأمن الوطني. ويأتي ذلك لا سيما بعد ضمان حصول التحالف على نصف عدد المقاعد البرلمانية، من دون أي منافسة، بسيطرته الكاملة على مقاعد القوائم، وفوزه مع الأحزاب الأخرى الموالية بما لا يقل عن ثلثي المقاعد الفردية، وفقاً للنتائج شبه النهائية التي أعلنتها اللجان العامة في المحافظات التي أجريت فيها يوم الإثنين جولة الإعادة للمرحلة الثانية من الانتخابات، في ظلّ تراجع ملحوظ في نسبة المشاركة.
استفز السلطات مشاركة طنطاوي في الاتصالات التنسيقية لبناء جبهة معارضة برلمانية في مجلس النواب الجديد
وعبّر النظام الحاكم بوضوح عن توجهاته القمعية للأصوات الديمقراطية والمعارضة تحت القبّة، فكان الحدث الأبرز ليلة إعلان النتائج، هو انقلاب النتيجة النهائية للدائرة الأولى في محافظة كفر الشيخ، شمال وسط دلتا النيل. فبعدما كان النائب المستقل المعروف بمعارضته لسياسات النظام خلال السنوات الماضية، أحمد طنطاوي، قاب قوسين أو أدنى من الاحتفاظ بمقعده، أعلنت اللجنة العامة للدائرة نتيجة مغايرة، بحصوله على المركز الرابع الذي لا يؤهله لدخول البرلمان. وتمّ رفع أحد المرشحين التاليين له وفقاً لفرز اللجان الفرعية، وهو السيّد شمس الدين، التابع لـ"مستقبل وطن"، ليصبح صاحب أعلى الأصوات في الدائرة. ويشكل ذلك مخالفة صريحة لنتائج الفرز في اللجان الفرعية، والتي يحتفظ المرشحون بنسخ منها، والتي حضر ممثلوهم عملية حصرها.
وقبل نحو ساعتين من إعلان خسارة طنطاوي، كانت النتيجة العامة من واقع حصر لجان الفرز، تشير لاحتلاله المركز الثالث المؤهل للفوز بأكثر من 60 ألف صوت، بعد مرشح حزب "الوفد" باسم حجازي ومرشح "الشعب الجمهوري" ياسر منير، بفوارق طفيفة. وسجل طنطاوي فارقاً كبيراً عن التالي له بعدد الأصوات، وهو مرشح "مستقبل وطن" الذي لم يكن رصيده يتخطى 47 ألف صوت. وبدأت جهود تغيير النتيجة بإرسال الأمن الوطني معلومة، على خلاف الواقع في وقتها، للمواقع الصحافية الموالية للنظام، تؤكد أن طنطاوي سيخسر الانتخابات، على نقيض المعلومات الواردة من اللجان. وبعد أقل من ساعة، صعد القضاة أعضاء اللجنة العامة إلى المنصة، ليعلنوا انخفاض عدد أصوات طنطاوي إلى 53 ألف صوت، وحصول مرشح "مستقبل وطن" على أكثر من 73 ألف صوت، في مهزلة تعيد إلى الأذهان ما حدث مع النائب المعارض محمد فؤاد في دائرة العمرانية خلال المرحلة الأولى من الانتخابات.
وكان أداء طنطاوي قد استفز دوائر مختلفة في النظام، لا سيما بعد معارضته المستمرة لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية والتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير عام 2016، ثم معارضته للعديد من التشريعات المقيدة للحريات، ولا سيما قوانين العمل الأهلي ووسائل الإعلام والصحافة وجرائم المعلومات.
لكن الحدث الذي قطع ما تبقى من صلات بين طنطاوي والنظام الحاكم، كان مشاركته في الاتصالات التنسيقية لبناء جبهة معارضة برلمانية في مجلس النواب الجديد الذي ينتخب حالياً، مع عدد من النشطاء السياسيين من خارج عباءة النظام، في ما عرف بـ"خلية الأمل". وحرّك الأمن الوطني بشأن "الخلية" قضية كبرى في يونيو/حزيران 2019، وما زال جميع المتهمين فيها محبوسين احتياطياً من دون محاكمة، بل وأدرجوا على قائمة الإرهاب، بمن فيهم أحمد عبد الجليل، مدير مكتب طنطاوي وعدد من النشطاء الناصريين المقربين منه. واتُهم هؤلاء مع سياسيين واقتصاديين من خلفيات مختلفة، مثل زياد العليمي وعمر الشنيطي ورامي شعث، بمشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها، وتلقي تمويل بغرض إرهابي، والاشتراك في اتفاق جنائي الغرض منه ارتكاب جريمة إرهابية، وتلقي تمويل، واستخدام حسابات خاصة على شبكة المعلومات الدولية بهدف ارتكاب جريمة يعاقب عليها في القانون بهدف الإخلال بالنظام العام. ومن الاتهامات أيضاً، التجمهر، والتنسيق مع أعضاء الجماعة الهاربين لمحاربة الدولة وإسقاطها، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي في التحريض ضد الدولة، والدعوة إلى تعطيل أحكام الدستور والقوانين ومنع مؤسسات الدولة من ممارسة أعمالها، ونشر أخبار كاذبة عن الأوضاع السياسية والاقتصادية بالبلاد بقصد تكدير السلم العام، والتخطيط لضرب الاقتصاد القومي للبلاد.
وقالت مصادر أمنية لـ"العربي الجديد" قبل انتهاء الاقتراع، إن طنطاوي سيلقى نفس مصير زميله في تكتل 25-30 هيثم الحريري، والذي خسر في المرحلة الأولى في الإسكندرية، بسبب تصنيفهما كشخصيات غير مرغوب فيها منذ معارضتهما للتعديلات الدستورية العام الماضي، وعدم انخراطهما في أنشطة مختلفة حاول النظام من خلالها الإيحاء بوجود انفراجة سياسية، على عكس ما فعل بعض زملائهما بالتكتل، بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2019 واندلاع أكبر تظاهرات شعبية ضد السيسي.
وذكرت المصادر أن الخطة التي وضعها الأمن الوطني تحديداً لتشكيل البرلمان الجديد، تضمنت ضرورة تطعيمه، هو ومجلس الشيوخ، بعدد من الشخصيات المحسوبة على ما يوصف من قبل الجهاز بـ"المعارضة العاقلة أو الوطنية". هذه المعارضة هي في حقيقتها معارضة صورية، كأعضاء أحزاب "التجمع" و"الوفد" و"المصري الديمقراطي الاجتماعي"، والذين تحالفوا مع "مستقبل وطن" في القائمة الموحدة، وتم اختيار بعضهم كنواب معينين. وجرى ذلك مع اشتراط بعض الخطوط الحمراء، ومنها عدم التعامل مع طنطاوي والحريري وفؤاد تحديداً، ومنع التواصل مع الأحزاب اليسارية والليبرالية التي أنشئت بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011 وبقيت عصّية على تحكم النظام على الرغم من ضعفها في الشارع، وكذلك المنظمات الحقوقية.
خسر في النظام الفردي جميع مرشحي حزب "مستقبل وطن" ومن دعمهم الحزب في جولة الإعادة في محافظة دمياط
ويتطابق حديث المصادر مع الظواهر العامة التي اتسمت بها نتائج الانتخابات الحالية. إذ شهدت معظم الدوائر الحضرية خروقاً محدودة للسيطرة الكاملة لحزب "مستقبل وطن"، من قبل المرشحين المستقلين الذين لا يمكن اعتبارهم موالين بشكل مباشر للأجهزة، لكنهم ليسوا معارضين للسيسي ونظامه.
ولم تخلُ الانتخابات التي حفلت بالمخالفات واستخدام المال السياسي بصورة غير مسبوقة لتحفيز الناخبين على المشاركة، مما يمكن اعتبارها "مفاجآت" في السياق المصري الحالي، وأبرزها النتيجة النهائية لمحافظة دمياط، شمال شرقي دلتا النيل. فبعدما خسرت القائمة الموحدة الموالية للاستخبارات في دائرتي هذه المحافظة الصغيرة، خسر أيضاً في النظام الفردي جميع مرشحي حزب "مستقبل وطن" ومن دعمهم الحزب في جولة الإعادة. واستطاع أربعة مرشحين مستقلين الحصول على أعلى الأصوات في الدائرتين، أبرزهم عضو تكتل 25-30 ضياء الدين داود، والذي يمكن تصنيفه كمعارض لبعض سياسات النظام بصورة أكثر هدوءاً وأقل حماسة وفاعلية على مستوى البرلمان من طنطاوي والحريري.
وأرجعت مصادر في حزب "مستقبل وطن" الهزيمة الكبيرة التي مني بها الحزب في المحافظة، إلى الأخطاء التنظيمية والمعايير غير الموضوعية لاختيار المرشحين، والتي استندت إلى القدرة المالية فقط، بغض النظر عن حسن السيرة والشعبية. ويأتي ذلك لا سيما وأن تلك المحافظة بأغلبيتها الحضرية، تتراجع فيها عوامل العصبية القبلية والعائلية، بالإضافة إلى حنق الأهالي على الأوضاع الاقتصادية المتردية التي أصابت المحافظة ذات الطابع الصناعي والإنتاجي، بعد إصرار الدولة على تجاهل مطالباتها بتسهيل استيراد المواد الخام وتصدير منتجاتها لإجبار المصنعين الصغار على الانتقال إلى المشروع المجمع الذي أنشأه السيسي تحت اسم "مدينة دمياط للأثاث"، والذي لم يؤت النتائج المرجوة حتى الآن، وتعتبر النتيجة على ضوئه بمثابة تصويت عقابي للنظام.
وذكرت المصادر أنه ومنذ سقوط القائمة الموحدة في الجولة الأولى، صدر قرار داخلي غير معلن بتغيير المكتب السياسي للحزب في المحافظة بالكامل، والذي كان قد تمّ تعيين أعضائه مطلع العام الحالي، بالإضافة لإحداث تغييرات في الأجهزة الأمنية والاستخبارية والرقابية في المحافظة، كعقاب على سوء التقدير والتخبط، والأمر نفسه بالنسبة للمحافظات التي حقق فيها الحزب فوزا بنسب ضئيلة.
وفي سياق متصل، كشفت مصادر قضائية في الهيئة الوطنية للانتخابات عن تلقي الهيئة نحو 20 شكوى من مخالفات جولة الاقتراع الأخيرة، لكنها جميعاً حُفظت بشكل تلقائي بقرار من رئيس الهيئة المستشار لاشين إبراهيم، بحجة أنها لا تؤثر على النتائج العامة.