في حلقة جديدة من حروب الدبلوماسية والجاسوسية بين روسيا والغرب، قررت موسكو طرد دبلوماسيَّين أميركيَّين رفيعَي المستوى. هذه الخطوة تصب الزيت على نار الخلافات المتصاعدة بين البلدين بسبب الحرب في أوكرانيا، وتبعث رسائل قوية بشأن عدم التدخّل في الانتخابات الرئاسية الروسية، قبل أقل من ستة أشهر على انتخابات لم يقرر الرئيس فلاديمير بوتين رسمياً خوضها.
واستدعت وزارة الخارجية الروسية، يوم أمس الخميس، السفيرة الأميركية لدى موسكو لين تريسي، وسلّمتها مذكرة قالت فيها إن السكرتيرَين الأول والثاني في السفارة الأميركية في موسكو "شخصين غير مرغوب بهما"، وطلبت مغادرتهما الأراضي الروسية في غضون أسبوع.
وذكرت الخارجية الروسية في بيان، أنها سلمت السفيرة الأميركية مذكرة بشأن "عدم توافق تصرفات السكرتير الأول للسفارة الأميركية جيفري سيلين وسكرتير السفارة الثاني ديفيد بيرنشتاين مع طبيعة عملها الدبلوماسي".
وأضافت أن الدبلوماسيَّين "قاما بأنشطة غير قانونية عبر الاتصال مع المواطن الروسي روبرت شونوف، المتهم بالتعاون السري مع دولة أجنبية، والذي كُلّف بمهام مقابل مكافآت مالية تهدف إلى الإضرار بالأمن القومي لروسيا الاتحادية".
وشددت الخارجية على أن "الأنشطة غير القانونية للبعثة الدبلوماسية الأميركية، بما في ذلك التدخل في الشؤون الداخلية للبلد المضيف غير مقبولة، وسيتم التصدي لها بحزم". وخلص البيان إلى أن الجانب الروسي "يتوقع أن تستخلص واشنطن الاستنتاجات الصحيحة وتمتنع عن خطوات المواجهة".
من هو روبرت شونوف؟
شونوف هو مواطن روسي يبلغ من العمر 62 عاماً، وعمل لأكثر من 25 عاماً في القنصلية العامة الأميركية في فلاديفستوك، شرقي روسيا، والتي قررت واشنطن إغلاقها في ديسمبر/ كانون الأول 2020. وشغل شونوف منصب رئيس الدائرة الاقتصادية في القنصلية، وقُبض عليه في مارس/ آذار من العام الحالي.
ووجهت هيئة الأمن الفيدرالي الروسية "إف إس بي" اتهامات له بـ"جمع معلومات حول تطورات العملية العسكرية الروسية مقابل المال، وكذلك أوضاع عملية التعبئة، وقضايا إشكالية أخرى، وتقييم مدى تأثيرها على المزاج الاحتجاجي للسكان في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية في عام 2024".
وبحسب محكمة منطقة فرونزينسكي في مدينة فلاديفوستوك، فإن المشتبه به لم يوافق على تصرفات روسيا في أوكرانيا و"بنى، من خلال المراسلات، علاقة تعاون على أساس سرّي مع ممثلي الولايات المتحدة من أجل المساعدة، لهم أنشطة موجهة بشكل واضح ضد أمن الاتحاد الروسي".
ونُقل شونوف إلى موسكو حيث يُحتجز حالياً في مركز "ليفورتوفو" للاحتجاز، ووُجهت له تهمة التعاون سراً مع دولة أجنبية بمقتضى الفقرة الأولى من المادة 271 والتي تصل عقوبتها إلى السجن ثمانية أعوام.
في المقابل، تصرّ وزارة الخارجية الأميركية على أن الاتهامات الموجّهة لشونوف "لا أساس لها من الصحة"، وتشير إلى أن السلطات الروسية تستخدم "قوانين قمعية بشكل متزايد ضد مواطنيها".
وحسب الجانب الأميركي فقد حصل شونوف على وظيفة في شركة تقدم خدمات للسفارة الأميركية بموجب عقد "يتوافق بدقة مع قوانين وأنظمة روسيا"، وأن المسؤوليات الوظيفية للموظف تشمل "إعداد ملخصات إعلامية للمواد الصحافية من مصادر إعلامية روسية متاحة للجمهور".
روسيا نشرت اعترافات لشونوف بتقديم معلومات عن المزاج الاحتجاجي في روسيا
وفي نهاية أغسطس/آب الماضي نشرت السلطات الروسية مقطع فيديو لشونوف اعترف فيه بأنه قدّم معلومات عن "المزاج الاحتجاجي" في روسيا لدبلوماسيين أميركيين، وبعدها أعلنت هيئة الأمن الفيدرالي الروسي نيّتها استجواب الدبلوماسيين الأميركيين جيفري سيلين وديفيد بيرنشتاين في هذه القضية.
ورفض الجانب الأميركي الطلب، وذكرت الخارجية الأميركية، في بيان حينها، أن "روسيا، وفقاً لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، ملزمة بمعاملة الدبلوماسيين بالاحترام الواجب واتخاذ جميع التدابير اللازمة لمنع الاعتداء على حريتهم أو كرامتهم، ونتوقع من روسيا الاتحادية أن تفي بهذا الالتزام".
وأضافت الخارجية الأميركية أن "الترهيب والمضايقة التي يتعرض لها موظفو البعثة الدبلوماسية الأميركية في موسكو أمر غير مقبول".
ومعلوم أن وزارة الخارجية الروسية حظرت على الممثليات الدبلوماسية الأميركية في أراضيها توظيف مواطني روسيا أو مواطني دولة ثالثة في مطلع أغسطس 2021، ما أجبر الولايات المتحدة على تسريح أكثر من مائتي روسي في بعثات عدة على الأراضي الروسية، وفق وزارة الخارجية الأميركية.
كوميرسانت: الاتهامات الموجهة ضد الدبلوماسيَين لا أساس لها من الصحة
ونقلت صحيفة "كوميرسانت" الروسية عن مصدر في السفارة الأميركية في موسكو قوله إن "الاتهامات الموجهة ضد الدبلوماسيَّين لا أساس لها من الصحة"، وأكدت أن واشنطن سترد على تصرفات موسكو "بطريقة مناسبة".
ولاحقاً نددت الخارجية الأميركية بقرار نظيرتها الروسية وتعهدت بالرد في الوقت المناسب. وقال المتحدث باسم الخارجية الأميركية ماثيو ميلر للصحافيين إن "هذا الطرد غير المبرر لطاقمنا الدبلوماسي لا أساس له على الإطلاق".
ومنذ بداية العام الحالي طردت روسيا العشرات من دبلوماسيي وموظفي السفارات الأجنبية في موسكو، خصوصاً من سفارات فنلندا والسويد والنرويج ومولدوفا وألمانيا وإستونيا والنمسا ولاتفيا في إطار "الرد بالمثل"، ولكنها المرة الأولى التي تبادر فيها موسكو إلى طرد دبلوماسيين أجانب في هذا العام، من دون أن يكون ذلك في إطار "الرد".
حروب دبلوماسية
وتوترت العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا على خلفية الحرب الروسية على أوكرانيا، ووصلت إلى أدنى مستوياتها. ولكن لم تحصل عمليات طرد واسعة للدبلوماسيين، ربما لأن "المعارك الدبلوماسية" السابقة منذ 2016 أدت إلى تراجع أعداد الدبلوماسيين والموظفين في سفارات البلدين وممثلياتهما إلى أدنى مستوى ممكن.
وحالياً يعمل نحو 120 أميركياً في بعثات الولايات المتحدة في روسيا، مقارنة بنحو 1200 شخص في العام 2017. في المقابل يعمل 230 روسياً في بعثات بلدهم في الولايات المتحدة، من دون احتساب العاملين في البعثة الروسية لدى الأمم المتحدة في نيويورك.
وبلغ التوتر في العلاقات الروسية الأميركية نقطة غير مسبوقة في إبريل/نيسان 2021، حين تبادل الطرفان طرد عشرات الدبلوماسيين بعد اتهامات أميركية لروسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية وتنفيذ هجمات سيبرانية. وغادر سفيرا البلدين مكان عملهما وعاد كل منهما إلى عاصمته، واستأنفا عملهما بعد قمة الرئيسين فلاديمير بوتين وجو بايدن في يونيو/حزيران 2021.
وفي أواخر فبراير/ شباط 2022 أعلنت الولايات المتحدة طرد 12 دبلوماسياً روسياً في الأمم المتحدة بسبب ما قالت إنه مخاوف تتعلق بالأمن القومي. وحينها وصفت البعثة الأميركية لدى الأمم المتحدة الدبلوماسيين الروس بأنهم "عملاء مخابرات كانوا يشاركون في أنشطة تجسس تضر بأمننا القومي".
وتضامناً مع المملكة المتحدة التي اتهمت روسيا باستخدام "مادة نوفوتشوك" لتسميم العميل المزدوج سيرغي سكريبال وابنته يوليا في مارس/آذار 2018 قرب لندن، أعلنت الولايات المتحدة و14 بلداً أوروبياً وكندا حرباً دبلوماسية على روسيا، وقررت طرد عشرات الدبلوماسيين الروس في رسالة تضامن قوية مع بريطانيا، واختارت هذه البلدان توقيتاً موحداً لإعلان قراراتها.
وأعلنت واشنطن، في ذلك العام، أنها قررت طرد 60 دبلوماسياً روسياً، 48 منهم من السفارة في واشنطن و12 دبلوماسياً آخرين ضمن بعثة روسيا في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، كما طلبت من موسكو إغلاق القنصلية الروسية في سياتل.
وفي نهاية عام 2016، ومع قرب انتهاء فترة حكمه في البيت الأبيض، قرر الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما طرد 35 من الدبلوماسيين الروس في السفارة الروسية بواشنطن والقنصلية الروسية في سان فرانسيسكو، بتهمة التدخل لصالح الرئيس السابق دونالد ترامب في الانتخابات التي فاز بها على حساب المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون.
وحينها قرر بوتين عدم الرد بطرد دبلوماسيين على أمل تحسن العلاقات في عهد ترامب.
ونشبت في بداية عهد بوتين معركة دبلوماسية حادة بين البلدين، وأعلنت الولايات المتحدة في مارس/آذار 2001 طرد 50 دبلوماسياً روسياً بتهمة التجسس، بعد أيام من اعتقال عميل مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي روبرت هانسن بتهمة التجسس لحساب موسكو.
وحينها ردت روسيا بالمثل. وشكلت عملية تبادل الطرد تلك أكبر عملية من نوعها منذ 1986، حين أمر الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان بطرد 80 دبلوماسياً سوفييتياً بتهمة التجسس.