فرنسا... حرية التعبير محل استهانة وقمع

14 نوفمبر 2023
متظاهرون داعمون للفلسطينيين في باريس، السبت الماضي (ديميتار ديلكوف/فرانس برس)
+ الخط -

ما زالت الحرب التي اندلعت بالشرق الأوسط منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 محل تحليل وتعليق واسعي النطاق. ولكن في الجانب الآخر، بالتوازي مع الأحداث وخارج مجال التفكير، تأخذ مساحة التعبير الداعم لحقوق الفلسطينيين في الانكماش والانحسار في أوروبا وفرنسا على وجه الخصوص.

في اليوم التالي للسابع من أكتوبر، كانت وتيرة التشويه والوصم للتحركات الداعمة لفلسطين في فرنسا لافتة للانتباه. أدت هذه الحملة دور الساحق لكل مبادرة تدعم فلسطين، وشكل الهدف منها تشويه اليسار الذي يتجسد في صورة جان لوك ميلانشون والتشكيك في مصداقيته. كلّ هذا بدعم مباشر من الحكومة وأحزابها السياسية والعديد من وسائل الإعلام.

وهكذا، فقد أتاحت ردود الفعل المستنكرة إمكانية التظاهر بعدم فهم التفاصيل المُضَمنة في تصريحات ميلانشون، ومناداته بالعودة إلى السياق التاريخي، مما يعطي انطباعاً بأنه يدعم الإرهاب، شأنه في ذلك شأن النائبتين دانيال أوبونو وماثيلد بانو.

ينعكس موقف السلطات في التعليمات التي تصدر من قبلها مثل قرار حظر التظاهرات الذي وجهه وزير الداخلية جيرالد دارمانان إلى الولاة، وعلى غراره منشور وزير العدل إريك دوبون ـ موريتي.

تجسد هذه التوجيهات بشكل مباشر توسيع القيود على حرية التعبير عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، إذ يعتبر دوبون ـ موريتي أن في تقديم هجوم 7 أكتوبر على أنه شكل من أشكال المقاومة المشروعة، تبريرا للإرهاب.


ألغت إدارة التربية في باريس عرض فيلم رسوم متحركة يروي قصة لاجئة فلسطينية في لبنان

تمت معارضة الحظر الكامل للتظاهر من قبل مجلس الدولة في القرار الذي أصدره في 18 أكتوبر الماضي، ولكن تطبيق الأمر تجسد في أشكال مختلفة بعد ذلك من قبل الولاة. فقد تم على سبيل المثال منع التظاهر في باريس في 28 أكتوبر الماضي، في حين تم السماح به في مرسيليا. رغم كل ذلك، أدى ربط الحكومة للتظاهرات بالتعبير عن دعم لحركة حماس إلى التقليل من أهمية التحرك وتهميشه، مما أعطاه تلقائياً مغزى سياسياً جذرياً.

القضية الغريبة لبنزيمة

تجسد حالة أخرى نفوذ السلطة العامة في فرنسا وقوتها، إذ تلقت الناشطة الفلسطينية اليسارية، مريم أبو دقة، دعوة منذ فترة طويلة إلى فرنسا وحصلت على تأشيرة للمشاركة في مختلف المؤتمرات في القطاع الجمعوي، بالإضافة إلى مجموعة من المسؤولين.

بعد عدة أسابيع من بداية جولتها، أمر وزير الداخلية في 16 أكتوبر الماضي بتوجيهها إلى الإقامة الجبرية في مرسيليا بهدف ترحيلها ومنعها من التحدث في الأماكن العامة.

ومرة أخرى، توصلت العدالة في النهاية إلى معارضة قرار الترحيل بعد أربعة أيام، ولكن الوزارة استأنفت القرار(تم ترحيل دقة قبل أيام). في الوقت نفسه، تم اعتقال نحو عشرة نشطاء من الاتحاد العام للعمال الفرنسي (CGT)، بمن فيهم بعض قادة فرعه في الشمال، وتم إلقاء القبض عليهم ووضعهم قيد الاحتجاز بتهمة الدعوة للإرهاب بعد نشرهم ورقة دعاية.

بعد ذلك بأيام، قررت إدارة التربية في باريس بشكل مفاجئ إلغاء عرض فيلم الرسوم المتحركة النرويجي "وردي" من مهرجان "Collège au cinéma"، الذي يروي قصة لاجئة فلسطينية في لبنان.

ولتبرير هذا القرار، أشارت المؤسسة إلى "السياق الدولي المتوتر"، في تناس تام لإجماع النقاد على أهمية هذا الفيلم الموجه إلى الأطفال عند إصداره في سنة 2018 والذي لم يكن مصدراً لأي شكل من أشكال الجدال.

تُظهر هذه القصة الضغط المستمر الذي تفرضه الحكومة الفرنسية على الشخصيات والخطابات التي تجسد التضامن مع فلسطين أو تسلط الضوء على مسارات فلسطينية عادية للجمهور الكبير.

وبلا أدنى شك يبقى أبشع مثال على ذلك هو هجمة السلطات على لاعب كرة القدم الشهير كريم بنزيمة، إذ طالبت السيناتورة اليمينية فاليري بوير بإسقاط الجنسية الفرنسية عنه بسبب تغريدة له دعم فيها المدنيين في غزة.

وكان دارمانان نفسه قد وجّه وفي وقت سابق اتهامات لهذا اللاعب المقيم بالمملكة العربية السعودية بالانتماء إلى الإخوان المسلمين. وقال على شاشة التلفزيون إنه كان "مهتماً (به) بشكل خاص لبضعة أسابيع"، (سي نيوز، 16 أكتوبر الماضي)، باستناده إلى مقولات سخيفة.

يوضح دارمانان من خلال تصريحاته جهل العديد من وسائل الإعلام والسياسيين بتاريخ الحركات الإسلامية، وتشعب مفهوم "الإخوان"، رغم أنه اتخذ شكلاً في فرنسا بعد أن تغذى إلى حد الإشباع من الخطابات الإشكالية للباحثة فلورنس بيرغو بلاكلر.

إعلام في حالة شلل

بأية حال، لا يمكن تمييز العنف الذي تتسبب فيه إسرائيل (يشار إليه غالباً بالعنف الأولي، أي بمعزل عن تاريخ الاحتلال الإسرائيلي ومقاومته) عن السياسات القمعية التي يشجعها القادة الأوروبيون، فمساحة الحرية المتاحة للتعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني بالحد الأدنى تتضاءل بسرعة جنونية. حتى أن الخوض في هذا التقلص قد صار من المحرمات، ومن المستحيل شرحه علناً لوسائل الإعلام المهيمنة، وبالتالي يتم الإلقاء به في الهامش.


اتُهم مثقفون بتمجيد الإرهاب من خلال التعبير عن التعاطف مع الفلسطينيين 

خارج محيط السلطة السياسية وغير بعيد عنها، يمكن اعتبار وسائل الإعلام بتفرعاتها جزءاً من المساحة المتقلصة التي تآكلت لحجب الخطاب المؤيد لحقوق الفلسطينيين. وفي هذا السياق الخانق، فضّل لفيف من المختصين في الشأن الفلسطيني أو الأكاديميين، رغم خبرة أغلبهم في الإذاعة أو التلفزيون، رفض التعبير عن أنفسهم.

وشهد آخرون إلغاء دعوتهم فجأة من قبل وسائل الإعلام التي كانت ما فتئت قد دعتهم: لقد أصبحوا فجأة مادة شديدة الخطورة بالنسبة لغرف التحرير التي يسير المحررون فيها بحذر كبير على الزجاج.

لدى ظهور المخرج الفلسطيني فراس خوري في قناة إذاعية عامة، رأى أنه ربما بات من الضروري اليوم النظر في فرضية دولة ثنائية القومية، أي وبشكل غير مباشر التشكيك في الطابعين الديني والعرقي للدولة الإسرائيلية. موقف، ترك على الراديو قلقاً واضحاً بين الصحافيين قبل أن يؤدي إلى قطع الاتصال عن الضيف، ثم الاعتذار في اليوم التالي عن ترك مثل هذه الملاحظات تمر على الأثير.

ربما يترجم رد الفعل هذا تأكيداً للمواقف المؤيدة لإسرائيل بين الصحافيين أقل من توضيحه لشكل من أشكال الزلزال في سياق تتغير فيه حدود الخطاب، مما يشلّ أولئك الذين من المفترض بهم إثارة النقاش.

وهو ما يؤدي إلى فرض الحذر الشديد في الخطابات التحليلية. سيكون فرض التكلم ضد هذه الخطوط الحمراء الجديدة صعباً بشكل متزايد في المستقبل. ومن المرجح عندئذ أن شجب أدلة الاحتلال والظلم والجريمة والعنصرية قد يظل مخصصاً لفترة طويلة للدوائر المهمشة.

الدفاع عن الحريات الأكاديمية

في الوسط الجامعي الفرنسي، وفي مكان يفترض أن يتسع لجميع الآراء على تناقضها، اعتباراً لوجود عنصر بشري مؤلف من مثقفين وخبراء وأكاديميين، وإثر أحداث 7 أكتوبر الماضي، تم رصد جملة من "التبليغات" المتكررة، بين الزملاء نفسهم لهياكل الإدارة العليا، يكون ذلك أحياناً بناءً على طلب الإدارات الجامعية ذاتها.

تم اتهام بعضهم بتمجيد الإرهاب من خلال التعبير عن التعاطف مع الفلسطينيين أو نشر نص أو صورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. يعتبر هذا الاتهام من دون أدنى شك خطيراً ودخيلاً على بيئة تاريخها يشهد بمناقشات فكرية عميقة، فلنتذكر الستينات والسبعينات حين كان يستهان بمناقشة الأفكار الخاصة بالعالم الأكاديمي لصالح افتراء قد يكون له آثار قانونية خطيرة.

كرد فعل على ذلك، تم توزيع بيان جماعي موقع من قبل باحثين وباحثات في العلوم الاجتماعية يعبرون فيه عن قلقهم إزاء القيود الجديدة المفروضة على الحريات.

اليوم باتت الحريات الأكاديمية مهددة بالفعل ليس فقط من خلال مجموعة من الإجراءات القانونية، ولكن أيضاً من خلال القيود على الوصول إلى الميدان، وكذلك بسبب الاعتقالات، بما في ذلك اعتقال الأنثروبولوجية الفرنسية ـ الإيرانية فريبا عادلخاه، التي تم إطلاق سراحها في 17 أكتوبر الماضي بعد أكثر من أربع سنوات من الاحتجاز في إيران.

يتطلب دفاعهم الحفاظ على الخطابات النقدية والملتزمة والمستندة إلى معرفة قوية، والتي تتعرض اليوم للتهديد من قبل عمليات الصنصرة (الرقابة) الذاتية والضغوط والجريمة التي دخلت على الخط في المجال العلمي، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، وهو أمر بانت ملامحه بقوة منذ 7 أكتوبر الماضي.


يمكن اعتبار وسائل الإعلام جزءاً من المساحة المتقلصة التي تآكلت لحجب الخطاب المؤيد للفلسطينيين

وهكذا، نكون وبلا ريب قد دخلنا مرحلة جديدة وخطرة لا محالة. في سنة 2019، تمت إعادة التأكيد على احترام الحريات الأكاديمية وذلك رداً على الاتهامات الحكومية حينها بـ "الإسلاموية اليسارية"، حين أحدث الهيكل الوطني للبحث العلمي وكذلك مؤتمر رؤساء الجامعات جبهة مشتركة للدفاع عن المجتمع الأكاديمي. حال، يبدو أنه قد وصل اليوم الى نقطة اللاعودة.

عودة متوحشة للبهلوان

كان الوضع الذي سبق الهجوم الذي قادته حركة حماس على إسرائيل مختلفاَ. كانت إجراءات التجريم على المستوى التشريعي قائمة فعلياً لفترة طويلة، ولكن ما زالت تسبب إحباطاً قانونياً للغالبية، مثل القرار الأخير الصادر عن محكمة النقض في 17 أكتوبر الماضي، الذي ذكر أن دعوات المقاطعة للمنتجات الإسرائيلية لا يمكن أن تعتبر استفزازاً للكراهية.

من تقارير لمنظمات غير حكومية إلى الكتب علمية، ومن انتخابات تدفع الأغلبية أكثر فأكثر نحو اليمين المتطرف وصولاً إلى تصريحات السياسيين اليهود العنصريين، بدا أن الانقلاب في إسرائيل نحو ديمقراطية غير ليبيرالية يتم اكتشافه شيئاً فشيئاً في الفضاء العام الأوروبي.

تقارير دولية
التحديثات الحية

ورغم أنه كان محظوراً في السابق، إلا أن تصنيف النظام الإسرائيلي كنظام فصل عنصري، حتى وإن كان يؤدي إلى انقسام التشكيلات اليسارية، فقد خرج من الدوائر النضالية ليتم استخدامه في وسائل الإعلام العامة، بما في ذلك القنوات العامة التلفزيونية والإذاعية.

من المؤكد أن الاتهامات المشوهة قد استمرت وكان من شأنها الاعتماد على قيود تشريعية تعتبر أن معاداة الصهيونية مرتبطة بمعاداة السامية، أو بعض التتابعات المثيرة للشفقة في كثير من الأحيان، بما في ذلك داخل المجالس والحكومات.

ومع ذلك، بقيت السياسة الإسرائيلية، سواء فيما يتعلق بالشؤون الداخلية أو تجاه الفلسطينيين، غير قابلة لأن تحظى بأي نوع من أنواع الدفاع أو التبرير. كان بإمكان التعبير عن التعاطف مع قضية الشعب الفلسطيني أن يكون ممكناً، وكانت الكلمات مثل المقاومة والاحتلال والمقاطعة تبدو قابلة للنطق، على الرغم من عدم قدرتها على التأثير بشكل مادي على أرض الواقع في الشرق الأوسط.

ألمانيا المتفردة

تم في أكتوبر الماضي حدوث حركة وحشية، لم تكن مفاجأة كبرى، ولكنها محيرة بمقدارها عندما ننظر إليها على نطاق المجتمعات الغربية. يختلف هذا بالتأكيد من بلد أوروبي إلى آخر.

في هذه الحالة، يبدو أن عملية تقليص حرية التعبير في فرنسا وألمانيا حالياً هي الأكثر تقدماً. هناك أسباب تاريخية مرتبطة بالهولوكوست، ولكنْ هناك أيضاً أسباب اجتماعية مميزة، تتمثل في وجود أقليات إسلامية ويهودية على حد سواء في فرنسا.


باتت الحريات الأكاديمية مهددة من خلال القيود على الوصول إلى الميدان والاعتقالات

في بريطانيا، وأيضاً في إيطاليا وإسبانيا، على الرغم من خطابات المسؤولين السياسيين المنحازة لصالح إسرائيل، لم يتم منع التظاهرات التي تدعم الفلسطينيين وتعارض وحشية القصف في غزة والتي غالباً ما كانت ضخمة.

تجندت وسائل الإعلام في بعض الأحيان لتأدية موقف الوسيط الشجاع. على سبيل المثال، قامت إدارة تحرير "بي بي سي" بالدفاع عن قرارها بعدم استخدام تصنيف "إرهابي" للإشارة إلى "حماس"، داعية إلى استخدام تصنيفات أكثر حياداً.

ومع ذلك، لم يمنع هذا الموقف بعض صحافييها من الكشف عن التحيز في التغطية الداعمة لإسرائيل من قبل الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون البريطانية، وكذلك لم يمنع الصحافي التونسي بسام بونني من الإعلان عن استقالته من القناة رداً على ذلك.

في إشارة إلى تسارع عملية تجريم حرية التعبير في ألمانيا، جمّد معرض فرانكفورت للكتاب، الحدث الأهم من نوعه في العالم، منح جائزة للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي التي تلقت في الوقت نفسه اتهامات إعلامية بالترويج لخطابات معادية للسامية في روايتها الأخيرة، والتي تروي عمليات الاغتصاب التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون خلال النكبة.

وفي معرض إدانته للاستخفاف بالإرهاب، غادر عمدة فرانكفورت الديمقراطي الاشتراكي مايك جوزيف بضجة كبيرة مؤتمراً للفيلسوف سلافوي جيجيك، والذي دعا مع ذلك ببساطة، بعد عشرة أيام من 7 أكتوبر الماضي، إلى وضع العنف في إسرائيل وفلسطين في سياقه.

بالإضافة إلى الآثار المباشرة على أولئك الذين يتجندون للدفاع عن حقوق الفلسطينيين، فإن هذا التراجع الأوروبي والألماني والفرنسي على وجه الخصوص، في منسوب حرية التعبير له آثار سلبية.

من خلال إلزام التحليلات وربطها بسجل عاطفي، يتأثر الفهم بلا شك، فمن يستطيع اليوم أن يعتقد بشكل عقلاني أن محاربة "حماس" تتطلب نفس الأساليب التي استخدمها التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش"؟ ومع ذلك، فهذا المسار هو ما اقترحه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته لتل أبيب.

علاوة على ذلك، خارج المجتمعات الأوروبية، ولكن أيضاً داخل قطاعات معينة منها، فإن هذه القيود لها آثار ضارة. تساهم الدعوات لحظر الاحتجاج والخطابات أحادية الجانب لدعم إسرائيل من قبل القادة الأوروبيين والأميركيين، بما في ذلك بعد القصف الإسرائيلي على غزة الذي أودى بحياة الآلاف من المدنيين، بشكل مباشر في ترسيخ فكرة الغرب المتعجرف والذي لم يعد يهتم ببقية العالم.

لم يعد حتى يتحمل عناء جعل الناس يعتقدون أنه يمثل قيماً عالمية. لذلك، هل سيفاجأ القادة وغالبية وسائل الإعلام الأوروبية حقاً بعدم تمكنهم من التواصل مع جيرانهم في الجنوب مستقبلاً ورؤية دعواتهم لدعم أوكرانيا أو أي قضية أخرى مشيطنة أو محتقرة؟

يُنشر بالتزامن مع "أوريان 21"
https://orientxxi.info/ar

المساهمون