دقّ السياسيون في فرنسا، اليوم الإثنين، ناقوس الخطر، محذرين من "أزمة ديمقراطية" في هذا البلد، بعدما شكّلت نسبة الامتناع الشعبية التاريخية عن التصويت في الدورة الأولى من انتخابات المناطق والمقاطعات الفرنسية، صفعة قوية، للأحزاب "التقليدية" ولحزب الرئيس إيمانويل ماكرون الناشئ، "الجمهورية إلى الأمام"، ولليمين المتطرف، الذي شكّل صعوده في دورات الاقتراع الوطنية والمناطقية، منذ بداية الألفية الثالثة، إنذاراً شديداً للجمهورية الخامسة. وصوّت ناخبٌ من أصل كلّ ثلاثة ناخبين، في الدورة الأولى لهذه الانتخابات المحلية التي جرت أمس الأحد. وبعدما دعي 47.7 ملايين فرنسي للاقتراع، استجاب 15 مليون ناخب فقط، لاختيار حكّام مناطقهم الـ13، في ما عدّ تعبيراً عن ميلهم للقطيعة مع السياسيين الموجودين في الساحة، وليس مع السياسة بشكل عام. وأكد رئيس معهد الاستطلاعات الفرنسي، "فيا فويس"، فرانسوا ميكي مارتي، لصحيفة "ليبراسيون"، أن الامتناع القياسي يجد جذوره في دينامية فرنسية انطلقت منذ بداية 2000، ما يعني أن وباء كورونا لعام ونصف العام، ليس بمقدوره أن يكون حجّة السلطة لتفسير العزوف. وإذا كانت النتيجة كارثية على الإليزيه، وسعي ماكرون لولاية ثانية، فإن الجميع يتحمل المسؤولية، وفق المعهد. وكان "فيا فويس"، قد أشار في دراسة الأسبوع الماضي، تفسيراً لعزوف كان متوقعاً، إلى أن الفرنسيين لا يزالون مُسيّسين، لكنهم يفتقدون إلى عروض سياسية تلبي طموحاتهم. ومن جملة ما خرج به المعهد أيضاً، أن قلّة الاكتراث بالانتخابات المناطقية، هو اهتمام الفرنسيين أكثر بأي اقتراع على الصعيد الوطني، أي الرئاسة، وسط قلقهم حول هوية الشخصية التي عليهم أن يختاروها العام المقبل، لإدارة بلادهم.
خسر ماكرون فرصة ابتزاز اليمين في الدورة الثانية
من دون شكّ، تظهّر نسبة الامتناع في الانتخابات المحلية الفرنسية، هذا القلق، جلّياً، إذ لم ينفع إقحام المتنافسين جميعهم، لقضايا الأمن والإسلام والإرهاب في حملاتهم، لانتخابات "إدارية لا مركزية"، تدور في الأصل في فلك تأمين الخدمات والنقل والطبابة، وما يُعنى بتحسين مستوى العيش في المناطق.
ووجّهت نتائج الدورة الأولى من انتخابات المناطق (تجري كلّ 6 سنوات)، الصفعة الأقوى لحزب ماكرون الفتي، "الجمهورية إلى الامام"، الذي حرم حتى في عدد من المناطق من خوض المنافسة في الدورة الثانية، بعدما لم يحصل في الدورة الأولى على العتبة اللازمة (10 في المائة)، وحلّ خلف الحزب الاشتراكي، الذي عمل ماكرون جاهداً على تشتيته. وكان يفترض أن يكون استحقاق المناطق، التمرين الأول لماكرون وحزبه، الذي يخوض هذه الانتخابات للمرة الأولى، على إعادة تجميع الفرنسيين الذين صوّتوا له في 2017 للرئاسة، حول برنامجه، الذي مني بخضّات كثيرة منذ دخول هذا الاشتراكي السابق إلى الإليزيه. وكان يفترض أن يكون اختباراً لإمكانية ولوج الحزب إلى مؤسسات المجالس الإقليمية للمرة الأولى. ويأتي هذا الفشل الذريع للماكرونية، مؤشراً إلى إمكانية "أفولها" سريعاً، وهو ما سيُختبر جدّياً في الرئاسيات. لكن بإمكان ماكرون، الذي جنّد 13 وزيراً لهذا السباق، أن يلتقط أنفاسه قليلاً. فذكرى خروج اليمين وفرانسوا فيون من سباق الرئاسة الماضي، بفضيحة، لا تزال ماثلة في الأذهان. كما أن استطلاعات الرأي تشير إلى استمرار الثقة الشعبية بالرئيس، بحدود 40 في المائة، ما يبقي على توقعات بأن يظلّ هو منافس زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، في الدورة الثانية من رئاسيات 2022.
ومنحت هذه الانتخابات أملاً قوياً لحزبي اليمين واليسار الكلاسيكيين، الجمهوريون والاشتراكي، بالعودة إلى موقعهما التنافسي التقليدي، وإلى توجه انتخابي ظلّ سائداً في فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى 2017. وحظي اليمين بدفعة قوية، إذ ظلّ محافظاً على مواقعه عموماً مع عودة وجوهه المنتهية ولايتهم في المناطق، ولليميني الوسطي كزافييه برتران، رئيس منطقة أو دو فرانس، الذي زاوج أخيراً بين حملة المناطق وحملة الرئاسة للعام المقبل، وهو يعد أحد المنافسين الشرسين المحتملين لماكرون. وإذا كان الجميع يتحملون المسؤولية حول نسبة الامتناع القياسية، فإن الأحزاب التقليدية، لا سيما في اليمين، قد نجحت في التخلص من ابتزاز "الجمهورية إلى الأمام"، الذي حاول تصدير نفسه "صانع ملوك" في الدورة الثانية المنتظرة لهذه الانتخابات، الأحد المقبل.
وإذا كانت الأحزاب التقليدية قد فوجئت بما حققته، ولا سيما "الاشتراكي" الذي أكد قدرته على الصمود، وكذلك الخضر، مقارنة بما كانت أظهرته الاستطلاعات من إمكانية اختراق مهم لليمين المتطرف (بحدود 6 مناطق)، فإن ما تأكد هو أن حزب لوبان، يبقى غير قادر على الخروج من "كعب الكأس"، بحسب المحللين. وتراجعت نسبة التصويت لـ"التجمع الوطني"، من 28 في المائة في انتخابات المناطق عام 2015، إلى 18 في المائة هذا العام، ما دفع قياديي الحزب إلى اعتبار أن "الانتفاضة لا تزال ممكنة" في الدورة الثانية، وحثّ ناخبيهم على التحرك. وعلى الرغم من تحميل لوبان، السلطة، المسؤولية حول نسبة الامتناع المتدنية، إلا أن النتائج تؤكد أن حزبها لم يستفد من إخفاقات ماكرون، لا سيما أزمة السترات الصفراء.
وجاءت نتائج اليمين المتطرف أقل بكثير من المتوقع، إذ كان تييري مارنييه (المنشق عن الجمهوريين)، المرشّح الوحيد لـ"التجمّع الوطني" القادر على تصدّر الدورة الأولى في منطقة وحيدة، هي بروفانس- آلب -كوت دازور (36 في المائة)، مقابل رئيس المنطقة المنتهية ولايته، اليميني رونو موزولييه (31 في المائة). ودعا الأخير إلى الانقلاب على النتيجة في الدورة الثانية، فيما رفض الخضر الأوروبيون دعم لائحة "الاشتراكي - الخضر" التي حلّت ثالثة، لقطع الطريق على فوز اليمين المتطرف.
أبدت الصحف الفرنسية قلقاً على الديمقراطية الفرنسية
واعتبرت صحيفة "لوفيغارو" اليوم، أنه بدلاً من رصد موازين القوى، وتحية الفوز المفاجئ لليمين، فإن نسبة الامتناع الهائلة "دقّت ناقوس الخطر على الحياة المدنية". واعتبرت "لوموند"، أنه من الخطأ الإسراع إلى التهنئة بتراجع اليمين المتطرف، متسائلة عن "القيمة التي يمكن أن يمنحها الفوز، وسط نسبة العزوف هذه؟". وتحدثت عن "تخلٍ ديمقراطي مقلق".