أدت الفوضى داخل البرلمان الفرنسي يوم الخميس الماضي إلى رفع الجلسة. والسبب في ذلك أن النائب غريغوار دي فورناس عن "التجمع الوطني"، الحزب اليميني العنصري، وجّه كلاماً عنصرياً باتجاه زميله النائب الفرنسي من أصول أفريقية كارلوس مارتينز بيلونغو من أحزاب التجمع اليساري التعددي المعارض، الذي يقوده السياسي زعيم اليسار جان لوك ميلانشون، وذلك أثناء نقاش يتعلق بمساعدة قارب لاجئين في البحر الأبيض المتوسط.
احتقان داخل البرلمان الفرنسي
حين طالب النائب بيلونغو المولود في فرنسا من أصل أفريقي مساعدة اللاجئين، ردّ عليه زميله عن "التجمع الوطني" دي فورناس "ليعد إلى أفريقيا". ورغم أنه لم يوضح هل يقصد بذلك زميله النائب أم القارب، فإن ضجّةً حصلت في البرلمان وهتف العديد من النواب، مطالبين بخروج النائب اليميني من الجلسة. واعتبر النائب بيلونغو الكلام موجهاً إليه، ووصف ما حصل بأنه وصمة عار، لأنه تعرض للإهانة بسبب لون بشرته. وقال: "اليوم أعيد لي لون بشرتي... ولدت في فرنسا، وأنا نائب فرنسي".
انتهجت لوبان استراتيجية إقناع الناخبين بأن حزبها تحرك نحو نهج الأحزاب المحافظة
رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن أدلت بتصريحات بعد الفوضى داخل البرلمان، تستنكر الحادث، وقالت "لا يوجد مكان للعنصرية في ديمقراطيتنا". ودعت مكتب البرلمان إلى أن يتخذ قراراً بشأن العقوبة اللازمة، بينما طالب تحالف "نوبيس" الذي ينتمي إليه النائب بيلونغو بطرد النائب العنصري من البرلمان. وقال التحالف في بيان: "التجمع الوطني أظهر وجهه الحقيقي اليوم... وهذا الافتراء العنصري هو سمة من سمات اليمين المتطرف: وصم حسب لون البشرة، وتقسيم الشعب الفرنسي".
ورغم أن أوساطاً مراقبة اعتبرت أن النائب العنصري لم يكن يوجه الكلام إلى زميله، بل للاجئي القوارب، فإن الفوضى التي حصلت مؤشر إلى حالة من الاحتقان داخل البرلمان الفرنسي آخذة في التزايد منذ الانتخابات التشريعية في يونيو/ حزيران الماضي.
التجمع الوطني... تحسينات لا تخفي العنصرية
وعلى مدى السنوات الماضية، أحرز حزب "التجمع الوطني" تقدماً كبيراً على صعيد تغيير لهجته العنصرية التي اتسم بها خلال عدة عقود، وانتهجت مارين لوبان التي تسلمت الحزب من والدها جان ماري لوبان وغيّرت اسمه، استراتيجية إقناع الناخبين بأن الحزب، الذي أدين مرات عدة بالتحريض على الكراهية والعنصرية، قد تحرك نحو نهج الأحزاب المحافظة. حتى إن لوبان تنازلت يوم السبت الماضي عن رئاسة الحزب إلى النائب في البرلمان الأوروبي جوردان بارديلا، الذي تعود أصوله إلى خليط إيطالي جزائري، ليصبح أول رئيس من خارج عائلة لوبان منذ تأسيس الحركة العنصرية عام 1972.
وتهدف التحسينات المتواصلة على صعيد الحزب إلى التقدم باتجاه الحكم. وكانت الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة اللتان جرتا في مايو/ أيار وحزيران الماضيين أول مختبر من أجل تجريب هذا الخط. وبذلك نجح الحزب في الحصول على 89 نائباً، مضاعفاً رصيده بحدود عشر مرات، وبات الحزب الثاني في صفوف المعارضة من حيث عدد النواب، بعد تجمع "نوبيس" بقيادة ميلانشون، والذي بلغ رصيده 131 نائباً.
وكان من المتوقع أن يعمل حزب "التجمع الوطني" العنصري على ترجمة رصيده البرلماني من خلال حضوره داخل البرلمان، والضغط على الحكومة لإدخال تعديلات على بعض القوانين الخاصة بالهجرة والمهاجرين، واتخاذ سياسات أكثر تشدداً من قبل الدولة داخل بعض المناطق التي تعاني من احتكاكات ومشكلات عنصرية. ولأن الحكومة الحالية تفتقد الأغلبية البرلمانية، فإنها ظلّت تُجامل "التجمع الوطني"، وتتغاضى عن ممارساته العنصرية.
تهدف التحسينات المتواصلة على صعيد الحزب إلى التقدم باتجاه الحكم
يبدو "التجمع الوطني" مستعجلاً لتحقيق مكاسب سياسية مهمة، كي يتمكن من البناء عليها لانتخابات 2027 الرئاسية والتشريعية، ويعتبر أن الظروف مواتية لذلك. فالرئيس إيمانويل ماكرون ضعيف على المستوى الداخلي، غير ما كان عليه في ولايته الأولى، ويمكن للحزب العنصري أن يأكل من رصيده. والأمر الثاني هو أنه يستهدي بانتصارات أحزاب وحركات اليمين المتطرف في بلدان أوروبية عدة، وخصوصاً في إيطاليا، التي بات يحكمها حزب فاشي. والمسألة الثالثة تتعلق بالجو الدولي المتمثل بالحرب الروسية على أوكرانيا، بالإضافة إلى احتمالات عودة اليمين الجمهوري للحكم في أميركا، وانتصار اليمين المتطرف في إسرائيل.
تشكل فترة رئاسة ماكرون بيئة خصبة لصعود اليمين المتطرف لأسباب كثيرة، أولها أنه هو نفسه يتحلى بخطاب ذي حمولة عنصرية، حين يتعلق الأمر بالمراجعة الضرورية من قبل رئيس الدولة تجاه الاستعمار الفرنسي، والموقف من الأديان، وخصوصاً الإسلام. والسبب الثاني أن ماكرون لا يمتلك أكثرية برلمانية، ولا يستطيع أن يقود البلاد بحزم ويتخذ قرارات ذات صبغة استراتيجية، وهو مضطر إلى مهادنة جميع الكتل في البرلمان، كي لا تتعرض حكومته إلى تصويت الثقة الذي لا تستطيع أن تصمد أمامه. والسبب الثالث أن اليمين المتطرف يكسب من تهميش ماكرون للأحزاب التقليدية، الذي لعب عليه ونجح به بقوة، حيث تمكن من توجيه ضربة قاصمة لحزبي التوازن التقليدي، الاشتراكي والجمهوريين. ولذا يعتبر اليمين المتطرف أنه المؤهل لقيادة فرنسا في مرحلة ما بعد ماكرون، الذي نافسته في الدورة الانتخابية لولايتيه الأولى والثانية زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان.
كانت الحملة الانتخابية الأخيرة فرصة ذهبية لليمين المتطرف، حيث توافرت له منابر إعلامية عديدة، لينشر خطاباً عنصرياً بلا ضوابط وبسقف عالٍ، خصوصاً من قبل إريك زيمور (مؤسس حزب الاسترداد)، الذي ساهم في تبييض صفحة مارين لوبان عند أوساط واسعة من الرأي العام، صارت تراها معتدلة بالمقارنة مع خطابه العدواني الفجّ والمباشر تجاه المهاجرين والإسلام والعرب.
يمين متطرف صاعد في أوروبا
فرنسا لا تشكل استثناء في أوروبا لجهة الصعود الصاروخي لليمين المتطرف، الذي حسّن مواقعه بشكل كبير خلال العقد الأخير، وبات يحكم مباشرة كما هو الحال في إيطاليا، أو يشارك في الحكم في غالبية الدول الأوروبية. وهذا أمر له عواقب خطيرة وينذر بتطورات سياسية واجتماعية كبيرة تحدد مستقبل القارة ككل.
يشكل تسلم اليمين المتطرف الحكم في إيطاليا مصدر خطر كبير على الوضع في فرنسا
الأمر الأكثر خطورة هو أن اليمين التقليدي الذي شكّل في العقود الأخيرة سدّاً في وجه اليمين المتطرف آخذ بخسارة رصيده، وتسرب قواعده بشكل تدريجي نحو اليمين المتطرف. وهذا الواقع شكّل ضغطاً على اليمين التقليدي الذي أخذ بدوره ينحو منحى عنصرياً كي يجاري الموجة، وهو ما نلحظه يتبلور بقوة في دول كبرى مثل فرنسا، بريطانيا، وإيطاليا.
يشكل تسلم اليمين المتطرف للحكم في إيطاليا مصدر خطر كبير على الوضع في فرنسا لأسباب عدة، أولها التطبيع مع الفاشية، إذ إن حزب رئيسة الوزراء الإيطالية الجديدة جورجيا ميلوني يتبنى عقيدة "الحركة الاجتماعية" التي أسّسها بينيتو موسوليني، وبالتالي عاد هذا التيار الفاشي ليحكم أحد أكثر بلدان أوروبا انفتاحاً.
ومن شأن ذلك أن يشجع الأحزاب المتطرفة الأخرى لتنسج على منواله. ولذلك يبدو اليمين المتطرف في فرنسا متأهباً لتوظيف كل ما يمكن أن يخدم أجندته، كما حصل أخيراً في قضية الطفلة الفرنسية "لولا"، التي تمّ العثور عليها مقتولة، ووجهت التهمة إلى شابة جزائرية تعيش في فرنسا بشكل غير شرعي.
وعلى مدى عشرة أيام قبل العثور على جثة الطفلة، عاشت فرنسا حملة إعلامية شديدة وتوظيفاً سياسياً عنصرياً من قبل اليمين المتطرف، حتى إن أهل الضحية طالبوا بـ"التوقف فوراً عن استخدام اسم وصورة ابنتهم لأغراض سياسية" سواء في التجمعات العامة أو على الإنترنت. وكان حال وسائل الإعلام المستقلة أن "هذه المأساة باتت قضية سياسية رئيسية".
ومنذ اكتشاف الجثة أظهر استطلاع قام به التلفزيون الفرنسي أن ما يقرب من ستة من بين كل عشرة أشخاص يعتقدون أن أولئك الذين يعيشون في فرنسا من دون إقامات شرعية، يجب أن يوضعوا رهن الاعتقال الإداري.
ومن المعروف أن المواقف السياسية من مثل هذه الجرائم ليست جديدة في عالم السياسة، بل الجديد هو أن حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، بات يملك الآن كتلة كبيرة من النواب في البرلمان. وهذا من شأنه أن يشكل أداة توظيف سياسي مثالي. وإذا لم تحصل تطورات تقود فرنسا في اتجاه معاكس تماماً، فإن فرصة مارين لوبان للوصول إلى الرئاسة عام 2027 ستكون كبيرة. فالناخب الفرنسي الذي جرّب اليمين التقليدي والوسط واليسار لن يجد أي حرج في تجريب اليمين المتطرف، الذي يضع مسألة الهجرة على رأس جدول أعماله.
تشكل حرب روسيا على أوكرانيا فرصة ملائمة للتطرف في أوروبا، فقد بدأت النزعات اليمينية المتطرفة بالانتعاش، يغذيها خطاب شعبوي متعاطف مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي تناصره أحزاب اليمين المتطرف وتتعاطف معه علانية، ومثال ذلك حزب مارين لوبان في فرنسا.
والأمر ذاته في ما يخص قوى اليمين الأميركي، وخصوصاً الاتجاهات التي تدور في فلك الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي سبق له أن عمل على تنظيم هذه القوى تحت اتجاه واحد بقيادة مستشاره ستيف بانون.
هذا التطرف من شأنه أن يفاقم النزاعات الدولية، ويزيد من حدة التوترات الموجودة في أكثر من مكان في العالم. ولا شك في أن قوى اليمين المتطرف في إسرائيل تجد ذلك فرصة ذهبية، من أجل تصعيد سياساتها العنصرية ضد الشعب الفلسطيني. ومن غير المستبعد أن تزداد وتيرة الاستيطان، ويرتفع منسوب القمع والقتل والتهجير، ولأن المقاومة لن تقف مكتوفة الأيدي، فإن احتمالات الحرب عالية جداً.