بعد مرور أكثر من 30 عاما على تفكك الاتحاد السوفييتي، يعد آخر زعمائه ميخائيل غورباتشوف، الذي غيبه الموت عن عمر 91 عاما بعد صراع طويل مع المرض أمس الثلاثاء، من الشخصيات الأكثر جدالا في التاريخ الحديث نظرا لدوره المحوري في تفكك أكبر دولة في العالم عام 1991.
ولد ميخائيل غورباتشوف في عائلة مزارعين وسلك مسيرة تقليدية في الحزب الشيوعي، قبل أن يصبح في 11 مارس/ آذار 1985 في سن الرابعة والخمسين زعيما للاتحاد السوفييتي. وكان الاتحاد السوفييتي يومها يعاني من أزمة اقتصادية وغارقا في حرب طال أمدها في أفغانستان، بحسب وكالة "فرانس برس".
تزعّم غورباتشوف الاتحاد السوفييتي في أعوام 1985 - 1991، بصفته أمينا عاما للجنة المركزية للحزب الشيوعي أولا، ثم كأول وآخر رئيس للاتحاد السوفييتي.
وتميز بصغر سنه. ففي أقل من ثلاث سنوات بعد وفاة ليونيد بريجنيف في 1982، عرف الحزب الشيوعي السوفييتي أمينين عامين متقدمين في السن هما يوري أندروبوف وقسطنطين تشيرنينكو اللذان توفيا وهما يشغلان هذا المنصب.
بعد عقود من الركود في الحياة السياسية في الاتحاد السوفييتي، أثار ظهور غورباتشوف آمالا في التغيير، خاصة وأنه أطلق في عام 1985 برنامج "بيريسترويكا"، وهو مجموعة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية الهادفة إلى دمقرطة المجتمع السوفييتي.
عقب إطلاق هذا البرنامج، بات ملايين السوفييت يتمتعون بحريات غير مسبوقة، لكنهم عانوا أيضا من نقص في السلع ومن فوضى اقتصادية وحركات قومية قضت على الاتحاد السوفييتي، وهو أمر لم يغفره له الكثير من مواطنيه، كما تقول "فرانس برس".
وقال غورباتشوف للوكالة في يناير/ كانون الثاني 2011: "بطبيعة الحال، أنا نادم على أشياء.. ارتُكبت أخطاء كبيرة".
أنهى غورباتشوف عمله في منصب الرئيس بعد التوقيع على اتفاقات "بيلوفيجسكايا بوشا" القاضية بانتهاء وجود الاتحاد السوفييتي، في ديسمبر/كانون الأول 1991.
"خيب آمال سكان الاتحاد السوفييتي"
يرى كبير الباحثين في معهد علم الاجتماع التابع لأكاديمية العلوم الروسية، أندريه أندرييف، أن غورباتشوف خيب آمال سكان الاتحاد السوفييتي نظرا لتعارض كلامه مع نتائج سياساته وعجزه عن تشكيل فريق قادر على تطبيق الإصلاحات.
ويقول أندرييف في حديث لـ"العربي الجديد": "غورباتشوف هو شخصية متناقضة في تاريخ بلادنا. علق السكان آمالا كبيرة عليه. كانت شخصيته الحيوية مختلفة عن القادة السوفييت السابقين، الذين اعتادوا تلاوة خطاباتهم المعدة سلفا من الورقة. ولكن هذه الآمال سرعان ما تبددت، بعدما تبين أنه يتحدث كثيرا دون أن يتحقق ما يقوله على أرض الواقع. كانت نواياه صادقة، ولكنه عجز عن تشكيل فريق يتمتع بأهلية كافية، لذلك فشل كشخصية دولة".
وتتناسب هذه التقديرات بدرجة عالية مع المواقف الحالية لسكان روسيا حيال غورباتشوف، إذ أظهر استطلاع أجراه "مركز عموم روسيا لدراسة الرأي العام" (حكومي) في العام الماضي، أن 51 في المائة من الروس يرون أن الأضرار التي حققتها أعماله أكثر من الفوائد، معتبرين أنه "سياسي فكر في مصلحة البلاد، ولكنه ارتكب مجموعة من الأخطاء الجسيمة أدت إلى اضطرابات ومشكلات"، فيما رآه 22 في المائة من المستطلعة آراؤهم "مجرما تعمد تفكيك البلاد".
"رؤية جديدة" للسياسة الخارجية
على صعيد السياسة الخارجية، أسفرت إعادة غورباتشوف النظر في السياسة الخارجية واعتماد "الرؤية الجديدة" حيال العلاقات الدولية والبلدان الحليفة في أوروبا الشرقية، وسحب القوات السوفييتية منها، والتخلي عما عُرفت بـ"عقيدة بريجنيف" (أي عقيدة الزعيم السوفييتي السابق ليونيد بريجنيف) التي كانت تشمل إمكانية التدخل عسكرياً في هذه الدول، عن سقوط الأنظمة الشيوعية بصورة سلمية في بولندا والمجر وغيرهما من بلدان أوروبا الشرقية، وتوحيد ألمانيا إثر سقوط جدار برلين في نهاية عام 1989.
وفي عام 1990، نال غورباتشوف جائزة نوبل للسلام، تمجيدا لنجاحاته في الإصلاحات وتحسين العلاقات بين الاتحاد السوفييتي والغرب.
إلا أن نتائج الإصلاحات التي أجراها غورباتشوف مهدت للعد التنازلي لتفكك الاتحاد السوفييتي، إذ وقع قادة روسيا، بوريس يلتسين، وأوكرانيا، ليونيد كرافتشوك، وبيلاروسيا، ستانيسلاف شوشكيفيتش، في 8 ديسمبر/كانون الأول 1991 على اتفاقية "بيلوفيجسكايا بوشا" التي أقرت بانتهاء وجود الاتحاد وإقامة رابطة الدول المستقلة.
وفي 25 ديسمبر/كانون الأول 1991، ألقى غورباتشوف كلمة وداع تنحّى فيها عن الحكم لتمسّكه بـ"وحدة الدولة"، ليصدر وفي اليوم التالي إعلان الاعتراف باستقلال 15 جمهورية سوفييتية سابقة عاشت اضطرابات سياسية واقتصادية وحروبا إثر تفكك الاتحاد السوفييتي.
ويشير أستاذ العلوم السياسية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، كيريل كوكتيش، إلى أن صعود غورباتشوف جاء نتيجة لعدم إيمان النخب السوفييتية الجديدة بأيديولوجيا بلادهم، معتبرا أن الصراعات التي تعيشها الجمهوريات السوفييتية السابقة، بما فيها الحرب الحالية في أوكرانيا، هي نتيجة مباشرة لتفكك الاتحاد.
ويقول كوكتيش في حديث لـ"العربي الجديد": "كان وصول غورباتشوف إلى رأس السلطة نتيجة لموقف النخب السوفييتية الجديدة التي لم تعد تؤمن بالأيديولوجيا، ولكنه تبين أن الدولة بحجم الاتحاد السوفييتي غير قادرة على الاستمرار في الوجود من دونها، ومن المؤشرات التي تؤكد ذلك عدم تفكك الصين رغم وجود تشابه بينها وبين الاتحاد السوفييتي من جهة سيطرة الحزب الشيوعي على مفاصل الدولة ومركزية الاقتصاد".
ويلفت إلى أن الصراعات التي عاشتها الجمهوريات السوفييتية السابقة هي نتيجة مباشرة لتفكك الاتحاد السوفييتي، الذي أسفر عن نشأة دول مستقلة تضم جيوبا تقطنها قوميات أخرى كما هو حال إقليم ناغورنو كاراباخ في أذربيجان ومنطقة دونباس في أوكرانيا.
ويبدو أن الحنين إلى الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى على الساحة الدولية، لا يزال يسيطر على كبار السياسيين الروس، بمن فيهم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي وصف تفكك الاتحاد مراراً بأنه "مأساة" و"تفكك روسيا التاريخية" و"أكبر كارثة جيوسياسية في القرن الـ20".