عودة سياسية مزدحمة في فرنسا بعد هدنة الأولمبياد

15 اغسطس 2024
أنصار الجبهة الشعبية في باريس، 7 يوليو 2024 (الأناضول)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **انتهاء هدنة الأولمبياد وعودة الأزمة السياسية**: بعد انتهاء الألعاب الأولمبية في باريس، عادت الأزمة السياسية في فرنسا بسبب الانتخابات التشريعية المبكرة، حيث رفض ماكرون الاعتراف بتقدم الجبهة الشعبية اليسارية.

- **موقف ماكرون وتشكيل الحكومة**: خلال الأولمبياد، دعا ماكرون إلى حكومة ائتلافية تستثني اليسار الراديكالي واليمين المتطرف، لكن استمر في تجاهل الجبهة الشعبية اليسارية التي رشحت لوسي كاستيه لرئاسة الحكومة.

- **ردود الفعل والمبادرات السياسية**: الجبهة الشعبية دعت لتشكيل حكومة ائتلافية بقيادتها، بينما رئيس الحكومة غابريال أتال دعا إلى "ميثاق عمل" يشمل كافة القوى السياسية باستثناء اليمين المتطرف و"فرنسا غير الخاضعة".

مع إسدال الستار على الألعاب الأولمبية التي استضافتها باريس بين 26 يوليو/تموز الماضي و11 أغسطس/آب الحالي، يعود همّ الأزمة السياسية في فرنسا التي نشبت على خلفية الانتخابات التشريعية المبكرة، التي أُجريت في 30 يونيو/حزيران و7 يوليو/تموز الماضيين. مع انتهاء الألعاب الأولمبية انتهت الهدنة التي أعلنها الرئيس إيمانويل ماكرون متذرعاً بالحدث الرياضي الضخم، وهي هدنة وافقت القوى السياسية المعارضة ضمناً عليها، لأخذ قسط من الراحة، ثم لإجراء اجتماعات وتحضير المرحلة المقبلة التي قد تكون أكثر شراسة سياسياً مما ساد قبل بدء الأولمبياد في 26 يوليو الماضي، أي مع حلول الجبهة الشعبية الجديدة اليسارية في المرتبة الأولى متقدمة على ائتلاف ماكرون واليمين المتطرف، وهو ما رفض ماكرون الاعتراف به واقعاً سياسياً يحتّم عليه تسمية مرشح الجبهة اليسارية لتأليف الحكومة، بذريعة أن الجبهة الشعبية حققت فوزاً نسبياً لا مطلقاً (193 نائباً)، وهذا ما عدّه كثيرون هرطقة دستورية، ذلك أن فكرة الغالبية المطلقة تسري على التصويت داخل البرلمان على مشاريع القوانين وتعديل الدستور، لا على تصنيف القوى السياسية الفائزة، بدليل أن حكومات ماكرون منذ 2019 تألفت بموجب فوز انتخابي نسبي بـ250 نائباً من أصل 577 (بينما الغالبية المطلقة تتطلب 289 نائباً).


ماكرون متمسك بحكومة بلا اليسار الراديكالي واليمين المتطرف

هدنة الأولمبياد في فرنسا

على امتداد أسبوعين من الألعاب الأولمبية، استفاض ماكرون والطاقم المحيط به في التغني بروح الوحدة والبهجة والتآخي في فرنسا التي أشاعتها المناسبة الرياضية. وتتالت التصريحات الداعية إلى الاستفادة من هذه الأجواء لنبذ الانقسام وتغليب نهج التسوية في التعامل مع المشكلات، بما في ذلك المشكلات السياسية القائمة في البلاد. ولكن في الوقت نفسه استمر الرئيس الفرنسي في النهج الذي اعتمده عقب الانتخابات، واستند على التسويف والتجاهل لكون الجبهة الشعبية (اليسارية) هي القوة السياسية الأجدر بتشكيل الحكومة الجديدة. وبالتالي، فإن ماكرون أثبت على امتداد الهدنة أنه ليس بصدد العدول عن موقفه الداعي إلى تشكيل حكومة ائتلافية واسعة، مفتوحة على كافة القوى، باستثناء اليسار الراديكالي ممثلاً بحزب فرنسا غير الخاضعة واليمين المتطرف ممثلاً بـ"التجمع الوطني". وترددت أسماء شخصيات عدة منها الوزير السابق، رئيس المجلس الإقليمي لمنطقة هو دو سين، كزافييه برتران، وكذلك الوزير السابق، المسؤول في الاتحاد الأوروبي ميشال بارنييه وكلاهما من اليمين الجمهوري، إضافة إلى اسم رئيس الحكومة الاشتراكي السابق برنار كازنوف، لتولي رئاسة هذه الحكومة الائتلافية.

في المقابل، فإن "الجبهة الشعبية" المكونة من "فرنسا غير الخاضعة" والحزبين الاشتراكي والشيوعي وحزب أنصار البيئة، لم تتمكن من إنجاز برنامج سياسي مشترك يشكل خطة عمل للحكومة المقبلة في حال ألفتها، لكنها توافقت على اسم رئيسة لهذه الحكومة بشخص الموظفة الكبيرة في بلدية باريس لوسي كاستيه. وبما أن كاستيه، البالغة من العمر 37 عاماً، غير معروفة من قبل الفرنسيين، إذ لم يسبق لها أن شغلت أي منصب عام، فإنها عملت خلال الهدنة السياسية على تنظيم زيارات إلى المناطق المختلفة وعلى تكثيف إطلالاتها التلفزيونية، للتعريف بنفسها وإقناع الرأي العام بمقدرتها على تولي رئاسة الحكومة.

ولكن المقصد الفعلي لهذا التحرك كان الإبقاء على الضغط على ماكرون وتحالفه "معاً من أجل الجمهورية"، والقول إن الجبهة لا تزال على إصرارها حول شرعية توليها تشكيل الحكومة المقبلة. ومن المنطلق نفسه، وغداة تسليم باريس الشعلة الأولمبية إلى مدينة لوس أنجلوس الأميركية، مستضيفة الألعاب الأولمبية المقبلة في عام 2028، بادرت كاستيه إلى إعادة تذكير الرئيس الفرنسي بالواقع، عبر رسالة وجّهتها إلى نواب وأعضاء مجلس الشيوخ، باستثناء اليمين المتطرف، داعية إياهم إلى العمل معاً من أجل حالة العرقلة والجمود التي سادت عقب الانتخابات. ودعت الرسالة التي حملت، إضافة إلى توقيع كاستيه، تواقيع رؤساء القوى اليسارية البرلمانية، إلى عدم الاستمرار في تجاهل الإرادة التي عبّر عنها الفرنسيون عبر صناديق الاقتراع بإعطائهم العدد الأكبر من المقاعد النيابية، مبدية استعداد الجبهة إلى مد يد العون للقوى السياسية الأخرى للتعويض عن افتقارها لغالبية برلمانية مطلقة. بالتالي، فإن الجبهة الموحدة باتت على غرار ماكرون، تدعو بدورها إلى حكومة ائتلافية في فرنسا وبرئاسة أحد وجوهها، مؤكدة استعداد كاستيه فور تكليفها لإجراء مفاوضات برلمانية شفافة لبلورة برنامج عمل، يتركز على خمسة محاور رئيسية هي: تحسين القدرة الشرائية، وتسريع وتيرة التحولات البيئية، وإصلاح قطاع التعليم العام، وأيضاً القطاع الصحي، وإحلال نظام ضريبي أكثر عدلاً من النظام القائم حالياً.


الجبهة الشعبية اليسارية تؤيد تشكيل حكومة ائتلافية بقيادتها

ردّ أتال على اليسار

هذه المبادرة تنطوي على جرأة مؤكدة وتجعل من صياغة البرنامج الحكومي عملية غير مقتصرة على مكونات "الجبهة الشعبية"، وأبرزها "فرنسا غير الخاضعة" والشيوعيون والاشتراكيون، بل تشمل مجمل القوى السياسية الجمهورية استناداً إلى مسلّمات الجبهة. وسرعان ما عمل رئيس الحكومة غابريال أتال للرد عليها بمبادرة مضادة. ففي رسالة وجهها إلى الكتل النيابية المختلفة، باستثناء اليمين المتطرف وأيضاً "فرنسا غير الخاضعة"، عرض أتال بدوره على القوى السياسية العمل على إرساء برنامج مشترك من دون السعي إلى إلغاء التباين والاختلاف القائم بين هذه القوى، وإنما إلى تجاوزها لما فيه مصلحة الفرنسيين. واقترح أتال على القوى البرلمانية إرساء "ميثاق عمل من أجل الفرنسيين" يتيح لأعضاء البرلمان- على حد قوله- إمكانية صياغة تسويات لإنجاز الورش التالية: إعادة إحلال السيادة الاقتصادية وإصلاح مالية البلاد العامة، والدفاع عن قيم العلمانية وتجديد المؤسسات، وتحسين نوعية معيشة الفرنسيين على صعيد القدرة الشرائية والسكن والعمل، والنهوض بالبيئة والأمن والخدمات العامة وفي مقدمتها التعليم والصحة.

وتوحي الاستعانة برئيس حكومة تصريف الأعمال للتوجه إلى البرلمانيين، بأن ماكرون ليس في عجلة من أمره ولا يأبه لضغوط القوى اليسارية، وهو مستمر في محاولته الالتفاف على الواقع البرلماني الذي أفرزته الانتخابات، وفرض تصوره لما ينبغي أن يكون عليه شكل الحكومة المقبلة. والمرجح أن يؤدي هذا النهج إلى زجّ الحياة السياسية في البلاد ضمن دائرة من شد الحبال واستعراض القوى، بما يهدد بتعطيل الحياة البرلمانية وتأجيج المصاعب الحياتية التي يواجهها الفرنسيون، ويحثهم على توجيه أنظارهم مجدداً باتجاه اليمين المتطرف الذي قد يستعيد قدراته الهجومية بمجرد الانتهاء من مراجعة حساباته الداخلية بعد فشله في إحراز غالبية برلمانية مطلقة.