خرجت يوم الثلاثاء الماضي تظاهرات واحتجاجات جديدة واسعة في إسرائيل، تخللها إغلاق طرقات رئيسية واضطرابات في مطار بن غوريون الدولي، احتجاجاً على إقرار الكنيست بالقراءة الأولى التعديل على قانون أساس القضاء: "حجة المعقولية"، الذي يلغي إمكانية تدخّل قضاة المحكمة العليا في قرارات الحكومة، أو رئيس الحكومة والوزراء، تحت حجة عدم معقوليتها.
عودة الاحتجاج إلى الشوارع جاءت في بيئة متغيرة بعض الشيء عن بدايتها قبل قرابة 28 أسبوعاً. حركة الاحتجاج تعي أنها لا تستطيع إرغام الحكومة على التراجع عن خطتها للتغيرات القضائية باستعمال التظاهرات وإغلاق الشوارع فقط، ولا بواسطة الأدوات المتاحة للمعارضة البرلمانية، لذلك تسعى إلى تجنيد عوامل ضغط إضافية مؤثرة على الحكومة.
أبرز تلك العوامل الضغط الدولي، خصوصاً ضغط إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، وإعادة تهديد قطاعات من جيش الاحتياط برفض التطوع، خصوصاً وحدات من سلاح الجو والسايبر والوحدات الخاصة، وقطاع الاقتصاد والأعمال الذي أعلن في السابق الإضراب الشامل في المرافق الاقتصادية دعماً لحركة الاحتجاج.
إلا أن الأيام الأخيرة أظهرت أن كل هذه الأدوات ليست متاحة كما كانت مع بداية الاحتجاج، خصوصاً مع تردد الإعلان عن رفض التطوع في قوات الاحتياط، وتباطؤ انضمام قطاعات الاقتصاد والأعمال للاحتجاج بشكل فعال.
ضغط من الساحة الدولية
لأول مرة منذ بداية الاحتجاجات، نظمت حركات الاحتجاج تظاهرة أمام مبنى السفارة الأميركية في تل أبيب، لمطالبة الإدارة الأميركية بتفعيل ضغط أشد على الحكومة الإسرائيلية. حركة الاحتجاج تدرك حساسية الحكومة الإسرائيلية للضغط الدولي، تحديداً الأميركي، وتعي أن ذلك من الأدوات المتاحة ولم يستنفد لغاية الآن.
حركة الاحتجاج تدرك حساسية الحكومة الإسرائيلية للضغط الدولي
حركة الاحتجاج شعرت بتشجيع من موقف بايدن الذي جاء في مقابلة مع قناة "سي أن أن" قبل أيام من التظاهرة، وانتقاده الشديد لرئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته.
ويوضح هذا الأمر إصرار الإدارة الأميركية على موقفها الحاد تجاه حكومة نتنياهو بسبب خطة التعديلات القضائية، ورفع سقف النقد العلني من رأس الهرم. بايدن أوضح مرة أخرى في مقابلة مع "سي أن أن" أيضاً، عن رفضه دعوة نتنياهو لزيارة البيت الأبيض، وقال إن هناك خلافات عميقة مع الحكومة الإسرائيلية، التي وصفها بالأكثر تطرفاً منذ سبعينيات القرن الماضي. وأوضح أن هناك خلافاً عميقاً حول خطة "التعديلات القضائية" التي تقودها حكومة نتنياهو.
ومن ثم جاءت مقالة الصحافي توماس فريدمان في صحيفة "نيويورك تايمز"، الأربعاء الماضي، المقرب من إدارة بايدن، الذي حدد فيها الشرخ الكبير مع الحكومة الإسرائيلية وإسقاطاته. وقال إنه لن يكون بالإمكان منع إدارة بايدن من "إعادة تقييم" العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وذلك على خلفية خطة "الإصلاح القضائي" لإضعاف جهاز القضاء وسياسة حكومة بنيامين نتنياهو تجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وأضاف فريدمان، أن الاعتقاد في البيت الأبيض هو أن الحكومة الإسرائيلية تعمل بصورة "متطرفة وغير مسبوقة، تحت غطاء إصلاح قضائي"، وبشكل "يستهدف المصالح والقيم المشتركة مع إسرائيل".
النقد المباشر من بايدن ومقال فريدمان، كان لهما ردود إسرائيلية عبّرت عن قلقها من تردي العلاقات السياسية مع الولايات المتحدة، بالرغم من أن بايدن وفريدمان، شددا على أن العلاقات العسكرية والاستراتيجية لن تتضرر. والخشية الأساسية كانت في الجانب الدبلوماسي، ومن عقوبات أميركية غير معلنة قد تكون بصيغة تراخي في دفاع الولايات المتحدة عن إسرائيل في الأمم المتحدة، على سبيل المثال.
هذه المواقف تشير إلى أن حركة الاحتجاج والمعارضة البرلمانية ستعملان على تجنيد موقف الإدارة الأميركية للضغط على الحكومة الإسرائيلية، ولتجنيد الشارع الإسرائيلي لاستمرار الاحتجاج، خصوصاً أن هناك بعض التآكل في محاور ضغط أخرى كانت فعّالة جداً في جولات الاحتجاج السابقة، مثل محور تهديد قوات الاحتياط بعدم التطوع في الجيش ومحور قطاع الاقتصاد.
قوات الاحتياط في الجيش... محاولة الردع
اضطر وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت لإعلان موقف واضح وعلني، ضد الخطة الحكومية للتعديلات القضائية قبل عدة أشهر بسبب الضغط القوي من قيادات الجيش، وتهديد قطاعات واسعة من قوات الاحتياط بعدم الاستمرار في التطوع في حال استمرت الحكومة في سنّ قوانين الخطة القضائية.
إثر ذلك أقال نتنياهو وزير الأمن الذي تحول إلى شخصية محببة لدى حركات الاحتجاج. هذه الإقالة أعطت دفعة قوية لحركة الاحتجاج والإعلان عن الإضراب العام، مما أدى إلى تراجع نتنياهو وتجميد عملية سنّ قوانين الخطة القضائية.
نتنياهو سحب إقالة غالانت إثر العدوان الأخير على غزة (بين 9 مايور/أيار الماضي و13 منه)، وعلى ما يبدو عمل لاحتواء غالانت (بغير عادته)، وحاول إرضاء قيادات الجيش واستيعاب نقدهم لخطة التعديلات القضائية. ناهيك عن أن التوترات الأمنية والحملات العسكرية على غزة ومن ثم على مخيم جنين (بين 3 يوليو/تموز الحالي و5 منه)، خففت بعض الشيء من حدة خطوات رفض التطوع.
الهجوم على غزة ومخيم جنين أوضح أنه لا توجد ترجمة على أرض الواقع للتهديدات بعدم التطوع والخدمة في حالات الطوارئ الأمنية في إسرائيل. الحكومة الإسرائيلية رأت أن هناك هوة واسعة بين التهديد وبين التنفيذ بعدم التطوع، وربما تكون شعرت أنها نجحت في احتواء هذه التهديدات.
نقد بايدن ومقال فريدمان، أقلقا الإسرائيليين من تردي العلاقات مع واشنطن
صحيح أن عودة الاحتجاج أعادت معها أصوات بعض القطاعات العسكرية في الاحتياط بعدم التطوع، خصوصاً وحدات من سلاح الجو والسايبر والوحدات الخاصة، إلا أنها لم تترجم بفعل جماعي وقرار بعدم التطوع لغاية الآن.
في هذا السياق ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية، أن أكثر من 400 طيار نشط في قوات الاحتياط التابعة لسلاح الجو الإسرائيلي، عقدوا اجتماعاً لمناقشة تحركات الحكومة التشريعية لإضعاف جهاز القضاء وتداعياتها على أنشطة سلاح الجو.
ووفقاً للتقارير فإن جميع المشاركين في الاجتماع يشغلون "مواقع مركزية ومهمة في المهام العملياتية وينشطون في خدمة الاحتياط". كما ذكرت القناة 12 أن المئات من الجنود الاحتياط من وحدات النخبة والوحدات الحساسة في الجيش، أعلنوا عن رفضهم تأدية الخدمة العسكرية في صفوف قوات الاحتلال، في حال سنّ قانون تقييد "حجة المعقولية"، أي في حال مر بالقراءة الثالثة في الكنيست، وسط تقديرات بأن يؤثر ذلك على قدرة الجيش الإسرائيلي وجهوزيته.
كذلك نشر قرابة ألف عنصر سابق في سلاح الجو، منهم قيادات سابقة لسلاح الجو وضباط كبار سابقون، عريضة في الأيام الأخيرة في الصحف الإسرائيلية، عبّروا فيها عن تأييدهم لرفض طيارين حربيين في الاحتياط التطوع للخدمة العسكرية على خلفية خطة "الإصلاح القضائي" لإضعاف جهاز القضاء.
تحركات قوات الاحتياط نجحت في السابق في التأثير على قرار وزير الأمن بمعارضة خطة التعديلات القضائية علناً، وتحدي نتنياهو، كذلك حاولت قيادات الأجهزة الأمنية كافة، الجيش و"الموساد" و"الشاباك"، التأثير بشكل مباشر على نتنياهو وثنيه عن الخطة بسبب تأثيرها السلبي على المؤسسة العسكرية والأمنية.
إلا أن هذه الأصوات كانت أقل حدة في الأسابيع الأخيرة، ولم تتخذ لغاية الآن قراراً فعلياً بعدم التطوع، وعلى ما يبدو فإن هذه التحركات والأصوات بمثابة محاولات لردع الحكومة، وأن الحسم مؤجل بانتظار أن ترى إذا ما كانت الحكومة ستستمر في سنّ قانون تقييد "حجة المعقولية".
كما لا يمكن إغفال تأثير التوتر الأمني على قرارات قوات الاحتياط. كل هذا لا يمنع أن يتغير موقفهم وأن يكون أكثر حدة في حال استمرت الحكومة بعملية سنّ قانون "حجة المعقولية" وقوانين إضافية في خطة تقييد القضاء في الأسابيع القادمة.
تراخي حدة رد قطاع الاقتصاد
لعل أضعف الحلقات في تجدد الاحتجاجات هو محور الاقتصاد وقطاع الأعمال. قطاع الأعمال الذي لحقت به خسائر فادحة في الأشهر الأخيرة ما زال ينتظر التطورات. ففي تقدير لصحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية نشر في 29 يونيو/حزيران الماضي، قُدّرت خسائر الاقتصاد الاسرائيلي منذ كانون يناير/الثاني الماضي بنحو 150 مليار شيكل (41.24 مليار دولار) بسبب خطة تقييد القضاء.
قد تكون هذه الخسائر قد شكلت رادعاً لانضمام سريع لقطاع الأعمال للاحتجاج الأخير، وهي ما زالت بحالة ترقب. وبخلاف بدايات الاحتجاجات وتصاعدها، لم تنضم قطاعات اقتصادية للاحتجاج في الأيام الأخيرة ولم تهدد بإعلان إضراب عام، كما لم يكن هناك انعكاس جدي للاحتجاج على المؤشرات الاقتصادية كما حصل في بداية الاحتجاج.
ناهيك عن أن المنظمات العمالية الكبرى تقف جانباً في هذه الموجة ولم تعلن "الهستدروت" (نقابة العمال العامة) الإضراب العام، بل صرح رئيسها أرنون بار ـ ديفيد، أنه سيرى كيف ستطور الأمور، وما إذا ستستمر الحكومة في سنّ قانون تقييد "حجة المعقولية".
عودة الاحتجاجات أعادت معها أصوات بعض القطاعات العسكرية في الاحتياط بعدم التطوع
محور الاقتصاد أزعج في الحكومة جولات الاحتجاج السابقة. إلا أن زخم هذا المحور لم يترجم بعد في الموجة الحالية. وقد تكون من أهم اعتباراته هي خسائر قطاع الأعمال وتراجع المؤشرات الاقتصادية منذ بداية العام الحالي، مثل ارتفاع سعر الفائدة المصرفية، والتضخم المالي، وتراجع الاستثمارات الأجنبية.
غير أن هذا لا يمنع أن ينضم قطاع الأعمال وكبرى الشركات إلى حركات الاحتجاج وإعلان الإضراب العام في حال استمرت الحكومة بسنّ قوانين "تقييد القضاء".
صيف حار
على الرغم من عودة حركات الاحتجاج بقوة للشارع الإسرائيلي، إلا أن غالبية روافع القوة والتأثير لم تستنفد بعد. وباستثناء موقف وتصريحات الإدارة الأميركية الناقدة بحدة لحكومة نتنياهو وخطواتها، فإن محور قوات الاحتياط والجيش لم يتحرك لغاية الآن بشكل قوي وواضح للضغط على الحكومة، وكذلك قطاع الأعمال والاقتصاد. وما زالوا في مرحلة محاولة الردع والضغط، ولم يتخذوا قرارات نهائية.
استمرار عملية سنّ قانون تقييد "حجة المعقولية" وإعلان الحكومة عن المضي قدماً بسنّ بقية بنود خطة "تقييد القضاء" يعني أن الاحتجاج سيستمر ويتفاقم، وأن قوات الاحتياط وقطاع الأعمال ستنضم بقوة للاحتجاج، لأن تجربة الماضي توضح أن نتنياهو وحكومته لا يفهمون إلا مبدأ القوة والضغط الجدي. بهذا المعنى فإن صيف إسرائيل سيكون ملتهباً وباتجاه كسر العظام.