يتساءل كثيرون: كيف تمكّن الحزب الشيوعي الصيني من الاستمرار في الإمساك بزمام السلطة لمدة مائة عام، وكيف حكم وأدار خلال هذه الحقبة شعباً بلغ تعداده 1.4 مليار نسمة. في أثناء جائحة كورونا التي فتكت بالعالم مطلع العام الماضي، كان لافتاً قدرة الصين على التعافي المبكر من الجائحة بفضل الإجراءات الصارمة التي اتخذتها السلطات، مثل إغلاق الحدود، وفصل المدن والمقاطعات، وفرض حجر صحي طاول مئات الملايين من السكان.
في أعقاب ذلك، برزت تساؤلات عن سر طاعة الشعب الصيني المطلقة واستجابته العمياء لكل ما يؤتمر به من قادة الحزب والدولة من دون أن يشغل نفسه بأبعاد وتداعيات تلك الأوامر ومدى انتهاكها للحقوق والحريات العامة.
قبل مائة عام من الآن (1921)، تأسس الحزب الشيوعي الصيني في مناخ يتسم بالانقسامات الأيديولوجية، فأدرك قادته مبكراً أنه لا سبيل إلى السلطة المطلقة التي كان يتنازعها الحزب مع القوميين، إلا بالسيطرة الكاملة على عقول الناس، وذلك باتباع أساليب عدة، لعل أبرزها الإعلام الذي لعب لاحقاً دوراً أساسياً في تطويع العمال والفلاحين (قوام المجتمع الصيني آنذاك) وتوظيفهم لخدمة مصالح الحزب.
حتى بعد موت ماو عام 1976، ظلّ الشعب الصيني طيعاً
في أثناء الحرب الأهلية الصينية التي اندلعت بين عامي 1927 و1936، حاول الحزب الشيوعي استمالة صحف مستقلة لتكون منبراً له، وعندما فشل في التأثير على بعضها، أسس صحفه ويومياته الخاصة، ومن بينها صحيفة الشعب اليومية التي كان لها منذ تأسيسها عام 1948 حتى يومنا هذا، دور كبير في تسويق خطط وأجندات الحزب السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ففي خمسينيات القرن الماضي، حين قرر الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ، تحويل البلاد من الزراعة إلى الصناعة، فيما عرف بـ"القفزة الكبرى إلى الأمام"، لم يواجه أي معارضة لخطته، بل وجد شعباً طيّعاً هجر الحقول والزراعة من أجل التفرغ لإنتاج الفولاذ على حساب قوت يومه، ما تسبب في أزمة غذاء تحولت إلى مجاعة أودت بحياة ما يقدر بحوالي ثلاثين مليوناً. في تلك الأثناء، برز دور الصحافة في تضليل الرأي العام حيال معدلات الاحتياط الغذائي وقدرة البلاد على تغطية أي عجز في مخزون الغذاء.
أيضاً في أثناء الثورة الثقافية عام 1966، كان من السهل تجنيد الشباب وتشكيل الجيش الأحمر لقمع الطبقة الرأسمالية داخل الحزب الشيوعي، وهي أحداث فقدت فيها الصين جل تراثها الثقافي والحضاري، حيث كان الشباب هائماً في عالم ماو و"أفكاره الخلاقة وقدراته الخارقة".
ومن الأقوال المأثورة لماو تسي تونغ في هذا الصدد: "لكي يستطيع أي تعبير أو شعار أن يلهم ويحرك الجماهير، فلا بد أن يكون مزيجاً بين التحديد الذي لا يسمح بالخطأ، والإبهام الذي لا يقمع الخيال". في ضوء هذه المقولة، يمكن أن يُفسَّر سر القداسة والهالة التي أحيط بها الزعيم الصيني الراحل، واعتبار الشباب آنذاك بأنهم مجرد مخلوقات تدور في فلكه وملكوته.
في وصف تلك الفترة، تقول الكاتبة الصينية يونغ تشانغ، صاحبة رواية "بجعات برية": "مثل كل الصينيين، كنت عاجزة في تلك الأيام عن التفكير العقلاني، كنا مطوعين ومشوهين بالخوف والتلقين، بحيث لا يمكن تصور الخروج عن الطريق الذي رسمه ماو". وتُبرز يونغ في أحد فصول روايتها الممنوعة في الصين، كيف كان الشيوعيون في أثناء الثورة الثقافية يتنافسون في ما بينهم على من يملك أكبر عدد من الحشرات الثورية (القمل) في شعره، إذ كانت النظافة آنذاك مؤشراً على البورجوازية، وهي الفترة التي شهدت أيضاً تجريم الحب أو التعبير عن المشاعر لنفس السبب، وكذلك إجبار الفتيات على قص شعورهن كالرجال تطبيقاً لمبدأ الاشتراكية.
ثمرة الخلود
ولعل أبرز القصص التي تظهر مدى تأثير الحزب وعبادة الشخصية على المجتمع الصيني، تقديس ثمرة المانغو في ستينيات القرن الماضي، واعتبارها إحدى ثمار الخلود الخاصة بالزعماء. وبدأت القصة حين تلقى ماو، هدية من وزير الخارجية الباكستاني في ذلك الوقت، شریف الدین بیرزادہ، عبارة عن سلة من ثمار المانغو.
وبينما كانت البلاد تشهد اضطرابات داخلية، قرر ماو إرسال الهدية إلى لجان الثورة في مدن ومناطق عدة لمكافأة أعضائها على دورهم في تعبئة الجماهير. وحين نشرت الصحف الرسمية الخبر، خرج الناس في تجمعات كبيرة لاستقبال الهدية تعبيراً عن امتنانهم وولائهم للقائد. ولم تمر أيام قليلة، حتى عمّ الخبر أرجاء البلاد، وبدأت ثمار المانغو تطوف المدن والمزارع والمصانع، وسط مراسم استقبال رسمية لها في كل محطة. وسرعان ما تحولت ثمرة المانغو إلى رمز سياسي وعُلّقت صورها آنذاك في المؤسسات والدوائر الحكومية.
نجح الحزب الشيوعي في تعطيل نزعة التفكر والتدبر عند العامة، خاصة بين فئة الشباب
حتى بعد موت ماو عام 1976، ظلّ الشعب الصيني طيعاً، فمع بداية الإصلاح والانفتاح في البلاد في أواخر سبعينيات القرن الماضي، أطلقت الحكومة الصينية قانون تنظيم الأسرة، وهو ما يعرف باسم "سياسة الطفل الواحد" التي استمرت حتى عام 2015. لم تلق هذه السياسة في حينه أي معارضة شعبية، وقد أدى التزام الناس بها على مدار نحو أربعة عقود، إلى حرمان الصين من ولادة 400 مليون طفل، ووُصفت في ما بعد بأنها واحدة من أكثر السياسات إجحافاً بحق الإنسانية.
هذا ويرجع مراقبون أسباب طاعة الشعب الصيني إلى عقود من التدجين الأيديولوجي الذي مارسه الحزب الشيوعي منذ تأسيسه عام 1921، والذي تسبب في إنتاج شعب غير مبال بما يدور من حوله، لا يعلم إلا بالقدر الذي يسمح به الحزب، وفي الموضوعات التي تُحدد له، بصورة أقرب إلى التلقين، وفق المنظور الحزبي.
في استطلاع أجريناه خلال الأسبوع الماضي على شريحة مصغرة (شملت 250 مواطنا بينهم طلاب وموظفون)، ظهر أن 85 في المائة ممن استطلعت آراؤهم لا يعرفون اسم رئيس وزراء بلادهم، أو وزير خارجيتهم، و62 في المائة لم يسمعوا من قبل بمصطلح الثورة الثقافية وأحداث تيان آنمن (عندما تدخل الجيش الصيني لقمع متظاهرين كانوا يطالبون بالديمقراطية والإصلاح في ساحة تيان آنمن في العاصمة بكين في 4 يونيو/حزيران عام 1989، ما أسفر عن مقتل وفقدان الآلاف)، وهو أمر يشير إلى أن السياسة ليست شأناً عاماً في الصين، وأن معظم أفراد الشعب الصيني مكرسون فقط للعمل والإنتاج، هناك من يفكر ويقرر عنهم. وبالتالي نجح الحزب فعلياً في تعطيل نزعة التفكر والتدبر عند العامة، خاصة بين فئة الشباب.
رفاهية المواطن الصيني
يقول تشاو بينغ، وهو طالب يدرس في جامعة الشعب بالعاصمة بكين، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه لا يريد أن يشغل نفسه بالماضي والتاريخ، لأن "الحاضر يثبت نجاح الحزب الشيوعي في تحرير الأمة الصينية وانتشالها من براثن الفقر والاستعمار إلى ريادة العالم في مجالات شتى". ويضيف أن الحزب الشيوعي على خلاف الأحزاب السياسية الأخرى، يعمل من أجل رفاهية المواطن الصيني، لذلك لا تشغله الطريقة التي يدير بها الحزب الدولة، ولا يهمه من يحكم وكم سيبقى في السلطة، ما دام الهدف هو بناء الاقتصاد وتعزيز التنمية ورفع مستوى الكرامة الوطنية.
من جهتها، تقول مي بوه، وهي مبرمجة في شركة لديها منصة للفيديوهات القصيرة، متحدثة لـ"العربي الجديد"، إن "الصينيين لم يشعروا بمسألة حظر مواقع التواصل الاجتماعي الشهيرة مثل فيسبوك، ويوتيوب، وواتساب، في بلدهم، لأن الدولة أوجدت بدائل محلية لا تقل جودة عن التطبيقات الأجنبية"، معتبرةً أن "قرار الحظر كان إيجابياً وبنّاءً لحماية المجتمع الصيني من حملات التغريب، ومحاولات بعض الدول التي تناصب الصين العداء، تأليب الشعب على الحكومة، على غرار ما يحدث في دول أخرى". وعن إجراءات الحجر الصحي الصارمة ومدى انتهاكها للحقوق والحريات العامة، ترى الموظفة الصينية، أنه "لولا تشديد السلطات، لكانت الصين في وضع صحي سيئ للغاية"، مشيرة إلى أنّ "السر في نجاح الصين في التعافي المبكر من الوباء على الرغم من كثافتها السكانية الهائلة مقارنة بباقي الدول، هو إجراءات الحجر الصحي الصارمة، والتزام الناس بتنفيذ التعليمات".
بداية النهاية؟
حول تداعيات التدجين الأيديولوجي وارتداداته المستقبلية، يقول أستاذ الدراسات السياسية في جامعة تايبيه الوطنية، غوان مينغ، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "لولا النهج الذي اتبعه الحزب الشيوعي في تدجين الشعب، لما ظلّ في السلطة طوال هذه المدة"، معتبراً أن "ممارسات الحزب السياسية، سواء ما يتصل بقمع المعارضة أو طمس الحقوق والحريات الخاصة بالأقليات القومية، كفيلة بإسقاط أي نظام مهما علا شأنه وبلغت قوته".
النظام الدولي الجديد يتطور بصورة تتعارض مع طموحات الحزب الشيوعي الصيني
ويشير غوان إلى أن "فئات من الشعب الصيني خلال الثورة الثقافية وصل بها الأمر إلى حد تصديق كل ما يقال حول شخصية ماو تسي تونغ، حتى ظنّ البعض أنه لن يموت مثل باقي البشر"، مضيفاً أن "الأغلبية التي لم تتأثر بالبروباغندا الحزبية، ظلّت صامتة، ما أعطى انطباعاً بأن عموم الشعب الصيني موال للحزب ومؤيد لسياساته".
ويرى الأستاذ الجامعي، أن "وصول الحزب الشيوعي إلى مئويته الأولى، قد يكون بداية النهاية"، مستنداً إلى اعتقاد الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ نفسه، بأن "دورة الحياة تكتمل كل مائة عام، وبعدها تظهر الكوارث والأوبئة والحروب والانقلابات السياسية، فتنتج قيادات جديدة شابة برؤى مختلفة تهدم كل المسلّمات السابقة".
ويضيف المتحدث نفسه أن "النظام الدولي الجديد يتطور بصورة تتعارض مع طموحات الحزب، وكذلك بما يتعلق بتطور التكنولوجيا التي ترصد كل شاردة وواردة، وتكشف خبايا كان من الصعب الاطلاع عليها في حقب سابقة، مثل معسكرات الاعتقال في إقليم شينجيانغ، وقصة لاعبة التنس الصينية بينغ شواي التي أثارت بمنشور على مواقع التواصل الاجتماعي، قضية ابتزاز جنسي يقف وراءها مسؤول كبير عمل سابقاً نائباً لرئيس الوزراء".
ويعتبر غوان مينغ، أن "أدوات التطور هذه لن تخدم الحزب ولن تساعده على المضي قدماً في تغييب الرأي العام وتنويم الشعب الصيني إلى ما لا نهاية"، مشيراً إلى أن "صحوة شعب يبلغ تعداده 1.4 مليار نسمة، قد يكون ثمنها باهظاً ومكلفاً جداً".