استمع إلى الملخص
- **زيادة الإنفاق الدفاعي**: بعد خطاب شولتز، خصصت ألمانيا مائة مليار يورو للجيش ورفعت الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، مع دعم عسكري لدول البلطيق وأوكرانيا.
- **إصلاحات هيكلية واستغلال المواهب الشابة**: تسعى ألمانيا لإعادة هيكلة جيشها وزيادة عديد القوات المسلحة، مع التركيز على المواهب الشابة. تواجه خطط العسكرة انتقادات بسبب بطء التنفيذ، لكنها تحظى بدعم شعبي واسع.
انخرطت ألمانيا بصورة كبيرة في الصراع الروسي الأوكراني وسط قلق من مستقبل العلاقة بروسيا على المستويين الثنائي والأوروبي، وأيضاً وسط التحدي الصيني وعلاقته بروسيا والصراع على المصالح. ألمانيا في حاجة إلى تأكيد دورها الحيوي في القارة الأوروبية، آخذة بالاعتبار غياب اليقين بمستقبل العلاقة مع حليف الضفة الأخرى من الأطلسي، الولايات المتحدة. كما أن برلين بحاجة لتحديث وإصلاح جيشها المتراخي وغير القادر على مواكبة الحروب الهجينة في الفضاء السيبراني والمعلوماتي. وكان خطاب المستشار أولاف شولتز، في 27 فبراير/شباط 2022، بعد ثلاثة أيام على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا "نقطة تحوّل" لإخراج ألمانيا من سياسات التردد التي استمرت بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، والاتجاه نحو عسكرة ألمانيا خصوصاً للظهور كقوة عسكرية ذات شأن في أوروبا أو على مستوى دولي.
بدء عسكرة ألمانيا
منذ ذلك الخطاب بوشرت عسكرة ألمانيا مع تخصيص مائة مليار يورو للجيش، فرفع الألمان النسبة المئوية من الناتج المحلي الإجمالي المخصصة للقضايا الدفاعية إلى 2 في المائة. وفي العام الحالي يُتوقع صرف 50 مليارا إضافية، وفي 2025 يتوقع تخصيص نحو مائة مليار أخرى من أجل عسكرة ألمانيا وفقا لما نشره موقع تسايت أونلاين. وبعد نحو عامين ونصف العام من ذلك التحول ازدادت وتيرة عسكرة ألمانيا بالتزامن مع جرأة برلين في تحدي ماضيها ودعمها دول البلطيق (ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا) وأوكرانيا عسكرياً، لمواجهة ما يطلق عليه "التحدي الروسي". وخطت برلين خطوة أخرى خارج أوروبا، أخيراً، بتوليها دوراً دولياً في مشاركتها في عمليات الدفاع العسكرية عن كوريا الجنوبية في مواجهة كوريا الشمالية، وإن تحت سقف الأمم المتحدة. مع ذلك، لم يغب عن بال الطبقة السياسية الألمانية، من مختلف الاتجاهات، بما في ذلك يسارها ويمين وسطها، تعقيدات علاقة القارة العجوز بحليفها الأميركي. فإذا أحكم الرئيس السابق دونالد ترامب قبضته على البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية المقررة في 5 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، فلن يكون الدفاع الأميركي عن أوروبا أمراً مسلّماً فيه، إذا ما تعرضت لـ"عدوان روسي". إذاً، عودة ترامب تؤخذ في حسبان تسارع عسكرة ألمانيا وغيرها من دول القارة الأوروبية.
عودة ترامب تؤخذ في حسبان تسارع عسكرة ألمانيا
وسبق أن اختبرت ألمانيا مزاجية ترامب في عام 2017 حيال واجبات التحالف مع القارة، ورأيه السلبي في حلف شمال الأطلسي (ناتو). وعبّدت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل الطريق نحو مناقشات جادة لمسألة الاعتماد الألماني على الذات بشأن التحديات الأمنية ـ الدفاعية، وبدا أن شولتز واصل السير في طريق عسكرة ألمانيا أيضاً، وهو سياق مدعوم من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وبعد هذه السنوات من التحولات بات المتحمسون لعسكرة ألمانيا على قناعة بأنه بمعزل عمن سيكون رئيساً في واشنطن فإن التحديين الروسي والصيني يحتّمان الانتباه إلى القدرات الذاتية أكثر. كما أن الشارع الألماني نفسه لم يعد متيقناً من مواقف الحليف الأميركي، وشمل ذلك "الدرع النووية الأميركية" التي أضحت موضع شكوك أيضاً بالنسبة للساسة الألمان وفقاً لما ذكرته صحيفة سود دويتشه تسايتونغ. فقد تراجعت ثقة الشارع الألماني ببديهية انخراط الولايات المتحدة في الدفاع عن بلده منذ عام 2021. وأشارت الاستطلاعات المتعددة خلال الفترة الأخيرة إلى أن 7 في المائة من الألمان فقط رأوا أنه يمكن الاعتماد على واشنطن في حال أعيد انتخاب ترامب مجدداً. وتوقع نحو 59 في المائة تخفيض أميركا في عهد ترامب التزامها تجاه أوكرانيا.
وفي زيارته إلى واشنطن في مايو/أيار الماضي أكد وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس، أن بلاده مستعدة لتأدية دور قيادي في السياسة الأمنية لأوروبا. وشدّد على أنه على برلين توفير القدرات العسكرية اللازمة لهذا الدور، حسبما نقلت عنه وكالة دويتشه فيله الألمانية. وأكد بيستوريوس أن "ألمانيا حليف مخلص ومستعد للقيام بالدور المطلوب عالمياً"، وهو ما حصل في الانتشار العسكري الألماني في شبه الجزيرة الكورية. بالنسبة لبرلين فإن الزمن تغير مع بدء انتهاء مرحلة التردد العسكري الذي ساد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945، وتقسيم ألمانيا إلى دولتين، بين الاتحاد السوفييتي السابق والغرب بزعامة أميركا حتى سقوط جدار برلين، في عام 1989، والوحدة الألمانية في عام 1990.
وتجليات هذا التغير كثيرة، بما فيها انتهاج اقتصاد أقرب إلى اقتصاد الحرب، مهما أثارت من نقاشات حول ما إذا كان مبلغ المائة مليار يورو التي خصصت في عام 2022 من أجل عسكرة ألمانيا كافية، إلى كيفية العودة إلى نظام الخدمة العسكرية الإلزامية، الذي جرى وقف العمل فيه في عام 2011. وتمحور هدف زيادة عديد القوات المسلحة الألمانية على جعلها "مستعدة للحرب"، كما شدد بيستوريوس في نهاية يونيو/حزيران الماضي. فالجيش الألماني أقرّ بحاجته إلى إعادة هيكلة وإصلاح، لا فقط على مستوى العديد الكافي، بل على مستويات التسلح الحديث والإنتاج الحربي والقدرات اللوجستية، التي تراجعت أو تراخت بعد نهاية الحرب الباردة (1947 ـ 1991).
استغلال المواهب الشابة
ومسألة عسكرة ألمانيا ليست متعلقة فقط بتعزيز القوات البرية أو البحرية والجوية، بل بمواجهة التحديات الجديدة المتمثلة في الفضاء السيبراني والمعلوماتي. وفي السياق، أعلنت وزارة الدفاع الألمانية نيتها استغلال المواهب الشابة، بدلاً من الاعتماد على نظام استدعاء الجنود السابقين الاحتياط لزيادة القوات المقدرة بنحو 215 ألفاً، إلى حوالي 460 ألف جندي تحت الخدمة الفعلية. وما كانت عسكرة ألمانيا لتمرّ في العقود التالية للحرب العالمية الثانية من دون ضجيج. وبدا أن تغير الاتجاه والخطاب ليس بمعزل عن التبدلات التي أصابت عموم القارة الأوروبية بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، وتزايد الخوف من روسيا، والتذرع بما يطلقون عليه التحدي الصيني المتزايد، وتزايد الاهتمام الألماني بما يجري في شرق آسيا وتايوان. في هذا الإطار، فإن الواقع المحيط بألمانيا عزز التوجه نحو العسكرة، إذ أنهت السويد قرنين من الحياد، منضمة مع جارتها فنلندا إلى حلف الأطلسي، مما عزز بصورة غير مسبوقة التعاون العسكري ـ الأمني مع الولايات المتحدة. في المسار نفسه أيضاً تواصلت الجهود الغربية لترسيخ عسكرة بحر البلطيق وحشد قوات أطلسية، بما فيها ألمانية، في ليتوانيا خشية من "الخطوة الروسية التالية" بعد أوكرانيا، كما برر الأوروبيون. وبالتالي، أبدت وزارة الدفاع الألمانية رغبتها في تخصيص جزء من موازنات السنوات المقبلة لرسم خطوط واضحة حول دور ألمانيا المحوري في الدفاع القومي والقاري.
انتشرت قوات ألمانية في شبه الجزيرة الكورية أخيراً
وأبدى المخططون العسكريون الألمان اعتقادهم بأن بلادهم بحاجة جادة لإعادة هيكلة وإصلاح جيشها. اكتسبت هذه الفكرة أهمية متزايدة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، معتقدين أن الجيش الألماني، الذي تأسس على أنقاض هزيمة الجيش النازي السابق، في حاجة إلى الكثير من الإصلاحات الهيكلية للتصدي لما سموه "العدوانية الروسية"، و"الاستعداد للحرب" باعتباره أساسا دفاعيا. وأقرّ السياسيون والعسكر أن الجيش في حاجة ماسة لزيادة التسلح وتعويض النقص بسبب دعم أوكرانيا. المشتريات العسكرية الألمانية من الخارج تعرضت لانتقادات بسبب تراجع الإنتاج المحلي. وضغطت بعض الأطراف في يمين الوسط لتوطين الإنتاج العسكري بحلول عام 2030. وشمل النقص في المخازن قاذفات الصواريخ التي لن تعوض قبل عام 2028، وكذلك الأمر في بعض أنظمة الدفاع الجوي وعلى مستوى المدافع ذاتية الدفع.
ومع أن أكبر الأحزاب الحاكمة، الاجتماعي الديمقراطي، في حكومة ائتلافية مع يمين الوسط الليبرالي واليسار، يقف داعماً بقوة لتخصيص نحو 50 مليار يورو إضافية على مبلغ مائة مليار دولار المخصص في عام 2022، فإن مفوضة الدفاع في البوندستاغ (البرلمان) إيفا هوغل انتقدت بطء التسلح. ونقلت الصحف الألمانية عن هوغل قولها في نهاية يونيو/حزيران الماضي أن الجيش الألماني يعاني من نقص، حتى على مستوى أجهزة الرؤية الليلية والأجهزة الراديوية الرقمية. وكشفت أن النقص خطير حتى على مستوى "الذخيرة وقطع الغيار وأجهزة الراديو والدبابات والطائرات".
نقطة تحول
مع العلم أنه في أوائل إبريل/نيسان الماضي بشر بيستوريوس بما سماه "نقطة تحول" الجيش الألماني، من خلال عملية دمج القيادة الإقليمية للدفاع الوطني والقيادة العملياتية في إطار موحد، "القيادة التشغيلية الموحدة"، لمركزة القيادة والسيطرة. وأعلن في مقابلة مع "تسايت أونلاين" في 1 أغسطس/آب الحالي، عن تصاعد موازنة الدفاع السنوية في عام 2028 إلى نحو 80 مليار يورو، مبدياً رغبته في تجاوز نسبة الـ2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. هذه المساعي تهدف في معظمها إلى ما يطلقون عليه استعادة قدرة الجيش الألماني على الحرب. وتتعرض تلك الخطط إلى انتقادات من الديمقراطيين المسيحيين، على لسان مسؤولي السياسات الدفاعية في البرلمان، فلوريان هان ويوهان واديفول اللذان اعتبرا أن الخطط بطيئة ومضيعة للوقت وهي إصلاحات شكلية بنظرهم. ورأى المسيحيون الديمقراطيون أيضاً، بحسب تصريحات مسؤول السياسات الدفاعية رودريش كيسويتر لصحيفة سود دويتشه تسايتونغ، أن ألمانيا تحتاج إلى 300 مليار يورو على الأقل بدلاً من 100 مليار يورو كي يصبح الجيش مستعداً للقتال. من ناحيته رحب ألكسندر مولر من "الديمقراطي الحر" بتأسيس القيادة الموحدة للجيش. وبينما شدد عن اليسار ديتمار بارتش على أهمية رفع مستوى الجيش فقد طالب بجعل الفضاء الإلكتروني فرعاً بحد ذاته من فروع القوات المسلحة.
أكد بيستوريوس أن بلاده مستعدة لتأدية دور قيادي في السياسة الأمنية لأوروبا
وعبّر نحو 68 في المائة من الألمان وفقاً لاستطلاعات أجرتها شركة برايس ووترهاوس كوبرز ونشرتها بوليتيكو وصحف ألمانية في فبراير/شباط الماضي، عن تأييدهم لمواقف الحكومة الألمانية والأحزاب المؤيدة للتحولات العسكرية. وأفاد 63 في المائة بأن خطاب شولتز في 2022 مثّل "نقطة تحول" لم يستفد منها الجيش بعد. وبينما يعتقد 57 في المائة أنه من الضروري زيادة الاستثمار العسكري ورفع نسبة التخصيص إلى 2 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي، فإن 31 في المائة يؤيدون رفع النسبة إلى أكثر من ذلك.
ويحظى الاستعداد الألماني العسكري باهتمام على مستوى أوروبا وحلف الأطلسي باعتبارها دولة مركزية لناحية الدفاع عن القارة والاستجابة على سبيل المثال للمادة الخامسة من ميثاق "الأطلسي" للدفاع جماعياً من 32 دولة عن أي دولة عضو تتعرض لهجوم. في المقابل يقلق الأوروبيون من بطء تحرك قواتها إذا لم تحل هذه المشكلة، بحسب ما رأت الخبيرة العسكرية كلوديا ميغور في تصريحات صحافية في إبريل الماضي. هذا إلى جانب الاعتراف بأن المخزون العسكري الألماني لن يكون كافياً إذا اندلعت حرب مع روسيا، رغم أن الإنفاق الدفاعي ارتفع بنسبة 160 في المائة أكثر مما كانت تنفقه قبل عشر سنوات.
في هذه الأجواء، وفي مركز مساعي الألمان لتحسين جودة وقدرات جيشهم أعلن في 18 يوليو/تموز الماضي أن ألمانيا ستخفض تبرعاتها ومساعداتها العسكرية إلى أوكرانيا بمقدار النصف. جاء ذلك بعد أن بدأ الأوروبيون انتهاج سياسة تمويل مشترك لدعم أوكرانيا، وأيضاً على مستوى دول مجموعة السبع. وبدءاً من عام 2025 فإن الدعم لأوكرانيا لن يتجاوز أربعة مليارات يورو سنوياً مقابل ثمانية حالياً. ولا يعني تخفيض مساعدة أوكرانيا تراجعاً في تعهد برلين باستمرار دعمها لكييف، على الأقل وفق تصريحات وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك لموقع تسايت الإخباري الألماني. وشددت بيربوك على أنه من الأهمية مواصلة دعم أوكرانيا لأجل أمن ألمانيا "وإذا لم نواصل دعم أوكرانيا، ليس فقط في الدفاع عن نفسها، بل أيضاً في إيقاف تقدم القوات الروسية، فإن أمننا سيكون في أكبر خطر ممكن".