يصعب جرد حساب الحراك الشعبي الجزائري في غضون عامين من الانتفاضة السلمية. فمنذ تظاهراته الأولى في 22 فبراير/شباط 2019، أعلن الحراك عن سقف عالٍ من المطالب الديمقراطية والشعارات والانتظارات الشعبية التي تراكمت على مر عقود، على رأسها تحقيق الانتقال الديمقراطي، وتمدين الحكم واستبعاد الجيش من السلطة، وتكريس استقلالية القضاء والصحافة، ومحاربة الفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية. في سلة الحراك مكاسب ومنجزات تحققت، بدءاً من إنقاذ البلاد من كارثة "العهدة الخامسة" للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وضخّ ديناميكية جديدة في المجتمع، وإعادة ربط الجامعة والشارع بالفعل والممارسة السياسية، وبروز جيل من النخب، وفضاءات مدنية جديدة. وهي مكاسب بالغة الأهمية بالنسبة لمجتمع خضع لإقالة قسرية من السياسة لثلاثة عقود بسبب الأزمة الأمنية ومخلفاتها. لكن المطالب المركزية المرتبطة بالتغيير السياسي والديمقراطية ما زالت بعيدة نسبياً، وتحتاج إلى مسار طويل من النضال المستمر لثورة سلمية في منتصف الطريق، على الرغم من أنّ الذكرى الثانية للحراك تأتي في ظل تطورات لافتة في هذا المجال، مع إعلان الرئيس عبد المجيد تبون، أخيراً، حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، وإصداره عفواً عن 60 ناشطاً. وإذا كان تأخر الكثير من المطالب سببه ظروف وعوامل ترتبط بإخفاق الحراك في تحقيق التوافق بين مكوناته، فإنّ لطبيعة السلطة التي تحكم الجزائر منذ استقلال البلاد، دورا مهما في هذا الأمر كذلك.
المطالب المركزية المرتبطة بالتغيير السياسي والديمقراطية ما زالت بعيدة نسبياً
طوى الحراك الشعبي سريعاً ملف العهدة الخامسة لبوتفليقة في غضون أقل من شهرين، لكنه تعثّر في طي صفحة النظام خلال عامين من التظاهرات والفعاليات الاحتجاجية المستمرة. لم يكن بوتفليقة يمثّل النظام، وإنما واجهته السياسية فحسب، بينما كان الجيش جسمه الصلب، ولذلك تعطّلت الثورة في تحقيق أهدافها. منذ يونيو/حزيران 2019، بدأت بوادر الصدام بين الحراك الشعبي والجيش، واختفى من التظاهرات شعار "الجيش والشعب خاوة"، وبرزت في مقابله شعارات حادة ضد "الجنرالات". كان الجيش الذي استلم واجهة الحكم- على الرغم من الحضور الشكلي لرئيس الدولة عبد القادر بن صالح- قد بدأ في هندسة مسار انتخابي داخل نسق دستوري لم يكن ليستوعب مطالب الشارع في تلك الفترة. ولأن موازين القوة وزمام المبادرة كانت ما زالت بيد الشارع، وجد الجيش نفسه مرغماً على سحب خيار تنظيم الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في الرابع من يوليو/تموز من ذلك العام، إلى حين الإمساك بخيط يؤدي إلى تقسيم الشارع واستدراج جزء منه وكتل سياسية، للقبول بالانخراط في مسار جديد يؤدي إلى الانتخابات الرئاسية، لكنه يمرّ عبر حوار وطني تديره هيئة تم تشكيلها وتضم شخصيات سياسية وثلاثة ناشطين من الحراك الشعبي، انسحب هؤلاء الثلاثة قبل بدء عمل الهيئة، التي ترأسها رئيس البرلمان السابق كريم يونس، بسبب عدم الاتفاق على أدوات ومضمون الحوار وغاياته.
حوار بلا محاورين
لم تكن السلطة الفعلية مهتمة كثيراً بشكل الحوار السياسي ومضمونه وأطرافه، ولذلك ظلّت مشاهد هذا الحوار ومخرجاته ضعيفة سياسياً، إذ أخفقت الهيئة في إقناع كبرى الأحزاب السياسية المعارضة؛ المعتدلة منها والراديكالية، بلقائها والمشاركة في الحوار، وقاطعتها كبرى النقابات والتنظيمات المدنية، ما جعل لقاءات الهيئة أشبه بدوران في حلقة مفرغة. لكن تركيز الجيش كان على النهايات، فبالنسبة لقائد الجيش حينها، الراحل أحمد قايد صالح، لم يكن المطلوب من هذا المسار المتعثر من الحوار، أكثر من أن يكون مجرد مخاض يوفّر غطاء "لإنجاب" الهيئة المستقلة للانتخابات في سبتمبر/أيلول 2019، والتي استدعي لرئاستها وزير العدل الأسبق محمد شرفي، لتشرف لاحقاً، وللمرة الأولى، على الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 12 ديسمبر/كانون الأول 2019.
تذهب بعض القراءات السياسية إزاء موقف مكونات الحراك الشعبي، ورفضها لمسار الحوار، وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية، إلى اعتبار أن النخب الفاعلة في الحراك لم تنجح، تحت ضغط الشارع، في صياغة تقدير موقف واضح لتطور الأحداث، ولم تقرأ بشكل سليم موقف الجيش، بوصفه الجسم الصلب للسلطة. وفي السياق، يقول المحلل السياسي، مولود صديق، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "هامش المناورة بالنسبة للحراك الشعبي في ظلّ استمرار التظاهرات، كان أكبر بكثير، إذ كان يمكن استغلال هذا الهامش والقبول بما تقترحه السلطة والجيش والدخول في مسار حوار لتغيير قواعد اللعبة من بدايتها، قبل أن يضطر الحراك لاحقاً أو جزء منه على الأقل، إلى التعامل مع الأمر الواقع". لكن هذا التحليل لا يصمد كثيراً أمام وقائع تثبت أنّ السلطة كانت تريد "حواراً على المقاس"، إذ قدمت لها قوى المعارضة ممثلة في "فعاليات قوى التغيير" (ضمت أحزاباً وشخصيات معارضة)، أرضية سياسية، انبثقت عن مؤتمر عقدته هذه القوى في الرابع من يوليو 2019، حضره 700 شخص وضمّ أحزاباً فاعلة وشخصيات مستقلة ومسؤولين سابقين. وتضمنت الوثيقة التي قدمتها "قوى التغيير"، رؤية توافقية لحل الأزمة السياسية، وبناء انتقال ديمقراطي في الإطار الدستوري، لكن السلطة لم تبد أي تفاعل، واعتبرت الوثيقة "لا حدث".
ثورة بدون هيكل
كان ذلك المؤتمر أبرز تجمع سياسي للجزء الغالب من مكونات الحراك الشعبي، على الرغم من أنّ الحراك ظلّ يرفض خلال عامين كاملين كل محاولات الهيكلة والتنظيم. وهو الموقف الذي تبرره عوامل عديدة، يصفها الباحث في الشؤون السياسية والأستاذ في جامعة الجزائر، أحمد قادة، بـ"الموضوعية". ويقول في حديث مع "العربي الجديد": "من أسباب رفض الحراك اعتماد قيادة له، هو عدم إعطاء السلطة فرصة للمناورة والاختراق والابتزاز والمساومة، لكننا متجهون لا محالة إلى مرحلة التنظيم". ويضيف: "صحيح ظهرت مبادرات هنا وهناك للتنظيم، لكنها لم ترق لمستوى تحقيق إجماع، فالعقل الجمعي للحراك لا يزال يرفض فكرة القيادة، حتى لا تستخدم كوسيلة لتمرير الصراعات الأيديولوجية، وتفتيت كتلة الحراك المتوحدة وراء مطلب إسقاط النظام".
قبل أشهر من تنظيم الانتخابات الرئاسية، كانت السلطة قد بدأت خطة استرجاع الفضاء العام والسيطرة على الشارع بالقوة وبالتدابير المشددة، بعدما كانت مرتبكة في الفترة الأولى للحراك الشعبي، ولم تكن تملك أي حزام سياسي ومدني موالٍ لها، يمكن أن يساعدها في ذلك. فمجمل الأحزاب التابعة للسلطة، ولا سيما "جبهة التحرير الوطني" و"التجمع الوطني الديمقراطي"، أغلقت مقراتها واختفت كوادرها عن الأنظار، فيما انزوت المنظمات الموالية هي الأخرى بعيداً عن ثورة الشارع.
لم تكن السلطة مهتمة كثيراً بشكل الحوار ومضمونه وأطرافه
وفي شهر يوليو 2019، بدأت أزمة "الراية الأمازيغية"، بعد خطاب لقائد الجيش الراحل أحمد قايد صالح، وإعلانه منع رفع هذه الراية في التظاهرات. ونتج عن هذا القرار عشرات المعتقلين من النشطاء، الذين كانت من بينهم رموز مهمة، يتقدمها المناضل الثوري لخضر بورقعة، ذو الثمانين عاماً (توفي في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي). فضلاً عن بدء تنفيذ تدابير إغلاق العاصمة الجزائر كل يوم جمعة، تزامناً مع إعادة سيطرة هيئة الإعلام التابعة للجيش وجهاز الأمن الداخلي على وسائل الإعلام التي بدأت تدير وجهها عن الحراك الشعبي، وتمتنع عن تغطية التظاهرات.
في مقابل هذه السياسيات المتشددة، كان يتعيّن على الجيش والسلطة تقديم ما يقنع الحراك أو جزءا منه على الأقل، بجديتها في تفكيك المكونات السياسية والأذرع المالية والإعلامية للنظام السابق. ومنذ نهاية شهر يونيو 2019، بدأت السلطات في اعتقال عشرات الوزراء وكبار المسؤولين بتهمة الفساد، في وقت لم يكن يخطر ببال جزائري أنّ هؤلاء سيقادون إلى المحاكم والسجون. ومثّل اعتقال القائد السابق لجهاز المخابرات، محمد مدين، وخلفه في الجهاز نفسه، بشير طرطاق، وشقيق الرئيس بوتفليقة، السعيد بوتفليقة، بتهمة التآمر على الجيش، حدثاً فارقاً، لم يساوه في الأهمية حتى اعتقال رؤساء الحكومات السابقين، أحمد أويحيى وعبد المالك سلال، و32 وزيراً في المجموع بتهم فساد، والذين أدينوا بأحكام بالسجن في فترات لاحقة. كما اقتيد عدد من كبار رجال الأعمال والكارتل المالي الموالين لبوتفليقة، وكبار الموظفين، إلى المحاكم بالتهمة نفسها، وتمت إدانتهم بالسجن. ولم يسلم قادة في الجيش والمخابرات والأجهزة الأمنية والدرك والشرطة، كقائد جهاز الأمن العام اللواء عبد الغني هامل، من الاعتقال والمساءلة القضائية.
وعلى الرغم من أنّ ملاحقة المسؤولين ورجال الأعمال الفاسدين، كانت من أبرز مطالب الحراك الشعبي منذ البداية، تحت شعار "كليتو (أكلتم) البلاد يا السراقين"، فإنّ بعض مكونات الحراك رأت أن ما تقوم به السلطة التي يمسك بزمامها الجيش، جزء من "عدالة استعراضية متسرعة وانتقامية". لكن هذه الخطوات أقنعت في المقابل كتلة من الحراك والأحزاب السياسية، التي انحازت إلى خيار المسار الانتخابي الذي طرحته السلطة في سبتمبر 2019، وكذا بعض النقابات المهنية، كالمحامين والقضاة، التي تراجعت عن الاستمرار في المطالب السياسية. وكان واضحاً أن انسحاب جزء من الحراك الشعبي، سيقلص إلى حدّ ما حجم التظاهرات، لكنه لم يضعف ضغط الشارع، ولم يغيّر موازين القوى بالكامل لصالح السلطة، خصوصاً في منطقة القبائل التي بقي فيها الحراك قوياً.
مثل وباء كورونا هدية للسلطة للتخلص من الحراك الشعبي
جغرافيا الحراك
بخلاف ثورات الشارع العربي عام 2011، والتي بدأت في الأطراف، ثمّ انتقلت إلى العواصم، اتخذ الحراك الجزائري جغرافيا مغايرة تماماً، إذ كانت التظاهرات قد بدأت في 22 فبراير 2019 في العاصمة، حيث المركز السياسي، وانتقلت لاحقاً إلى الأطراف والهامش في الداخل والجنوب. وقد لعب ذلك دوراً في استمرار الحراك بأشكاله وتعبيراته السياسية المختلفة طيلة 106 جُمعات متواصلة، وأسهمت جغرافيا الحراك في استمرار الضغط على السلطة واستنزاف قدراتها، وتشتيت جهود السيطرة بالنسبة للقوات الشرطية. كما أسهم زخم الحراك في خلق كتل قوامها الطلبة والشباب، الذين دخلوا مباشرة في تجربة نضالية، وشاركوا بقوة في جمعات الحراك، فضلاً عن تظاهرات يوم الثلاثاء الطلابية التي استمرت لوقت طويل. وهو ما يفسر طول النفس الثوري الذي تميّز به الحراك إلى غاية بروز وباء كورونا في البلاد، نهاية فبراير 2020.
كان وباء كورونا بمثابة هدية من السماء للسلطة، للتخلص من الحراك الشعبي، في حين أنّ مكونات الأخير وتنظيمات مدنية تحلّت بمسؤولية بالغة عندما أعلنت عن التوافق على تعليق التظاهرات بدءاً من منتصف شهر مارس/آذار 2020، حماية للمتظاهرين من جهة، وتوجيه المجهود الشعبي لدعم المجهود الحكومي لمواجهة الأزمة الوبائية. إذ تحوّل الطلبة من التظاهر في الشارع إلى مخابر الجامعات للمساعدة في إنتاج المحاليل المعقمة. وتزامنت بداية الوباء مع أولى أسابيع حكم الرئيس عبد المجيد تبون، الذي أبدى في البداية رغبة في إطلاق حوار سياسي، واستقبل عدداً من الشخصيات السياسية المعارضة، وأوعز، في الثاني من يناير 2020، للقضاء لإطلاق أكثر من 70 ناشطاً، ومدّ يده للحراك الشعبي الذي رفضت مكوناته كل حوار مع السلطة وتمسكت بمطلب التغيير الجذري للنظام. زاد هذا الموقف الراديكالي من تباعد المسافة بين مكونات الحراك والرئيس الجديد، الذي بدأ في الوقت نفسه في وضع خطته للإصلاح السياسي والدستوري موضع تنفيذ. إذ سارع إلى تشكيل لجنة لصياغة نص دستور جديد، طُرح على القوى السياسية والمدنية للتشاور بشأنه، قبل أن يعرض لاستفتاء شعبي في الأول نوفمبر الماضي، ليشهد هذا الاستحقاق مقاطعة شعبية غير مسبوقة، إذ قاطع 77 في المائة من الناخبين الاقتراع.
أظهرت نتائج الاستفتاء بوضوح أنّ الحراك ما زال قوياً ومؤثراً في الشارع، وأنّ التدافع الحاصل منذ فبراير 2019، بين الحراك والسلطة (بغض النظر عمن يمثلها في كل فترة)، لم ينته، لا بنجاح الأخيرة في إجراء الانتخابات الرئاسية، ولا بتعليق التظاهرات بسبب كورونا. إذ كان الأمر أشبه بمباريات كرة المضرب، جولة لصالح السلطة وجولة لصالح الحراك. ويفسر الباحث في علم الاجتماع السياسي، رمزي الجزائري، في حديث مع "العربي الجديد"، هذا الصد الشعبي لدستور الرئيس، وقبله التباعد والقطيعة وعدم تقديم رد إيجابي من قبل الحراك على إعلان تبون استعداده للحوار، إلى "غياب الثقة من جهة، وإلى شخص الرئيس نفسه، وأنه قادم من نفس بيئة النظام الذي يطالب الحراك بتغييره". ويقول الجزائري، إنّ "تمادي السلطة في الاعتقالات وخنق الحريات وغلق الحياة السياسية والنقابية والإعلامية والثقافية بدل فتحها، هو الذي دفع جزءاً من القوى الحراكية والمكونات المجتمعية والسياسية، إلى الإصرار على مسار تغيير مستقل عن السلطة الموجودة". ويضيف أن "الرئيس عبد المجيد تبون والسلطة عموماً، طلبا من الحراك الثقة في النيّات، بينما كان من المفترض العمل على بناء هذه الثقة".