عملية "طوفان الأقصى": لماذا اعتبرت حدثا استراتيجيا في القراءات الإسرائيلية؟

29 أكتوبر 2023
من احتجاجات اليهود الداعمة للحقوق الفلسطينية في أميركا (مايكل نيغرو/Getty)
+ الخط -

لا نبالغ حين نقول إنّ عملية "طوفان الأقصى"، التي كانت عبارة عن هجومٍ مُباغتٍ شنته حركة حماس على منطقة المستوطنات الإسرائيلية المحاذية لقطاع غزّة، والمعروفة باسم "غلاف غزّة" يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأعلنت إسرائيل إثرها الحرب الأكثر شراسةً ووحشيّةً على القطاع، تحت مُسمّى "السيوف الحديدية"، ستُسجّل في وقائع الصراع مع دولة الاحتلال باعتبارها حدثًا استراتيجيًّا متميّزًا له ما بعده. وهذا ما ثبت، بما لا يقبل التأويل، خلال الأيّام القليلة التي مضت منذ وقوع العملية وحتّى موعد كتابة هذه السطور يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وقد سُجلّت على هذا النحو مباشرة فور وقوعها من جانب معظم القراءات الإسرائيلية، التي هي موضع اهتمام وتحليل هذه المقالة بالأساس.

ولعلّ من شأن بعض الاقتباسات من تلك القراءات أن تُجمل ماهية مقاصد ذلك:

"بادرت حركة حماس إلى هجومٍ مفاجئٍ فعّالٍ، فاجأ أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بالكامل، ودمّر كليًا رؤية الدفاع العملياتية في حدود قطاع غزّة... إنّ الرؤية الإسرائيلية في غزّة انهارت على الصعيد السياسي، وفي انتشار القوات للدفاع وجهوزيتها للمفاجأة، ومن المؤكّد عدم وجود ردع وإنذار استخباراتي" (عاموس هرئيل، المحلل العسكري لصحيفة "هآرتس"، 8/10/2023).

توقّع غروسمان أن يُمنى هذا التطبيع الذي يقفز عن لبّ الصراع في منطقة الشرق الأوسط، وهو القضية الفلسطينية، بالفشل الذريع

"هناك ثلاث دوائر في هذا الحدث تبدو منذ الآن في حالة فشل هائل، ويجب فحصها لاحقًا: الأولى، طبعًا، هي الناحية الاستخباراتية. لا يدور الحديث هنا حول خليةٍ من 5 أشخاص، إنّما حول هجوم كوماندو، بمشاركة كتيبتين وبتنسيق عالٍ جدًا، رافقه استعمال قذائف، مع مظلات، ومحاولة دخولٍ من البحر. الحديث هنا يدور حول عمليةٍ حقيقيةٍ، والاستخبارات الإسرائيلية لم تعرف عنها شيئًا. الدائرة الثانية، منظومة الدفاع عن الجدار الفاصل انهارت. وليس انهارت فقط، بل يبدو أنّ أحدًا في الطرف الآخر لم يضّطر إلى الدخول في مواجهة معها أصلًا. وهو ما حدث أيضًا مع معبر إيرز/ بيت حانون ومعابر أُخرى. الدائرة الثالثة هي إدارة الحدث. فبعد ساعاتٍ (أيّامٍ) طويلةٍ على وقوعه، لم ينجحوا (الجيش والأجهزة الأمنيّة) في التغلب على المقاتلين. يمكن تفهُّم ذلك لأنّ الحدث كان في 22 مستوطنةٍ ومعسكر جيش. وعلى الرغم من ذلك، فإن الجيش لم ينجح في إدارة الموضوع المدني، والاستجابة إلى حاجات السكان" (اللواء احتياط غيورا أيلاند، الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية- "أمان"- ومجلس الأمن القومي، موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12، 8/10/2023).

"سيسجّل شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023 بصفته أكثر الفترات حلكةً وصعوبةً وفظاعةً في تاريخ إسرائيل وشعبها. هو أفظع من 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، وأيّ مقارنة بحرب يوم الغفران خاطئة. ففي حرب 1973، قاتل الجيش الإسرائيلي في مواجهة الجيوش المصرية والسورية والعراقية، وفي مواجهة مئات الدبابات وأكثر من مليون جندي من الأعداء، وفي مواجهة أسلحة طيران مجهزة بطائراتٍ حربيةٍ، ومنظوماتٍ صاروخيةٍ فعالةٍ مضادةٍ للطائرات، شوّشت على قدرات سلاح الجو لدينا. في المقابل، في يوم 7/10/2023، تسلّل إلى دولة إسرائيل بضع عشراتٍ من المقاتلين، سيرًا على الأقدام، أو في شاحناتٍ، أو على دراجاتٍ نارية، واجتازوا الأسوار بسهولةٍ، وخصوصًا العائق العسكري الكبير باهظ التكلفة، ونجحوا في احتلال 22 مستوطنة... أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، كشفت المؤسسة الأمنية في إسرائيل - الجيش والاستخبارات العسكرية وجهاز الشاباك- عاريةً، وحطمت النظريات الدفاعية الهوسية. وكما فشل خط بارليف، فشل أيضًا السور الأمني غالي التكلفة، المُقام بين القطاع ومستوطنات الغلاف، والذي خلق إحساسًا مضخمًا بالأمن، لا أساس له من الصحة" (إفرايم غانور، محلل سياسي وأمني، صحيفة "معاريف"، 9/10/2023).

"هجوم 'حماس' المفاجئ هو ضربة قاسية لصورة الردع الإسرائيلي. بغض النظر عن الأثمان المباشرة الباهظة جدًا، المادية والنفسية، هذا الهجوم يؤذي أيضًا ثقة المواطنين بالمؤسسة الأمنية" (مئير بن شبات، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي، موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12، 9/10/2023).

"في يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 استفاقت إسرائيل على وقع انهيارٍ مطلقٍ للمنظومة الأمنية على الصعيدين الاستخباراتي والعملياتي" (البروفيسور غابي سيبوني، متخصّص في قضايا الأمن والسايبر والتكنولوجيا العسكرية، موقع "مركز القدس للاستراتيجيا والأمن"، 8/10/2023).

"صرفنا المليارات لجمع المعلومات الاستخباراتية عن حماس، وفي لحظةٍ انهار كلّ شيء، مثل الدومينو" (يوئيل غوجانسكي، مسؤول سابق في مجلس الأمن القومي، صحيفة "يديعوت أحرونوت"، 12/10/2023).

ولا شكّ في أنّ الحديث عن تداعيات هذه العملية سوف يستمر وقتًا طويلًا، خصوصًا في كلّ ما يرتبط بالضربة القويّة التي وجّهتها إلى صميم الصورة التي بنتها إسرائيل لنفسها في الإقليم والعالم، في ما يتعلق بمعناها كدولةٍ متقدمةٍ في مجال الاستخبارات وتكنولوجياته الأحدث، وفي إنتاج الصناعات الأمنية، بما في ذلك الذخائر الهجومية والدفاعية، والوعود المترتبة على هذا المعنى. وللتمثيل على ذلك يكفي أن نشير، على سبيل المثال، إلى أنه حتّى عملية "طوفان الأقصى" تباهت إسرائيل بأن الجدار الأمني، الذي أقامته في منطقة الحدود مع قطاع غزّة، لا يمكن اختراقه. وأشير في هذا الصدد إلى أنّه جدارٌ مُدجّجٌ بأجهزةٍ تكنولوجيةٍ متطوّرةٍ، ومليءٌ بأسلاكَ شائكةٍ، وكاميراتٍ وأجهزة استشعارٍ، ومُحصّنٌ بقاعدةٍ خرسانيةٍ ضدّ الأنفاق، وبمدافع رشاشةٍ يتحكم بها عن بعدٍ. وبحسب مصدريْن أمنييْن إسرائيلييْن رفيعي المستوى تحدّثا إلى صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، فإنّ منظومة المراقبة استندت بالأساس إلى كاميرات، وأجهزة استشعار عن بُعد، وإلى منظومةٍ تُسمّى "يرى - يُطلق النار" تُفعّل عن بُعدٍ. واعتقد المسؤولون الكبار في الجيش أنّ الدمج ما بين منظومة المراقبة عن بُعدٍ، وبين الجدار الصلب، والحاجز تحت الأرض لمنع الأنفاق، التي تمرّ من تحت الجدار، سيحوّل اختراق الحدود نحو إسرائيل إلى غير ممكنٍ على نحوٍ شبه مطلق، ويقلّل الحاجة إلى عددٍ كبيرٍ من الجنود الموجودين في القواعد العسكرية. وتتواتر تقارير إسرائيلية حول هذا الموضوع، مؤكّدةً وجود مؤشراتٍ إلى أنّ المكانة التي بنتها إسرائيل في الأسواق العالمية، في ما يتعلق بصناعة وتسويق وبيع تكنولوجيا جدران الفصل، بدأت بالتداعي، في إثر هجوم حماس، ومن المتوقع أن يعود الأمر على إسرائيل ليس بخسائر مادية فقط، وإنما أيضًا بخسائر تتعلق بمكانتها المرموقة في هذه الصناعات. وهو ما ينسحب أيضًا على صناعاتٍ أمنيةٍ أخرى. وربّما يكفي أن نشير إلى ما كتب في موقع "إزرائيل ديفنس" الإسرائيلي المتخصّص في الشؤون الأمنية، بأنه من وجهة نظر الصناعات الأمنية، أدّى الهجوم المباغت لـ "حماس" إلى سحب البساط من تحت أقدام الوعود البراقة، التي منحتها هذه الصناعات إلى الرأي العامّ الإسرائيلي، وإلى الكثير من الزبائن في الخارج. وبرأيه يجب التفكير منذ الآن بالزبائن الذين اقتنوا مثل هذه المنتجات، كوسائل دفاعيةٍ عن الحدود، واستشراف ما الذي يعتقدونه في ضوء ما شاهدوه من أعمال قتل في منطقة الحدود مع قطاع غزّة. وبالرغم من أنّه يمكن الافتراض بأنّ الصناعات الأمنية سوف تتبنّى خطة دفاعٍ تتهم الجهة المستخدمة، وتدعي أنّ منظومة الدفاع عن الحدود هي التي مُنيت بالفشل في ساعة ضغطٍ، فإن الزبائن في الخارج، وخبراء الأمن والعسكرة، والمنظمات شبه العسكرية ليسوا سُذّجًا إلى هذا الحدّ.

أيّ مقارنة بحرب يوم الغفران خاطئة. ففي حرب 1973، قاتل الجيش الإسرائيلي في مواجهة الجيوش المصرية والسورية والعراقية

على المستوى السياسي أثبتت عملية "طوفان الأقصى"، أنه لا يمكن الالتفاف على الشعب الفلسطيني وحقوقه، وأن بوسع المقاومة أن تقول كلمتها، بغض النظر عما ستؤول إليه المواجهة العسكرية، التي من المُرجّح أن تكون طويلةً. وفي جلّ القراءات الإسرائيلية؛ التي ظهرت إلى الآن، نلاحظ تشديدًا على توكيد سقوط الاستراتيجيا الإسرائيلية الراهنة حيال القضية الفلسطينية، والتي وقفت في صلبها غاية تكريس الانقسام الفلسطيني السياسي والجغرافي، الذي تقوم إسرائيل بتجييشه لمنع إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ، مثلما لا ينفكّ يعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية، وزعيم اليمين الإسرائيلي الحاكم بنيامين نتنياهو صباحًا مساءً.

وفي خضم الأصوات الإسرائيلية الكثيرة، التي نادت بالثأر، والتجأت إلى القعقعة بالسلاح، بقيت هناك أصواتٌ مهمةٌ وصلت إلى هذا الاستنتاج، أبرزها الكاتب الإسرائيلي ديفيد غروسمان، الذي سخر من تباهي نتنياهو بغياب القضية الفلسطينية عن اتّفاقيات التطبيع التي وقعتها إسرائيل مع بعض الدول العربية وكانت تسعى في الآونة الأخيرة إلى توسيعها كي تشمل المملكة العربيّة السعودية، وبأن هذا الغياب يعني تمكن إسرائيل من بتر العلاقة بين هذه القضية وسيرورة تطبيع علاقات دولة الاحتلال مع الدول العربية. وتوقّع غروسمان أن يُمنى هذا التطبيع الذي يقفز عن لبّ الصراع في منطقة الشرق الأوسط، وهو القضية الفلسطينية، بالفشل الذريع، مؤكّدًا أن أحداث الأيّام الأخيرة المرتبطة بآخر مستجدّات الأوضاع في قطاع غزّة (أداء المقاومة) جاءت كي تثبت مرّة أخرى أنه "لا يمكن مداواة المأساة الشرق أوسطية من دون اقتراح تسوية تخفّف من معاناة الفلسطينيين". أما أستاذ العلاقات الدولية المتخصّص في شؤون الأمن القومي البروفيسور أوري بار يوسف فكان أشدّ وضوحًا وكتب يقول إنه في الوقت الذي يتحدّث نتنياهو عن الثأر، ويتسابق كلّ المحللين الإسرائيليين في استوديوهات قنوات التلفزة في إبداء العربدة والدعوة إلى احتلال قطاع غزّة وإبادة "حماس"، يجدر أن نتذكر أن الصراع مع الفلسطينيين هو صراع طويل ومرير. وهم لن يتنازلوا عن تطلعهم إلى إقامة دولة مستقلة، وبتنا ندرك الآن بشكل أفضل الثمن الباهظ لاستمرار الصراع. ولا شكّ برأيه في أن الحلّ في نهاية المطاف يكمن في إنهاء الاحتلال، وتقسيم البلد على أساس خطوط 1967 إنما من خلال الحفاظ على قوّة الجيش الإسرائيلي وتطويرها تأهبًا ليوم الحساب!

المساهمون