صفقة القرن: التسريبات والمحاذير ومخاطر التنفيذ

23 يوليو 2017
في قمة الرياض بدأ كل شيء تقريباً(بندر الجالود/ الأناضول)
+ الخط -
يرى خبراء في السياسة الأميركية الخارجية، ومخضرمون سابقون في السلك السياسي والدبلوماسي الأميركي، أن "الحل التاريخي" المسمى "صفقة القرن" التي يؤمن بها الرئيس دونالد ترامب تخفي وراءها جهلاً واضحاً بتعقيدات القضية الفلسطينية، وتسطيحاً لصراع تاريخي امتد لقرن من الزمان، منذ وعد بلفور المشؤوم عام 1917 وقيام كيان استيطاني إحلالي صهيوني على أرض فلسطين، كما أنه تبسيط إلى حد السذاجة لمكانة وعلاقة القضية الفلسطينية ببعدها الديني والتاريخي، ليس بالنسبة إلى أهلها المرابطين فحسب، وإنما مع العمق العربي والإسلامي وقلوب مئات الملايين حول العالم. 

لم تكن الخلفية التاريخية المتواضعة والفهم السطحي لترامب هو الدافع الوحيد لرغبته في إنجاز الصفقة التاريخية، إنما هناك متغيرات كبرى ألمّت بالعالم العربي، ومستجدات أدركت المنظومة الدولية شجعت ترامب على الاعتقاد بإمكانية الحل الشامل وإبرام "صفقة القرن" ومن هذه المتغيرات:

1- ضعف النظام العربي العام في ظل حالة التفتت والتجزئة والصراعات والتدخلات الإقليمية والدولية التي تشهدها بعض الأقطار العربية.
2- هرولة أنظمة الثورة المضادة والانقلابات العسكرية والملكيات المتزعزعة نحو شرعيات زائفة في البيت الأبيض أو عبر البوابة الصهيونية، بعد فقدانها شرعيتها الشعبية، وتعاظم خشيتها من نهضة الشعوب وصحوتها الديموقراطية والتي ما زالت في بداياتها.
3- إمعان بعض الملكيات الخليجية في استرضاء الحليف الأميركي وتقديم القرابين في مقابل الوقوف إلى جانبها أمام إيران الصاعدة وسيطرة مليشياتها الطائفية على مساحات واسعة من العراق وسورية.

لذلك رأى ترامب الذي لا يعرف إلا لغة الصفقات التجارية والمقايضة واستثمار الفرص التي لا تتكرر، أن بإمكانه القيام بما عجز عنه الرؤساء الأميركيون السابقون، وتحقيق إنجاز تاريخي، خصوصاً بعد اكتشافه أن خياراته على الساحة الدولية وإمكانية إحداث اختراقات تاريخية محدودة جداً، وأن بإمكانه استثمار حالة الضعف العربي واختلال ميزان القوى وصعود اليمين الصهيوني الحاكم في "إسرائيل"، وتحقيق الإنجاز التاريخي المتعذر تحقيقه في أي بقعة أخرى من العالم.

وبالنظر إلى ميزان القوى وصعود اليمين الصهيوني على الصعيد الشعبي والرسمي في "إسرائيل" ورؤيته للفلسطينيين وتماهي توجهات ترامب مع جزء كبير من فريقه المشارك في صنع القرار مع أفكار معسكر اليمين الصهيوني المتدين في "إسرائيل"، والحالة العربية والفلسطينية الرسمية، فإن "صفقة القرن" الترامبية، بحيثياتها وملابساتها وواقع القضية الفلسطينية في سياقها العربي والدولي الحالي، ما هي إلا تعبير عن مصطلح آخر أكثر دقة وموضوعية، ولكنه خالٍ من الديباجات والإيحاءات اللامعة، وهو "تصفية القضية الفلسطينية" أو إنهاء الصراع لمصلحة المشروع الصهيوني.

مبادئ عامة وآليات عملية
رغم حيز التحليل والتفكير الكبير وكمّ الرؤى والسيناريوهات حول "صفقة القرن"، ليس من جانب المحللين ووسائل الإعلام فحسب، ولكن أيضاً من صناع القرار في المنطقة العربية، إلا أنه حتى اللحظة لم تتبلور خطة واضحة، ولم يتم عرض أي أوراق تشمل بنوداً أو آليات تطبيقية، فلم تتجاوز زيارات الممثل الخاص للرئيس ترامب المكلف بالمفاوضات الدولية جيسون غرينبلات، وصهره جاريد كوشنير، تبادل وجهات النظر واستطلاع النوايا وحدود ما يمكن القبول به، وعلى جميع الأحوال فإن أي خطة مستقبلية أياً كان مضمونها لن تتجاوز السقف "الإسرائيلي" وستأتي منسجمة تماماً مع الرؤية الصهيونية، وهي بالتأكيد رؤية اليمين الصهيوني الذي لا يؤمن إلا بأرض "إسرائيل التوراتية"، والتعامل مع الفلسطينيين مجرد قضية سكان على بعض الأراضي المتنازع عليها، ولكن بالمجمل فإن أي خطة ستنطلق من المبادئ التالية:

1- نهاية ما يسمى "حل الدولتين" واستحالة العودة لخطوط عام 1967 كحدود لأي كيان فلسطيني مستقبلي.
2- عدم شمول القدس بأي حل مع إعادة هندسة ديمغرافية لتحقيق أغلبية يهودية 88% في القدس المحتلة بشطريها الشرقي والغربي.
3- توطين اللاجئين وتعويضهم في أماكن سكناهم مع عودة أعداد محدودة إلى الكيان الفلسطيني في غزة.
4-إقامة كيان فلسطيني أقل من دولة، مع نوع من العلاقة بين الأردن والضفة الغربية، وغزة مع مصر، بترتيبات أمنية تكون للدولتين اليد الطولى.
5-التعامل مع كيانين منفصلين في الضفة الغربية وقطاع غزة، مع إمكانية توسيع قطاع غزة باتجاه شمال سيناء أو البحر أو كليهما في سياق تبادل أراضٍ إقليمي.

أما التفاصيل، فإن الصفقة المزمعة تتعاطى مع حقائق الأمر الواقع، وتحديداً في ما يتعلق بواقع الاستيطان في الضفة الغربية، والكتل السكانية الفلسطينية المقطعة الأوصال على امتداد مساحة الضفة الجغرافية، والانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة وغزة، والهواجس الأمنية الصهيونية في الضفة، مع ما يتطلبه ذلك من السيطرة على غور الأردن وعلى المناطق الاستراتيجية في الضفة مع كيان منزوع السلاح.

أولاً: الضفة الغربية
كما أشرنا سابقاً لم تتبلور الخطة الأميركية حتى الآن، ولكن وفق رؤية اليمين "الإسرائيلي" وما تم طرحه سابقا من خطط في مؤتمرات هرتسيليا أو مخططات لمسؤولين أو أعضاء حاليين أو سابقين "إسرائيليين" وآخرها خطة وزير التعليم الإسرائيلي ورئيس حزب البيت اليهودي نفتالي بينت، فإن بعضاً من تفاصيل الصفقة المستقبلية ستتضمن النقاط التالية:

1- تكريس وجود السلطة الفلسطينية على حوالي 40% من مساحة الضفة الغربية "منطقة أ+ب حسب اتفاق أوسلو" ، ضمن ثلاثة تكتلات سكانية رئيسية شبه منفصلة بالكامل: شمال الضفة (نابلس، جنين، طولكرم، قلقيلية)، والوسط (رام الله، البيرة)، والجنوب (الخليل، بيت لحم)، وضم 60% إلى "إسرائيل" وهي منطقة "C" حسب اتفاق أوسلو وتشمل معظم المستوطنات وغور الأردن ومناطق استراتيجية أخرى.
2- صلاحيات السلطة تتعلق بحفظ الأمن مع صلاحيات أقرب إلى البلدية في الشؤون المدنية.
3- علاقة بين الضفة والأردن عل شكل كونفدرالية مع ترتيبات أمنية تشمل مسؤولية حفظ الحدود من الطرف الأردني.
إجراءات لتحفيز الاقتصاد من ضمنها معبر تجاري مع الأردن ومنطقة تجارية حرة في أريحا ومحطة كهرباء وتوسيع مطار قلنديا بإشراف ومراقبة دوليين.
4- قد يتم الاعتراف بالكيان الجديد دولياً من خلال مجلس الأمن بصيغة دولة فلسطين الكونفدرالية.
5- لا مكان للقدس في الكيان الفلسطيني باستثناء إخراج حوالي 100 ألف فلسطيني مقدسي من حملة الهوية "الإسرائيلية" (مخيم شعفاط، كفر عقب، عناتا) ليخضعوا عمليا إلى إدارة السلطة الفلسطينية.

ثانياً: قطاع غزة
في سياق تفتيت الكيانية الفلسطينية وإجهاض أي توجه مستقبلي نحو استقلال حقيقي، فإن أي صفقة مستقبلية وحسب الرؤية الصهيونية تشمل الدفع بقطاع غزة نحو مصر مع ترتيبات أمنية تضمن عدم تحول قطاع غزة إلى بؤرة مسلحة تهدد أمن "إسرائيل"، وقد تتضمن "صفقة القرن" بعض النقاط التالية:
1- انفتاح قطاع غزة على مصر من ناحية حرية التنقل والسفر، وعلاقات اقتصادية وترتيبات أمنية لإلغاء أي تهديدات أمنية مستقبلية على "إسرائيل".
2- علاقة سياسية بصيغة كونفدرالية أو أي مسمى آخر بين القطاع ومصر.
3- توسيع قطاع غزة جغرافياً نحو البحر غرباً من خلال إقامة جزيرة صناعية تشمل ميناء ومطاراً مع جسر حر للربط مع القطاع بإشراف دولي، أو نحو الجنوب بمساحة 1000 – 1600 كيلومتر مربع في منطقة بعمق 30 كيلومتر شرق رفح والشيخ زويد، لتتضاعف مساحة القطاع بما يضمن حل مشكلة الازدحام السكاني وندرة الموارد.
4- وجود قوات دولية على الحدود مع القطاع و"إسرائيل" كجزء من الضمانات الأمنية.
5- قطع أي خطوط إمداد عسكرية، سواء من ناحية مصر أو من خلال الوجود البحري "الإسرائيلي" على سواحل غزة.
6- إنشاء مطار جوي أو إعادة بناء مطار رفح في حال تعذر إنشاء مطار في الجزيرة الصناعية مع إشراف دولي.
7- تصفية البنية العسكرية لفصائل المقاومة (الأنفاق، الصواريخ، المواقع العسكرية، العتاد العسكري)، إما باتفاق أو من خلال عمل عسكري "إسرائيلي" بتأييد عربي وغطاء دولي كمقدمة وشرط مسبق لإنجاح أي صفقة تشمل غزة.
8 - وجود قوة أمنية ضمن الهيكل الإداري المسؤول عن إدارة غزة لحفظ الأمن، وملاحقه أي جهة سواء كانت أفراداً أو جماعات تشكل تهديداً لـ"إسرائيل".
9 - عودة مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين إلى "كيان غزة" بعد توسيعه.

حقائق على الأرض
تسند أي صفقة مستقبلية للحل أو بمصطلحات أخرى "مشروع تصفية القضية الفلسطينية" إلى الحقائق التي كرسها الاحتلال، خصوصاً في الضفة الغربية والقدس طوال السنوات الماضية، ومع توجهات اليمين الصهيوني المتطرف لحسم موضوع الضفة الفلسطينية ومخططاته التي تحولت إلى واقع ملموس يصعب الفكاك منها في ظل اختلال ميزان القوى الكبير لمصلحة الصهاينة، وأهم هذه الحقائق:

1- أسرلة القدس وتغير طابعها الإسلامي، وتقسيم زماني ومكاني غير رسمي للحرم القدسي الشريف، وعزل حوالي 100-120 ألف فلسطيني مقدسي (شعفاط، كفر عقب، عناتا، الضاحية، الرام) وشملهم بمناطق السلطة، وضم حوالي 150 ألف مستوطن إلى القدس (غوش عتصيون، جفعات زئيف، معاليه أدوميم، إفرات، بيتيار عليت).
2- السيطرة فعلياً على حوالي 60 % من مساحة الضفة الغربية (منطقة C"" حسب اتفاق أوسلو)، والتي يقطن فيها حوالي 400 ألف مستوطن (عام 2017م) في أكثر من 150 مستوطنة، وتقسيم الضفة إلى ثلاث كتل جغرافية مجزأة إلى عشرات الكانتونات المعزولة بالطرق الالتفافية والمناطق العسكرية.
3- تكريس واقع سلطة فلسطينية تحكم بصلاحيات بلدية دون سيادة حقيقية، مع أجهزة أمنية متضخمة ملحقة بالاحتلال، هدفها ملاحقة المقاومة وحفظ أمن المستوطنين والجيش "الإسرائيلي".
4- انفصال جغرافي وسياسي شبه كامل بين الضفة الغربية وقطاع غزة أوجدته "إسرائيل" وساهمت السلطة الفلسطينية والنظام العربي الرسمي في تكريسه وإدامته.
5- خنق القطاع وتعميق الحصار وممارسة ضغوط على أساسيات الحياة بمشاركة "إسرائيل" والسلطة لدفع القطاع نحو مصر وإعفاء "إسرائيل" من مسؤوليتها كدولة احتلال.
6- تفريغ الشيخ زايد ورفح المصرية المتاخمة لحدود قطاع غزة الجنوبية من حوالي 70% من سكانها منذ أغسطس/
آب 2013م بحجة مكافحة "الإرهاب"، وتهجير شريط كامل من سكانه بعمق 1-3 كيلومترات وبطول حوالي 14 كيلومترا على طول الحدود الجنوبية لقطاع غزة، في سياق تكهنات بإعداد المنطقة ديمغرافياً لضمها لكيان أو دولة غزة الكبرى.
7- إعادة تأهيل قيادات جديدة للشعب الفلسطيني (خليفة حفتر فلسطيني) تتساوق مع مشاريع تصفية القضية من خلال الدخول من بوابة غزة بتوافق "إسرائيلي إقليمي" (الإمارات، السعودية، مصر، الأردن) وتصدر المشهد السياسي في القطاع ربما كمرحلة أولى للقفز على المشهد الفلسطيني العام إذا ما نضجت الظروف.
8- حصار المقاومة في غزة، ونعتها "بالإرهاب" في سياق تفكيك مشروع المقاومة بالكامل، ومحاربة كل جهة ممكن أن تسند المقاومة عسكرياً أو سياسياً أو مادياً، أو إعلاميا، كما حصل مع "الجزيرة" القطرية‘ إذ كانت غزة والمقاومة أحد أسباب الهجمة المسعورة على قطر وقناة الجزيرة.

هذه الحقائق ستكون مقدمة، أو تسير إلى الأمام بالتوازي مع الصفقة التاريخية المزعومة، وهي من ناحية الشكل والمضمون تمثل سياسة الأمر الواقع الصهيونية التي تتكرس يوماً بعد يوم، سواء أكانت جزءاً من الصفقة التاريخية أم لا.

لكن الجديد في ذلك هو آلية التسويق والتنفيذ، التي يقترحها نتنياهو واقتنع بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب والتي تتمثل في مؤتمر إقليمي يضم "إسرائيل" ودول الاعتدال العربي (مصر، السعودية، الإمارات، البحرين، الأردن) للانخراط في مشروع التطبيع السياسي والتجاري والأمني كشرط للتقدم على المسار الفلسطيني، بمعنى استثمار التطبيع والعلاقة العلنية مع "إسرائيل" للضغط على الفلسطينيين للقبول بالصفقة المزعومة إذا ما رفضها الفلسطينيون.




المساهمون