ما إن وضعت معركة سيف القدس أوزارها حتى تجدد الحديث القديم عن صفقة تبادل الأسرى بين الاحتلال الصهيوني وحركة حماس، فمنذ عام ٢٠١٤ يحاول الاحتلال استعادة أسراه الأربعة المحتجزين لدى حماس، اثنان منهم جنديان أسرتهما الحركة خلال العدوان الصهيوني على غزة عام ٢٠١٤(شاؤول آرون وهدار غولدن) إلا أن مصيرهما غير واضح إلى الآن، فلا يعرف إن كانا على قيد الحياة أم لا. حيث ترجح سلطات الاحتلال وإعلامه وفاتهما وبالتالي تحتفظ حماس بجثتيهما، وفي المقابل ترفض حماس الإفصاح عن أي معلومة حول وضعهما مجاناً، لكنها بثت تسجيلا صوتيا باللغة العبرية؛ تم عرضه في برنامج ما خفي أعظم على قناة الجزيرة في شهر حزيران/يونيو من هذا العام؛ تزعم أنه لأحد الجنديين. أما الشخصان الآخران فبحسب زعم الاحتلال هما مدنيان، الأول هو أفيرا منغستو من أصول إثيوبية، دخل إلى قطاع غزة بظروف غامضة، تدعي عائلته أنه يعاني من مشاكل نفسية، حيث تتهم العائلة سلطات الاحتلال بعدم الجدية في إعادته لأسباب عنصرية، وهذا ما تطابق مع تصريح حركة حماس في تموز/يوليو ٢٠١٩ القائلة بعدم تلقيها أي طلب صهيوني للإفراج عنه عن طريق الوسطاء طبعا. والثاني هو هشام السيد من عرب النقب ويحمل الجنسية الإسرائيلية وسبق له في عام ٢٠٠٨ أن تطوع لدى جيش الاحتلال وهو ذات العام الذي سرح منه أيضا.
تملك حماس تجربة وحيدة سابقا في مفاوضات تبادل الأسرى، وذلك في العام ٢٠٠٦ حينما نجحت في أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عبر عملية نوعية خلف صفوف العدو، تمسكت الحركة بغنيمتها دون الإفراج عن أي معلومة عنه، حتى عام ٢٠٠٩ حيث تم عقد صفقة مصغرة عن طريق الوسيط الألماني "صفقة شريط شاليط" تم من خلالها تبادل شريط فيديو يظهر به شاليط حياً مقابل الإفراج عن عشرين أسيرة من سجون الاحتلال. كانت الصفقة مهمة للطرفين في حينه، فبالنسبة لحركة حماس يعد تحرير العشرين أسيرة من سجون الاحتلال أول مكسب سياسي وشعبي بعد العدوان الصهيوني على غزة في ٢٠٠٨_٢٠٠٩. وبالنسبة لحكومة الاحتلال أثبت الفيديو بقاء شاليط حياً أثناء الأسر، وهو ما ينعكس على الثمن الذي يجب دفعه لحماس مقابل الإفراج عنه، كما حصل في العام 2011.
تعد صفقة التبادل التي تمت عام ٢٠١١ من أنجح صفقات تبادل الأسرى ليس بين القوى الفلسطينية والاحتلال فحسب بل تعتبر الأنجح عربياً، حيث تم تحرير ١٠٢٧ أسيرا مقابل تسليم جلعاد شاليط. إلا أن هذا النجاح نفسه هو أحد الأسباب الرئيسية التي تؤخر إتمام الصفقة الجديدة، حيث اعتبر العديد من القوى السياسية لدى الاحتلال أن الثمن الذي تم دفعه لإتمام صفقة التبادل كان مبالغاً به ومتجاهلاً لتوصيات لجنة شنغار عام ٢٠١٠ التي بقيت سرية إلى الآن ولم يكشف سوى عن ثلاث نقاط منها، ألا وهي أن يقوم وزير الحرب بإدارة مفاوضات التبادل بدلاً من رئيس الوزراء، وأن لا يتم الإفراج سوى عن أعداد محدودة من الأسرى الفلسطينيين مقابل أي جندي مخطوف، أما في حال كان الجندي قتيلاً، فإن استعادة جثته تكون بإطلاق سراح أسير واحد فقط. صحيح أن لجنة شنغار أعطت توصياتها إلا أنها بقيت بإطار التوصيات غير الملزمة وذلك بسبب رفض رئيس وزراء الاحتلال في حينه بنيامين نتنياهو عرضها على مجلس الوزراء للتصويت عليها.
على ما يبدو، فإن مهمة حركة حماس في المفاوضات الحالية أكثر صعوبة وتعقيداً من المفاوضات السابقة، وذلك لعدة أسباب ولاختلاف الظروف والمناخ المرافق لكلتا العمليتين. فعلى الصعيد الفلسطيني، ألزمت حماس نفسها بالعديد من الوعود التي يعتبر من المحرج التراجع عنها سياسياً وشعبياً، مثل التعهد بتضمين أبطال عملية الجلبوع المعاد أسرهم، إضافة إلى قيادات الصف الأول في المقاومة الفلسطينية وهم أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وفؤاد الشوبكي الملقب بشيخ الأسرى وهو من قيادات حركة فتح الذي تم أسره برفقة أحمد سعدات والخلية التي نفذت اغتيال وزير الاحتلال رحبعام زائيفي، ومن الأسماء المهمة التي وعدت الحركة بإطلاق سراحها مروان البرغوثي من حركة فتح أيضاً الذي تم أسره عام ٢٠٠٢. يمكن لحماس أن تحقق مكسباً استراتيجياً وتكتيكياً في حال استطاعت تحقيق وعودها حول الأسرى المفرج عنهم بصفقة التبادل المحتملة، كونه يظهرها بمظهر الفصيل الوطني المترفع عن الانتماءات الفصائلية، إضافة لقدرتها على تحقيق اختراق لا يستهان به ضمن صفوف منظمة التحرير المتهالكة، كما لا يمكن الاستهانة بالدور المنافس لمحمود عباس الذي قد يلعبه البرغوثي؛ الحليف المحتمل لحركة حماس؛ في حال الإفراج عنه، وذلك لما له من شعبية بين كوادر حركة فتح والشعب الفلسطيني. وعلى ما يبدو أنه ليس بوارد حماس القبول بصفقة تقل أهمية عن الصفقة السابقة وخاصة بعد اكتساب الحركة لمهارات التفاوض على مدى السنوات الخمس السابقة، وخاصة في حال كان الجنديان أو أحدهما على الأقل على قيد الحياة.
إلا أن آمال الحركة قد تصطدم بتغير الظروف السياسية لدى الاحتلال، فوجود بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء السابق ساهم لحد كبير في إتمام صفقة التبادل الأخيرة، بسبب شخصية هذا الرجل الخبير في الأروقة السياسية الصهيونية والغارق في تهم الفساد المالي والسياسي والشخصية المتفردة والحازمة بالقرارات، طبعا ساعده حينها وجود حكومة يمينية متماسكة حائزة على أغلبية ٦٥ مقعداً من أصل ١٢٠ مقعداً في الكنيست. فرغم ما يحاول رئيس وزراء الاحتلال الحالي نفتالي بينت إظهاره من صرامة وحزم، لكنه رئيس حكومة غير متجانسة وغير متماسكة، الأمر الذي يحد من قدرته على اتخاذ قرارات حاسمة كما في حكومة سلفه، بسبب تربص خصومه السياسيين به من داخل ائتلافه قبل معارضيه بقيادة نتنياهو. كما لا ترغب حكومة الاحتلال الحالية في دفع ثمن مشابه للذي دفعته سابقتها، من أجل إتمام صفقة التبادل نظرا لانتقاد الاتفاق السابق من قبل رموز الحكومة الحالية. إن الحديث الدائم من قبل سياسيي وإعلامي الاحتلال عن وفاة الجنديين (ربما كوسيلة ضغط تفاوضية على حماس بهدف دفعها للإعلان عن معلومات متعلقة بحياة وظروف الأسيرين)، يقلل من رغبة الكتلة البشرية الصهيونية بدفع ثمن يزيد أو يشابه ما تم دفعه عام ٢٠١١. وصحيح أن هنالك أربعة أشخاص في يد حركة حماس هذه المرة، إلا أن اثنين منهما لا يشكلان أي أهمية بالنسبة لحكومة الاحتلال وذلك لأسباب عنصرية، كما ذكرت عائلة أفيرا منغستو.
كذلك لا يمكن إهمال دور الوسيط في أي صفقة تتم بين أي طرفين، فعلى الرغم من أن الوسيط السابق هو ذاته الراهن أي مصر، إلا أن مواقف وتوجهات الوسيط المصري قد اختلفت جذرياً بين المفاوضات الأولى والحالية. ففي المفاوضات السابقة لم يستطع الوسيط المصري تحقيق أي تقدم يمكن أن يبنى عليه إلى أن أطاحت ثورة يناير بنظام الرئيس حسني مبارك، ليتسلم ملف التفاوض المجلس العسكري الذي أوكل الملف للواء خالد عرابي الذي لم يمارس ضغطاً على حماس. في حين يحاول الوسيط المصري اليوم بقيادة رئيس جهاز المخابرات العامة اللواء عباس كامل المعروف بعدائه لقوى المقاومة الفلسطينية، تحقيق اختراق سريع بصفقة الأسرى عبر الضغط على حركة حماس بهدف تقديمها تنازلات، وهو ما يؤكد دوره كأداة في خدمة الاحتلال والقوى الإمبريالية الداعمة له.
يبقى هنالك طرف أخير في هذه العملية، ألا وهو السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس، صحيح أنه طرف ثانوي ليس ذا تأثير يذكر، إلا أنه وبحسب مصادر مصرية "أدى عباس دوراً تخريبياً لعرقلة إتمام الصفقة، أو إحداث تقدم بها، بسبب اعتراضه على ضم الحركة لاسم القيادي في حركة فتح مروان البرغوثي ضمن قوائم الأسرى" حيث يخشى عباس أن تزيد الصفقة من قوة حماس سياسياً وشعبياً، كما يخشى الإطاحة به في حال صار البرغوثي خارج القضبان.
استطاعت حركة حماس عام ٢٠١١ وبعد سنوات من التفاوض إتمام أول صفقة لها لتبادل الأسرى على الرغم من غياب الخبرة استنادا إلى راديكاليتها البارعة في إدارة المفاوضات، وهو ما يجب على حركة حماس البناء عليه اليوم رغم قتامة وصعوبة الظروف الحالية، وعليه على الحركة التمسك بشروطها ونقاطها الأساسية كي تستطيع أن تحقق مكسباً جديداً، عبر صفقة لا تخلف بوعود حماس ولا تؤدي إلى تبديد آمال الأسرى والشعب الفلسطيني.