شهدت مدن ألمانية مختلفة احتجاجات شعبية، أمس السبت، على وقع الكشف عن خطط سرية لحزب "البديل لأجل ألمانيا"(AfD) لترحيل جماعي للملايين من أصول مهاجرة.
وبحسب تقديرات الشرطة الألمانية، فإن مدن فرانكفورت وهانوفر وكاسل وكارلسروه وبرلين وهامبورغ وغيرها شهدت نزول مئات آلاف المواطنين المصدومين من خطط الحزب اليميني، ورفعوا شعارات رافضة لذلك، مثل: "الفاشية ليست بديلاً" و"لن يحدث مرة أخرى 1933"، في إشارة إلى أن العصر النازي الذي أوصل أدولف هتلر إلى السلطة لن يتكرر.
شعبية حزب البديل
الاحتجاجات، على خلفية الصدمة من الكشف عن أن كبار ممثلي "البديل" عقدوا اجتماعات سرية مع النازيين الجدد ورجال أعمال أقوياء مالياً وبعض شخصيات سياسية أخرى في فندق بالقرب من "بوتسدام" في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أظهرت أن كثيرين في الشارع الألماني يرفضون التطرف اليميني الذي يمثله هذا الحزب المثير للجدل في تركيزه على "إعادة المهاجرين" وترحيل الملايين، بمن فيهم حاملو الجنسية الألمانية، إلى خارج البلد.
In Leipzig, in eastern Germany, yesterday, thousands joined a rally against the far-right AfD chanting “All together against facism”.pic.twitter.com/2NMr7xQ6vW
— Michael Knigge (@kniggem) January 17, 2024
ويعيد مثل ذلك الخطاب الذي كُشف النقاب عنه، والذي على ما يبدو انتقل إلى مراحل مناقشة الخطط التنفيذية، إلى الأذهان حقبة مظلمة في تاريخ ألمانيا، في ثلاثينيات القرن الماضي، شهدت استهداف جماعات لم تُعتبر جزءاً من "العرق الآري".
ويبدو أن "البديل" اغترّ كثيراً بقدرته على فرض نفسه على الساحة جنباً إلى جنب مع حركة "بيغيدا" والحركة النازية الجديدة التي تعمل سراً، وينشر ما يشبه ثقة زائدة بالنفس للذهاب بعيداً في مواقفه القائمة على معاداة المهاجرين ونشر الإسلاموفوبيا.
وأشارت استطلاعات الرأي في خريف العام الماضي إلى تقدم واضح في شعبية "البديل" ورئيسه تينو شوربالا، حيث تضاعفت نسبة تأييد الحزب القومي المتطرف في الفترة بين 2022 و2023 (أي خلال عام واحد) ووصلت شعبيته إلى نحو 22 في المائة في المتوسط الوطني، متفوقاً بذلك حتى على حزب يسار الوسط "الاجتماعي الديمقراطي" بزعامة المستشار أولاف شولتز.
وتظهر الأرقام تقدم "البديل" في أراضي "جمهورية ألمانيا الديمقراطية" السابقة، أي شرق ألمانيا، حيث ارتفع تأييده إلى 28 في المائة في ولاية ساكسونيا أنهالت ونحو 35 في المائة في كل من تورينغ وساكسونيا. وأطلقت الصحافة الألمانية تسمية "تدحرج الموجة البنية" على تزايد شعبية الحزب في خريف العام الماضي، واعتبر زعيم الحزب شروبالا أن ذلك "وضع طبيعي".
ويعتقد متخصصون أن الأمور تسير في صالح التطرف الشعبوي في ألمانيا، نتيجة الأوضاع الاقتصادية (ولا سيما شرق ألمانيا التي تعاني أكثر من غربها منذ إعادة توحيد الشطرين وانهيار جدار برلين) وارتفاع معدلات التضخم وزيادة تدفق اللاجئين والتشكيك بسياسات التحول الأخضر المناخية والحرب في أوكرانيا، والانتقادات الواسعة لحكومة "إشارة المرور" التي تتكون من ائتلاف الاجتماعي الديمقراطي والخضر والديمقراطي الحر (الليبرالي).
ويلعب التضخم والتباطؤ الاقتصادي أدواراً مهمة في ارتفاع جاذبية الحزب "البديل" في أوساط الفقراء والطبقة العاملة، ويقود الحزب حملة منذ فبراير/شباط 2022 تحت عنوان "عزيزي الألماني أنت لست مضطراً إلى دفع ثمن الحرب في أوكرانيا، وليس عليك أن تدفع ثمن أزمة المناخ المزعومة ولا ثمن وجود اللاجئين".
وبيّنت الأرقام الألمانية التي نشرها عدد من الصحف، أن نصف ناخبي "البديل" يشاطرونه تلك المواقف، بينما النصف الآخر يصوتون له، تعبيراً عن عدم رضاهم عن الطبقة السياسية التقليدية، وبعض هؤلاء ينجرون وراء جيرانهم، وبعض أفراد أسرهم لتأييد اليمين المتطرف، باعتباره بديلاً للأحزاب القائمة.
ومع ذلك، يبدو أن جرعة الثقة بالاستطلاعات وذهاب أقطاب من السياسيين الألمان إلى مواقف متشددة لسحب البساط من تحت "البديل"، دفعه إلى ما يشبه "تطبيع" أيديولوجيته وخطابه المتطرف إلى مستوى مناقشته سراً مع الحركة النازية ورجال أعمال متشددين قومياً.
"عدوّ للدستور"
ويشجع السياسيون ورؤساء بلديات ومؤرخون ألمان الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت نهاية الأسبوع، وهو أيضاً ما ذهبت إليه فرق كرة القدم التي تحظى بشعبية بين نحو 84 مليون نسمة، ويقدّر عدد حاضري المباريات في 18 ملعباً بنحو 650 ألفاً من كييل في الشمال إلى فرايبورغ في الجنوب.
وانضمت النقابات العمالية والأحزاب السياسية إلى تلك المظاهرات الشعبية التي أصيبت بصدمة بسبب مناقشة خطط "تطهير" لترحيل ملايين المواطنين والمقيمين من أصول مهاجرة، بمن فيهم أولئك الذين ولدوا على الأراضي الألمانية.
وجاء الكشف عن تلك المناقشات السرية من خلال الوسيلة الإعلامية الاستقصائية المستقلة "كوريكتيف Correctiv"، حيث اعتبر خبراء في تطور شعبية "البديل" أن "الفضيحة التي هزت ألمانيا تُعَدّ فرصة لإقناع الألمان بوجود مخاطر في برنامج حزب البديل لأجل ألمانيا"، على ما نقلت وسائل إعلام ألمانية.
ويصل الأمر بالبعض إلى طلب حظر حزب البديل، بينما يرى آخرون في الحظر مشكلة للديمقراطية الألمانية. وإذا ما اعتُبر الحزب "عدواً للدستور" (وهي صيغة معتمدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 لمنع تكرار وصول النازية إلى الحكم) فمن الممكن للمحاكم اتخاذ إجراءات قانونية. وسيسبب الحظر التام، برأي معارضيه، نشوء حركة احتجاجية مضادة، وقد يشكلون حزباً يكون متشدداً، وخصوصاً أن "البديل" لديه ممثلون في البرلمان الاتحادي "بوندستاغ" وبعض الولايات، والحظر التام "يعني حرمان المنتخبين تمثيل قاعدتهم الانتخابية".
واعتبر المستشار الألماني، شولتز، ما كُشف عنه بمثابة "هجوم على الديمقراطية الألمانية"، لكن اللافت أن بعض الأعضاء في حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ، الذي ظل في السلطة لأكثر من 50 عاماً من أصل 75 عاماً منذ إحياء ألمانيا كدولة ديمقراطية من أنقاض النظام النازي، حضروا الاجتماع أيضاً، على ما نقلت "كوريكتيف".
وتعهد المحتجون أمس السبت باستمرار احتجاجاتهم تحت شعار "الدفاع عن الديمقراطية"، بحسب ما ذهب عمدة فرانكفورت، مايك جوزيف، أمام نحو 35 ألف محتج، وشهدت مدينة هامبورغ مساء الجمعة الماضي خروج نحو 50 ألف محتج، بتقديرات الشرطة، بينما المنظمون قدروا الأعداد بنحو 80 ألفاً.
وجدير بالذكر أن "البديل" نما ككرة ثلج متدحرجة، إذ تأسس في 2012، وميّز نفسه كحزب احتجاجي شعبوي مناهض بشكل خاص للمهاجرين. وانتقل الحزب من فترة الاحتجاج، التي صبغت مسيرته الأولية، إلى امتلاك قوة سياسية حقيقية اليوم، وتمكن في انتخابات البوندستاغ، عام 2017، من الحصول على 94 مقعداً، وبالتالي أصبح ثالث أكبر حزب في البلاد.
ومنذ 2021 وجهاز الاستخبارات الألماني (مكتب حماية الدستور) ينظر إلى حزب "البديل لأجل ألمانيا" باعتباره "منظمة مشبوهة"، ووضعه تحت المراقبة بسبب التعاطف اليميني المتطرف لبعض أعضائه مع الحركة النازية السرية.
وبرغم ذلك، حقق "البديل" في انتخابات محلية جرت في هيسن وبافاريا خريف العام الفائت نسبة لا بأس فيها بين 18 و15 في المائة على التوالي. ويتجاوز في بعض الاستطلاعات التي أجريت العام الماضي أكبر الأحزاب، وبينها "الاجتماعي الديمقراطي"، وهو ما أشار إليه استطلاع تلفزيون ZDF لقياس شعبية البديل التي تتجاوز 22 في المائة.