استمع إلى الملخص
- اقتحم الجيش قسم الاستقبال في اليوم التالي، مما أدى إلى وفاة عدد من المرضى بسبب نقص الطعام والماء والأدوية. سمح الجيش لاحقاً بدفن الشهداء في ساحة المستشفى.
- في 19 نوفمبر، استخدم الجيش الأطباء كدروع بشرية لتفتيش الطوابق العلوية. عانى الجميع من نقص حاد في الطعام والماء، مما زاد من صعوبة الوضع.
في مساء التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني بدأ حصار مستشفى الشفاء، حينها أمر جيش الاحتلال بإخلاء المواطنين والأطباء كافة، الذين كانوا داخل المستشفى، كما أمرهم بالانتقال إلى الجنوب وإلا سيقصف المستشفى على رؤوسهم. بهذه الكلمات استهل الطبيب خالد أبو سمرة شهادته على أحداث حصار مستشفى الشفاء من قبل قوات الاحتلال الصهيوني، إذ شهد الطبيب خالد في حينها قصصا وشهادات عديدة داخل المستشفى أثناء عمله طبيبا فيها، سنعرض لكم بعضها في هذا التقرير.
رفض خالد وبعض زملائه مغادرة المستشفى بسبب حاجة المرضى لهم، ولصعوبة إجلاء مرضى كثيرين، بعضهم كان في العناية المشددة، ومنهم من بترت أطرافه ولم يعد يستطيع الحركة، كما كان في غرفة العناية المشددة أكثر من ثلاثين طفلا خدجا في حينه. فعلى الرغم من تهديدات جيش الاحتلال لم تهتز عزيمة خالد ورفاقه ولو للحظة، وبقوا إلى جانب المرضى، يحاولون مساعدتهم قدر الإمكان.
يتابع خالد حديثه قائلا: "أمرنا الجيش بالبقاء في طوابق الاستقبال السفلية فقط، وإخلاء الطوابق العلوية، كما فرض حظر تجول داخل المستشفى، بين الغرف والأقسام والأماكن، مهدداً بإطلاق النار على أي شخص يتجول فيه".
استخدم جيش الاحتلال خالد درعاً بشرياً، وطالبوه بالدخول إلى الغرف المغلقة قبلهم، وبأن يخبرهم عما إذا كان هناك أحدٌ بداخلها
في اليوم التالي حدث ما لم يتوقعه أحد، بدأت أصوات المجنزرات والحفارات تسمع داخل المستشفى، حيث كانوا يحفرون في القبو (البدروم) بحثاً عن أي شيء من الأوهام التي أقنعوا العالم بها، مثل الأسلحة والأنفاق وغيرها من الأكاذيب التي صدقوها، في اليوم نفسه، اقتحم الجيش قسم الاستقبال، وأمر الجميع بالاستلقاء على الأرض، وبدأ بتفتيش القسم والتحقيق مع المرضى بعنف، حينها داس جنود الاحتلال بأقدامهم على الجرحى والمصابين، محاولين الضغط عليهم لأخذ أي معلومة منهم، كما شتموا الذات الإلهية، وشتموا المرضى بأقذر الشتائم، محاولين انتزاع اعترافات منهم بشأن أمور لم يفعلوها، يقول خالد عن ذلك اليوم "من صعوبة الوضع مر اليوم كأنه سنة". ثم ازداد الوضع سوءاً، الطعام والماء شحيحان جدا، إن وجدا، نتيجة ذلك توفي/ استشهد عدد من المرضى والمصابين من ذوي الحالات الصعبة بسبب الأجهزة الخارجة عن الخدمة، والكهرباء المقطوعة، والدواء غير المتوفر!
أما الشهداء الذين لم نستطع دفنهم قبل الحصار، والذين منعنا الاحتلال من دفنهم لاحقا، فقد كانوا مجمعين في ساحة المستشفى، كما بدأت الديدان بالخروج من أجسامهم، وانتفخت أجسادهم وفاحت منها روائح كريهة. رغم ذلك لم يسمح جيش الاحتلال بدفنهم داخل المستشفى، بل كان يرد على الطلبات المتكررة لدفنهم بسخرية قائلاً "خليهم عندكم شموا ريحتهم"، وبعد تكرار المطالبات، وبعد عناء وانتظار طويلين سمح جيش الاحتلال الإسرائيلي بدفنهم في ساحة المستشفى الخارجية، شرط أن يدفنهم عدد محدود من الأطباء. عند هذه المرحلة تابع الطبيب خالد حديثه وهو شارد الذهن وكأنه يعيش الحدث الآن!
في السابع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، اقترح الطبيب خالد أن يدفن الشهداء في مقابر جماعية، جزء منها للنساء والأطفال، وجزء للرجال، بغرض استغلال الوقت المسموح به، نظرا لصعوبة دفن كل هؤلاء الشهداء في قبور فردية. ثم يتابع الطبيب خالد وصف عملية دفن الشهداء تلك بصوت مليء بالأسف والغصة، فضلا عن الدموع المنهمرة من العينين قائلاً: "في أثناء الدفن وجد الأطباء المكلفون بالدفن جثثاً عديدة من دون أسماء، أي مجهولة الهوية، وجثث أخرى مجهولة الهوية الجندرية/ الجنسية، لذا اضطررنا، للأسف، للكشف عن عورات الجثث، نظرا لتشوه وجوههم، ورؤوسهم المقطوعة أو المحروقة، نتيجة الانفجارات التي تعرضوا لها، والتي منعتنا من تمييز النساء عن الرجال من دون الكشف عن كامل الجسد!".
يومها دفن الأطباء، ومنهم الطبيب خالد، خمسين جثةً من أصل مئة وأربعين، نتيجة الإنهاك والتعب الذي لحق بالأطباء المكلفين بالدفن، إذ كانوا من دون طعام وماءٍ لأيامٍ عديدةٍ، فالمحظوظ منهم من تناول حبة تمرٍ واحدةٍ طوال اليوم!
بعد عودة الأطباء من الدفن إلى المستشفى، وفي لحظة دخولهم من باب الاستقبال، توجهت والدة أحد الشهداء إليهم، وقبّلت أيديهم وهي تبكي وتردد عبارات الشكر، سألها الأطباء عن سبب شكرها، فأجابتهم: "كثّر الله خيركم، طمأتموني أنكم دفنتم ابني وأكرمتموه".
درع بشري
في التاسع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني، أي بعد الدفن بيومين، تقدم ضابطٌ من ضباط الاحتلال نحو الطبيب خالد وطالبه بالتوقف، رغم ارتداء خالد الزي الطبي، ثمّ سأله إن كان ممرضًا فأجابه: "لا، أنا طبيب"، فسأله: "لماذا لم تذهب إلى الجنوب؟ ألم نأمركم بالتوجه إلى الجنوب؟"، ليجبيه خالد قائلا: "لأن أخي معي مصاب، ولا يستطيع الحركة، ولا أملك كرسيًا متحركاً"، ثم استطرد خالد موضحا لنا: "هذه كانت مجرد حجة، لأنني حتى لو لم يكن أخي موجودا لما غادرت المستشفى تاركاً المرضى وحدهم!"، ثمّ قال الضابط لخالد: "نحتاجك أن تأتي معنا لتساعدنا في تفتيش الطوابق العلوية للمستشفى"، فأجابه: "وظيفتي طبيب، وليس من اختصاصي مساعدتكم في التفتيش"، لكن لم يكترث الضابط لإجابة خالد وأجبره تحت تهديد السلاح بتنفيذ ما طلب، إذ قال له "إذا ما إجيت بالذوق راح تيجي بالعافية"، ثم استخدم جيش الاحتلال خالد درعاً بشرياً، وطالبوه بالدخول إلى الغرف المغلقة قبلهم، وبأن يخبرهم عما إذا كان هناك أحدٌ بداخلها. حينها قال له: "إذا كان هناك أحد، وأنت كذبت بشأنه، سنطلق النار عليك وعلى من معك". وصف خالد تلك اللحظات قائلا: "وقتها شعرت بأن كل خطوة أخطوها تقربني من أجلي، لأني إذا وجدت شخصاً فعلاً لم أكن لأخبرهم عنه، وبعدها كانوا سيكتشفون أمري، ويقتلونا معاً، لكن لم يكن أحد بالفعل داخل المستشفى..".
كانت أماني بجانبها مباشرة، لكن جسدها متفحم إلى درجة لم تستطع أختها التعرف إليها، إذ سلبت الحروق ملامحها، ولم يبقَ من وجهها إلّا أطيافا محروقة
أم أدهم.. ياسمين الشوا
بعد اشتداد حصار مجمع الشفاء تحولت الحياة داخل قسم الطوارئ إلى جحيم، إذ علق الأطباء بين المرضى والنازحين والطواقم الطبية، فالجميع عانوا من نقص حاد في أبسط مقومات الحياة، الطعام والماء. حدثنا الطبيب خالد عن إحدى تجارب تلك الفترة، قائلا:
في أثناء مساعدة مريض مبتور القدمين في تغيير ثيابه دوى صراخ قوي مفاجئ في كل مكان! كان مصدره مدخل قسم الطوارئ، بعدها توجهت نحو مصدر الصوت، لأجدَ ثلاث نساءٍ خاطرن بأنفسهن وفتحن باب قسم الطوارئ، الذي أمر جيش الاحتلال بإغلاقه، واندفعن مسرعاتٍ نحو مقر الإسعاف، الذي كان يحتوي على بعض المعلبات الغذائية والماء، رغم علمهن أن الجيش أمامهن، يراهن ويتابعهن بكل وضوحٍ! يصف خالد مشهد رؤيته لهن قائلا: "كن يرتجفن من الرعب من منظر أسلحة جنود الاحتلال المصوبة نحوهن، وكنّ واقفات ثابتات عاجزات عن اتخاذ أيّ إجراء بفعل الخوف والصدمة، لأن الفعل الذي قاموا به لم يسبقه تفكير في أسوأ النتائج التي ستتبعه نتيجة سلوك جنود الاحتلال غير المنضبط بقانون أو شرع أو حتى أخلاق".
ثم يصف خالد مشاعره في تلك اللحظة قائلاً: "كان الموقف صادما لي، والشعور الذي اجتاحني كان عميقاً ومؤلماً، تخيلت للحظة لو أن إحدى هؤلاء السيدات كانت أمي، كيف كنت سأتصرف؟"، ثم يتابع خالد سرد أحداث تلك الواقعة قائلاً: "بدافع من غريزتي هرعت إليهن، ووضعتهن خلف ظهري، طالباً منهن العودة بسلام، حينها وجهت وجهي نحو الجيش. ثم عندما وصلت إلى بوابة الاستقبال سائرا بظهري للخلف، أمرني الجنود بالعودة إلى الفتيات. عدت إليهن، ليوقفني أحد الجنود على بعد عشرة أمتارٍ، مصوباً سلاحه نحوي، ثمّ بدأ بالصراخ مطالباً إياي بخلع ملابسي، أخبرته بأنني طبيب مجرّد من أي سلاح، ولا يحق له أن يأمرني بذلك، بعد مجادلة عميقة بيننا أجبرني على خلع ملابسي العلوية فقط، ثم بدأ بالاستهزاء بي قائلاً "عامل حالك رامبو!"، وكان مصوباً السلاح على صدري، رغم ذلك لم أصمت وأجبته، لا أدري من أين امتلكت الشجاعة لأقول ذلك للضابط، في وجهه: "شو متوقع منهم يعني؟ ناس محاصرهم ومانع عنهم المي والاكل، توصل فيهم الحال يشربوا المحلول الملحي، على الأقل دخّلهم مي يشربوا. لولا لطف الله حينها لحسبتُ من الشهداء!".
بعد انتهاء الموقف، عاد خالد إلى مرضاه في قسم الطوارئ، ليكتشف لاحقاً أن إحدى تلك السيدات كانت ياسمين الشوا (أم أدهم)، التي كانت تعمل طبيبة في قسم النساء والولادة، وزوجها مسعف، دفعها الجوع الشديد إلى البحث عن الطعام في سيارة الإسعاف التابعة لزوجها..
في اليوم التالي جلب جيش الاحتلال بعض زجاجات الماء القليلة للمحاصرين في المستشفى، مكتوب عليها "من جيش الدفاع الإسرائيلي"، بغرض تصدير صورة للعالم توحي بإنسانية الاحتلال. لم تكن زجاجات الماء مساعدات مقدمة من الاحتلال، بل كانت مخزنة في مخازن المستشفى، سرقها جيش الاحتلال منا ثم وضع عليها اسمه، لكن للأسف صدق العالم كذب الاحتلال!
مجزرة المعمداني
حين سألت كاتبة التقرير الطبيب خالد عن أصعب الأيام التي عاشها حتى الآن؟ قال من دون تردد "يوم المجزرة الكُبرى.. مجزرة المعمداني"، يومها وعلى حين غِرة، تحول السكون إلى عاصفة هوجاء، تهاوت فيها السماء على أهل الأرض، وكأن القيامة قامت هُنا في قلب الشفاء... جثث وجرحى توافدوا من كلّ صوب، بعضهم كان يحمل الحياة بين أنفاسه الأخيرة، وآخرون جردوا من أرواحهم قبل أن يصلوا، تحول المكان لبحر من الدماء واللحم الحي.. وقتها صرخ مدير المستشفى الدكتور محمد أبو سلمية قائلا: "يا جماعة أي حد عنده أي معرفة طبية ولو بسيطة يساعدنا، الوضع كارثي هُنا الوضع كارثي"، كان صدى صوته يتردد في أرجاء المستشفى كصدى غريقٍ يبحث عن قشة أمل للنجاة، إنّها مجزرة المعمداني".
حينها تحول المستشفى إلى جبهة حرب، الأطباء والممرضون يحاربون الزمن والموت في معركة غير متكافئة، جرحى ينزفون، وشهداء ملقون على الأرض، وأقدام مبتورة..
لم يسمح جيش الاحتلال بدفنهم داخل المستشفى، بل كان يرد على الطلبات المتكررة لدفنهم بسخرية قائلاً "خليهم عندكم شموا ريحتهم"
بين رماد الحريق وأطياف الفقد... وبينما تنقل خالد بين الحالات المستلقية على الأرض، توقف عند حالتين متجاورتين ينهش الألم جسديهما، إحداهما لمصابة بجروح عديدة، غطت أكثر من 50%من جسدها، أما الثانية فكانت لفتاة مصابة شابة بجانبها، كانت بوعيها، وكانت ترجوني بعين مليئة بالرعب أن أساعدها في العثور على أختها، سألها خالد "ما اسم أختك"، فأجابت بصوت مرتجف: "أماني الكحلوت"، ثمّ أدار خالد نظره نحو الملف الموضوع بجانب الفتاة التي كانت بجوارها، وقرأ الاسم المكتوب عليه فكان: "أماني الكحلوت". كانت أماني بجانبها مباشرة، لكن جسدها متفحم إلى درجة لم تستطع أختها التعرف إليها، إذ سلبت الحروق ملامحها، ولم يبقَ من وجهها إلّا أطيافا محروقة.
لم يتمالك خالد نفسه، وبدأت الدموع في الانسياب من عينيه، حينما علم باستشهاد أماني، لكنه لم يستطع مواجهة أختها بحقيقة الموقف، ليقول لها محاولاً تهدئتها "نحن هنا معكِ، وسأبحث الآن عن أختك"، إذ لم يكن هناك الكثير مما يمكن قوله، فأختها كانت في حالة نزاع مع الحياة، تكافح للبقاء..
لم يقتصر الاحتلال على قتل المدنيين والعساكر، بل كان يقتل الأطباء أيضاً، منهم عدد من زملاء خالد، مثل الطبيب هاشم البدري رحمه الله، الذي حدثنا عنه خالد قائلاً: "قبل أن يغادر صديقي الطبيب هاشم المستشفى بيومين، عندما كانت آخر مناوبة له كان يمزح معي قائلاً: (خذ سماعتي الطبية، الواحد مش ضامن عمره، يمكن استشهد، تبقى ذكرى معك). وفعلا، استشهد صديقي الطبيب في اليوم التالي رفقة أخيه الدكتور عبد الله البدري، في تلك اللحظة ارتديت سماعته التي كان مكتوباً عليها اسمه، وأكملت عملي وكأننا معاً، ففي هذه اللحظات لا وقت للحزن، كلّ ما عليّ فعله هو إكمال عملي من دون توقف".