سلام وشيك بين أرمينيا وأذربيجان... يريفان تنشد التحرر من موسكو

سلام وشيك بين أرمينيا وأذربيجان... يريفان تنشد التحرر من موسكو

28 أكتوبر 2023
باشينيان وبوتين في موسكو، مايو الماضي (إيليا بيتاليف/فرانس برس)
+ الخط -

للمرة الثانية في أقل من عشرة أيام، يتحدث رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان عن إمكانية توقيع اتفاق سلام بين بلاده وأذربيجان في الأشهر المقبلة. وفي مقابل الإشارات الأرمينية الواضحة إلى الرغبة في السلام مع أذربيجان، تتدهور علاقات يريفان مع موسكو، وسط سجال دبلوماسي وإعلامي بفعل تصريحات باشينيان الأخيرة بشأن خذلان روسيا لبلاده، وحديثه عن عدم حاجة بلاده لوجود قواعد عسكرية روسية على أراضيها.

ولم يكتفِ رئيس الوزراء الأرميني بذلك، بل غاب عن القمتين الأخيرتين اللتين عُقدتا في العام الحالي، لـ"منظمة معاهدة الأمن الجماعي" (تضمّ أرمينيا، بيلاروسيا، كازاخستان، قرغيزستان، روسيا، طاجكستان)، و"دول الرابطة المستقلة" (تضمّ أرمينيا، أذربيجان، بيلاروسيا، كازاخستان، قرغيزستان، مولدوفا، روسيا، طاجكستان، أوزبكستان).

وزاد باشينيان أخيراً من وتيرة لقاءاته مع المسؤولين الأوروبيين، وتصريحاته بشأن العلاقات التاريخية مع محيط أرمينيا من الدول الناطقة بالتركية. وقال باشنيان، يوم الخميس، في كلمة أمام "منتدى طريق الحرير الدولي" في العاصمة الجورجية تبليسي، أول من أمس الخميس، إن بلاده يمكن أن توقع مع أذربيجان على اتفاق السلام وتطبيع العلاقات في غضون أشهر قليلة.

سلام أرمينيا وأذربيجان

وقال: "نعمل الآن على صياغة مسودة اتفاق بشأن السلام وتسوية العلاقات مع أذربيجان، وآمل أن تكتمل هذه العملية في الأشهر القليلة المقبلة". وكان باشينيان قد أبدى في 17 أكتوبر الحالي، في كلمة أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ الفرنسية، استعداده للتوقيع على اتفاق للسلام وتطبيع العلاقات مع أذربيجان.

واعتبر أنه للقيام بذلك، يجب إطلاق سراح جميع السجناء والمعتقلين والأسرى، وفق مبدأ "الكل مقابل الكل"، والتعاون في توضيح مصير المفقودين.

وبرز الحديث عن توقيع اتفاق سلام بعد حرب باكو ويريفان في خريف 2020، التي انتهت بتوقيع وقف لإطلاق النار برعاية روسية في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، بعدما استعادت أذربيجان معظم الأراضي التي احتلتها أرمينيا نتيجة حرب (1988 ـ 1994).

وبدا أن الانتصار السريع لأذربيجان وحلّ "جمهورية أرتساخ" الأرمينية الانفصالية في إقليم ناغورنو كاراباخ، غير المعترف بها، في الشهر الماضي، والظروف الإقليمية الجديدة، فتحت المجال أمام مناقشة القضايا العالقة لطي صفحة هذه الحرب.

وتتمثل هذه القضايا في ثلاث نقاط: التوصل إلى اتفاق سلام، وترسيم الحدود، وفتح الممرات البرية، مما يمهّد لتعاون إقليمي أوسع في جنوب القوقاز بين أرمينيا وتركيا وأذربيجان بدرجة أساسية.


اعتبرت روسيا أن باشينيان تحوّل إلى زيلينسكي آخر

وفي كلمته الأخيرة في تبليسي، لفت باشينيان إلى أن "الجميع يربطون طريق الحرير بالسلام والازدهار"، مشدّداً على أن "منطقتنا في جنوب القوقاز تحتاج إلى السلام، وهي الحالة التي تعيش فيها الدول بروابط اقتصادية وسياسية وثقافية وإنسانية نشطة".

ومع إشارته إلى أن حدود بلاده مفتوحة أمام جارتيها جورجيا وإيران، طرح باشينيان مشروع بلاده "مفترق طرق العالم". وهو مشروع أقرته الحكومة الأرمينية وينطلق من تطوير شبكات الطرق وخطوط الأنابيب ونقل الكهرباء بين أرمينيا وأذربيجان وتركيا وإيران.

وذكر باشينيان أنه "على مدى السنين الثلاثين الماضية، لم تربط السكك الحديدية والطرق الأرمينية بين الشرق والغرب، وبحر قزوين والبحر الأبيض المتوسط، والبحر الأسود والخليج، ولكن هذا يحتاج إلى تصحيح".

واقترح الاعتماد على أربعة مبادئ أساسية تنطلق من وجوب وضع جميع البنية التحتية تحت سيادة وولاية الدول التي تمر عبرها، وأن تشرف كل دولة على مراقبة الحدود والجمارك على أراضيها من خلال أجهزتها الحكومية، وأن تضمن أمن البنية التحتية، بما في ذلك أمن البضائع والمركبات والأشخاص، وأنه يمكن استخدام البنية التحتية والطرق والأنابيب وخطوط الكهرباء لتلبية الاحتياجات الدولية والمحلية.

وفيما يبدو أن يريفان حسمت أمرها بشأن توقيع اتفاق السلام مع أذربيجان بعد سلسلة من التنازلات، من ضمنها اعتراف باشينيان بحدود أذربيجان في عام 1991، أي عدم وجود مطالب بما يتعلق بناغورنو كاراباخ، فالأرجح أن تحولها إلى مفترق طرق العالم بعيد عن الواقع، إذ إنه عدا عدم توفر الاستثمارات اللازمة، فقد عززت أذربيجان في العقدين الأخيرين، بالتعاون مع جورجيا، موقعها كعقدة للمواصلات وخطوط نقل النفط والغاز من جنوب القوقاز وبحر قزوين نحو أوروبا، ومن أهمها إطلاق خط أنابيب النفط باكو - تبليسي - جيهان، وخط السكة الحديد باكو - تبليسي – قارص، وممر الغاز الجنوبي.

اتفاق أذربيجان وإيران

ومع مماطلة يريفان في تنفيذ بنود اتفاق موسكو في نوفمبر 2020 لوقف إطلاق النار، تحديداً فيما يتعلق بفتح الممرات وطرق الاتصالات، نجحت أذربيجان في تجاوز الخلافات التاريخية مع إيران.

ووقع الطرفان في 6 أكتوبر الحالي، بروتوكول نوايا لبناء خط سكة حديد يربط الجزء الرئيسي من أذربيجان بجمهورية ناختشيفان ذات الحكم الذاتي عبر أراضي إيران. وفي اليوم ذاته، وُضع حجر الأساس لجسر سيارات وبنية تحتية للجمارك الحدودية بين أذربيجان وإيران في منطقة قرية أغباند بإقليم زانجيلان، ضمن جزء من مذكرة تفاهم بين البلدين لإنشاء روابط اتصال جديدة بين منطقة شرق زنغزور الاقتصادية في أذربيجان وجمهورية ناختشيفان المتمتعة بالحكم الذاتي عبر أراضي إيران.

وأكد حكمت حاجييف، مساعد الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف للسياسة الخارجية، لمجلة "بوليتيكو" الأوروبية الأربعاء الماضي، أن مشروع إنشاء ممر زنغزور عبر أراضي أرمينيا، فقد جاذبيته بالنسبة لأذربيجان بعد أن سنحت الفرصة لبناء طريق عبر إيران.


باشينيان: حلفاء أرمينيا الأمنيون لم يساعدوا بلاده في الصراع مع أذربيجان

ومع رغبة أرمينيا بتوقيع اتفاق سلام مع أذربيجان، وأملها في التحول إلى عقدة مواصلات بين الشرق والغرب، فإنها تجري مراجعة شاملة لعلاقاتها الإقليمية والدولية، لعل أبرز ملامحها، يكمن في التقارب مع الاتحاد الأوروبي على حساب العلاقات مع روسيا.

ورغم أن العلاقات بين موسكو ويريفان شهدت فتوراً واضحاً بعد رفض موسكو تفعيل الاتفاقات الأمنية الثنائية، ورفض تدخل قوات "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" في حرب 2020 التي أدت إلى هزيمة قاسية للجيش الأرميني، حرص باشينيان، حتى وقت قريب، على المحافظة على علاقات معقولة مع الجانب الروسي.

وفي الشهر الأخير أطلق رئيس الوزراء الأرميني سيلاً من التصريحات التي أغضبت موسكو واضطرتها إلى الردّ بقسوة. وفي 18 أكتوبر الحالي، نقلت وكالتا "نوفوستي" و"تاس" الروسيتان، عن مصدر وصفته بـ"رفيع المستوى"، قوله إن باشينيان يسير على خطى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ويريد تحويل أرمينيا إلى "أوكرانيا رقم 3" (كانت مولدوفا تسمى أوكرانيا رقم 2).

وجاءت هذه الانتقادات الروسية القاسية بعد يوم من تصريحات باشينيان أمام البرلمان الأوروبي، قال فيها إن "حلفاء أرمينيا الأمنيين لم يساعدوا بلاده في الصراع مع أذربيجان فحسب، بل أرادوا أيضاً استغلال ضعف يريفان لتغيير السلطة". وأكد أن الاتحاد الأوروبي وأرمينيا لم يستنفدا الفرصة لتكملة التعاون بمحتوى جديد نوعياً وتوسيعه والارتقاء به إلى مستوى جديد.

وفي استمرار لانتقاد روسيا ذكر باشينيان في مقابلة مع صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية الأربعاء الماضي، أن الأحداث في ناغورنو كاراباخ "أوصلت" يريفان بشكل أساسي إلى قرار بشأن ضرورة "تنويع العلاقات في المجال الأمني"، بعدما "فشلت موسكو بالوفاء بالتزاماتها تجاه حلفائها".

كما شكك في ضرورة وجود قواعد عسكرية روسية في أرمينيا لكنه أشار في الوقت نفسه، إلى أن أرمينيا ستحتفظ بعضويتها في "منظمة معاهدة الأمن الجماعي"، وأن الانسحاب يحتاج إلى مراجعة أعمق.

باشينيان ومحاولة موسكو إزاحته

وفي ما يتعلق بالعلاقات التاريخية بين روسيا وأرمينيا، أشار باشينيان إلى أن هناك تاريخاً أطول بكثير من العلاقات بين أرمينيا وجيرانها الأتراك، مثل تركيا وأذربيجان، معتبراً أن "هنا تكمن كل الأسئلة، وهنا تكمن الإجابات عن جميع الأسئلة. بادئ ذي بدء، يجب علينا أن نعمل على تحسين علاقاتنا الإقليمية".

ورداً على سؤال حول ما إذا كان يخشى أن تحاول موسكو إزاحته، قال باشينيان إن "هذا النهج ينتهك العديد من القواعد، من عدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضنا البعض إلى الأعراف الدبلوماسية".

واستدعت هذه التصريحات رد فعل فورياً من الكرملين، الذي قال على لسان المتحدث باسمه دميتري بيسكوف، إنه من الضروري أن نفهم بالضبط ما الذي كان يتحدث عنه رئيس الوزراء الأرميني.

وأكد أن موسكو تتوقع إجراء محادثة مع يريفان للحصول على كافة المعلومات حول هذا الأمر، مؤكدا أنه "ليس من المناسب" أن يتواصل البلدان عبر الصحف، خصوصاً من خلال "وول ستريت جورنال" الأميركية.

وأضاف بيسكوف أن موسكو تبذل جهوداً لإبرام معاهدة سلام بين باكو ويريفان، وهذا ضروري لاستقرار الوضع في المنطقة وتحقيق "مستوى معيشة خلاق في المنطقة بأكملها".


أرمينيا لا تفكر بالانسحاب حالياً من منظمة معاهدة الأمن الجماعي

وتعليقاً على إمكانية انسحاب أرمينيا من "منظمة معاهدة الأمن الجماعي"، أوضح رئيس اللجنة البرلمانية للعلاقات الخارجية سركيس خاندانيان، أن السلطات الأرمينية لا تفكر في الوقت الحالي في مسألة الانسحاب من المنظمة. وفي الوقت نفسه، ومع احتفاظها بالعضوية في الكتلة العسكرية، تعمل الجمهورية باستمرار على تقليص تعاونها معها.

ومعلوم أن يريفان رفضت في مطلع عام 2023، استضافة مناورات "منظمة معاهدة الأمن الجماعي"، وكذلك المشاركة في أي مناورات على أراضي البلدان الأخرى. كما تخلت السلطات الأرمينية عن دورها في منصب نائب الأمين العام للمنظمة، وانتقدت المنظمة بشدة بسبب ترددها في وصف تصرفات أذربيجان العام الماضي في المناطق الحدودية بأنها عدوانية.

وفي الشهر الأخير فضّل باشينيان حضور قمة "المجموعة السياسية الأوروبية" في غرناطة الإسبانية في 5 أكتوبر الحالي، والتوجه إلى البرلمان الأوروبي بخطاب في 17 أكتوبر.

ورغم قسوة الانتقادات الروسية، بدا أن الكرملين لا يفضل قطع العلاقات مع يريفان التي وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ انفصال أرمينيا عن الاتحاد السوفييتي السابق، ربما من أجل إبقاء الباب مفتوحاً أمام تحسين العلاقات في حال حصول تغيرات داخلية في أرمينيا.

ورغم فائدة موسكو من إغلاق صفحة الحرب في جنوب القوقاز، إلا أنها تأمل في أن تكون الوسيط لاتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان، وأن تواصل أداء أدوارها السابقة كضامن أمني وشريك اقتصادي لدول المنطقة، الواقعة على مفترق طرق بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، في ظل حاجة موسكو للتخفيف من تأثير العقوبات الغربية، عبر التواصل مع شركائها الأساسيين في الصين وإيران وآسيا الوسطى.

في المقابل، فإن تصريحات ومواقف باشينيان تشير إلى توجه بلاده إلى تحسين العلاقات في محيطها الإقليمي، ومع الغرب. ومن الواضح أن أرمينيا ماضية في خيار مراجعة علاقاتها السياسية والاقتصادية والأمنية، ولكن من غير المؤكد أنها ستحصل على الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري الكافي من الاتحاد الأوروبي الراغب في أن تكون له الكلمة الأخيرة، في إغلاق صفحة الحرب في جنوب القوقاز، وأن يعزز وجوده في هذه المنطقة.

مع ذلك يبقى مطروحاً السؤال حول قدرة أرمينيا الضعيفة اقتصادياً وعسكرياً في الاستغناء نهائياً عن روسيا، ومدى ثقة أذربيجان وتركيا بالتوجهات الأرمينية الجديدة التي أملتها الهزائم العسكرية.

المساهمون