أنقذت وساطة سودانية دولة جنوب السودان من الانزلاق نحو هاوية الحرب الأهلية مرة أخرى، وذلك بعد نجاح الخرطوم في دفع الأطراف الجنوبية نحو التوقيع على اتفاق جديد ضمن تنفيذ ترتيبات أمنية لاستدامة السلام الهش في البلاد.
الاتفاق الجديد الذي جاء تحت رعاية نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، هدفه إعادة هيكلة القيادة العليا للجيش الشعبي لتحرير السودان، وهو الجيش الحكومي، تمهيداً لبناء جيش قومي مشترك طبقاً لما تنص عليه اتفاقية سلام وقعتها أطراف الحرب بالخرطوم في سبتمبر/ أيلول 2018.
وطوال السنوات الماضية، ظلت قضية تشكيل قيادة واحدة للجيش من القضايا المعلقة في اتفاق السلام الموقع بين حكومة جنوب السودان والمتمردين السابقين بقيادة رياك مشار.
وخلال الأسابيع الماضية، توترت العلاقة من جديد بين الرجلين، وعلقت الحركة الشعبية المعارضة، الجسم الذي يقوده مشار، كل أعمالها في اللجان المشتركة لتنفيذ اتفاق السلام.
قلق شعبي من عودة الحرب
وبدأ المواطنون في العاصمة جوبا يشعرون بالقلق، وذلك بعد تصريحات لمجموعة مشار كشفت فيها عن انتشار كثيف للجيش الحكومي بالقرب من منزله ومكتبه، بطريقة شبيهة بما حدث في يوليو/ تموز 2016، وهي الإجراءات التي فجرت الحرب مجدداً بعد هدنة استمرت عامين في ذلك الوقت.
وللتنافس بين رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت ونائبه الأول رياك مشار تاريخ طويل، منذ انفصال جنوب السودان عن السودان في عام 2011.
وبعد نحو عامين من الحدث توترت العلاقة بينهما واهتزت الثقة، فأصدر الأول في عام 2013 قراراً بإقالة الثاني، ما أدى إلى اندلاع حرب أهلية خيّبت آمال الداخل والخارج بعد ولادة دولة جنوب السودان.
وانتهت الحرب باتفاق سلام هش في عام 2015 رعته منظمة التنمية الحكومية "إيغاد" (تضمّ جيبوتي، السودان، جنوب السودان، الصومال، كينيا، أوغندا، إثيوبيا، إريتريا).
وبموجب الاتفاق، عاد مشار إلى منصبه نائباً للرئيس، لكن الخلافات تجددت مرة أخرى وبلغت أوجها في يوليو/ تموز 2016 بمهاجمة الجيش الحكومي الذي يقوده سلفاكير مقرّ مشار في محاولة وصفها بـ"محاولة اغتيال".
اندلعت الحرب مرة أخرى واستمرت عامين إضافيين، تدخل بعدها نظام الرئيس السوداني عمر البشير قبل سقوطه، ونجح في دفع سلفاكير ومشار للتوقيع على اتفاق جديد في سبتمبر/ أيلول 2018، قضى أيضاً بعودة مشار إلى منصبه نائباً أول لرئيس الجمهورية وتعيين 4 نواب آخرين للرئيس من مجموعات سياسية ومسلحة أخرى.
أتيت: تأخير تطبيق اتفاق السلام قد يمدد الفترة الانتقالية
وقضى الاتفاق أيضاً بإعادة تقسيم ولايات جنوب السودان، وبناء جيش قومي موحّد نواته من الجيش الحالي ومن المجموعات التي تمردت في السابق، وذلك في سياق إجراء ترتيبات أمنية شاملة، تضمّنها اتفاق السلام الموقع في الخرطوم، على أن ينتهي الاتفاق بإجراء انتخابات عامة في مطلع عام 2023.
غير أن اتفاق السلام نفسه واجه جملة من العقبات، أهمها عدم توفر المال الكافي، والتأخر في فتح معسكرات التدريب للقوات المشتركة التي يفترض أن تشكل الجيش الجديد.
ولم يكن السودان مشجعاً للاتفاق ليأسه من القيادات في جنوب السودان، واستمرار المعارك من أجل السلطة، كما أثرت القرارات الدولية في حظر السلاح عن جنوب السودان عقب الحرب الأهلية أيضاً، على تنفيذ الاتفاق وترتيباته الأمنية خصوصاً.
سياسياً، لم تتوصل الأطراف إلى صياغة دستور دائم للبلاد، وفشلت في إجراء إحصاء سكاني كشرط من شروط تنظيم الانتخابات، ولم تتم حتى الآن إجازة القوانين المرتبطة بالانتخابات، وكلها بنود واردة في اتفاق الخرطوم، ويستوجب حسمها قبل شهر يناير/ كانون الثاني 2023.
ومع شعور عدد من الأطراف بعدم الرضا من تنفيذ اتفاق السلام ككل، والذي لم تصل نسبة تنفيذه سوى إلى 20 في المائة، وفقاً لبعض التقديرات، بدأ التململ في الأشهر الماضية، خصوصاً من جانب مجموعة مشار.
وعمّت المخاوف أكثر في الأسابيع الماضية بعد انسحاب مجموعة مشار من اللجان المشتركة وسط بروز إمكانية تجدد المعارك. وعلى الأثر تدخل السودان بصفته مراقباً وراعياً لاتفاق السلام، وباشرت قياداته جولة اتصالات بقيادة "حميدتي"، بصفته رئيس اللجنة العليا لمراقبة تنفيذ اتفاق سلام جنوب السودان.
وشملت الاتصالات الحكومة والمجموعات الأخرى قبل التوقيع، أول من أمس الأحد، على اتفاق لهيكلة الجيش وتشكيل قيادة عليا مشتركة يشارك فيها المتمردون السابقون.
وقضى الاتفاق، إضافة لتشكيل هيئة القيادة العليا، بعقد اجتماعات بين الرئيس ونائبه الأول وبقية نواب الرئيس لإعادة بناء الثقة بين الأطراف، وتشكيل لجنة مشتركة لتقسيم وظائف مدراء إدارات مساعدي رئيس الأركان، وصرف رواتب للأفراد المنتمين للمتمردين السابقين الموجودين الآن في معسكرات التدريب المشتركة، مع تقديم كل طرف قوائمه لشغل الوظائف القيادية المتفق حولها.
كما ألزم الاتفاق الجديد حركة مشار بعودة ممثليها لمختلف الآليات المتعلقة باتفاقية السلام واستئناف نشاطهم، وحدّد موعداً لا يتجاوز الشهرين لتخريج وتوزيع القوات الموحدة، والبدء في تدريب الدفعات الجديدة، والتأكيد على الالتزام التام بوقف الأعمال العدائية واحترام وقف إطلاق النار الموقع في عام 2018 ومنع الاعتقالات، وعدم تشجيع الانشقاقات بين أطراف الاتفاق، والمساءلة بشأن المخالفات.
وحول هذه التطورات، أكد مستشار رئيس جمهورية جنوب السودان توت قلواك، في تصريحات صحافية، أن توقيع الاتفاق جنّب بلاده العودة مجدداً إلى مربع الحرب، خصوصاً بعد التوترات الأخيرة، وأضاف أن الشعب كان قلقاً إلا أن الأطراف استطاعت أن توحد القيادة العسكرية.
يهدف الاتفاق الأخير إلى إعادة هيكلة جيش جنوب السودان
ومن جهته، أوضح وزير الدفاع السوداني ياسين إبراهيم ياسين أن الأطراف توافقت على مقترح قدمه السودان في أغسطس/ آب الماضي وجرى حوله نقاش مستفيض، مشيراً إلى أن الاتفاق مستمدّ من روح ونص اتفاق السلام، وتضمن خريطة طريق ومدى زمنياً للتنفيذ.
وعدّ المحلل السياسي في جنوب السودان مايكل أتيت الاتفاق الأخير الذي تم التوصل إليه بشأن الترتيبات الأمنية خطوة مهمة وضرورية وأنها أعادت الطمأنينة للمواطنين بعد حالة الهلع التي أصابتهم قبل أيام، خشية من تجدد الحرب الأهلية التي ذاقوا من قبل مرارتها.
وأشار في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إلى أن نجاح الاتفاق الأخير رهن بوجود إرادة سياسية عملية من جانب الحكومة والمجموعات الأخرى. ولفت إلى أن تنفيذ الاتفاق يحتاج إلى توفير المال الضروري لتمويل الهيكلية الجديدة، وتخريج الدفعات الأولى من نواة الجيش المشترك.
وأضاف أتيت أن عقبة توزيع الرُتب على القوات المشتركة ستكون واحدة من عقبات تنفيذ الاتفاق الأمني، لأن العديد من الضباط دخلوا إلى معسكرات التدريب برتب عالية جداً، وقد لا يرضون بخفضها على الأرجح، ما يخلق أزمة، خصوصاً إذا لم يتم توزيعها بعدالة.
وشدّد على أهمية صرف رواتب القوات في معسكرات التدريب، معتبراً أنه من دون الاهتمام بالأفراد فإن العسكر أنفسهم يمكن أن يخلقوا عدداً من الأزمات، كما أثبتت العديد من التجارب السابقة.
وأبدى أتيت خشيته من استمرار التأخير في تنفيذ بنود اتفاق السلام، وهو تأخير، بحسب تقديره، يمكن أن يقود في النهاية إلى تمديد الفترة الانتقالية، وتأجيل الانتخابات إلى عام 2024، بسبب وجود الملايين في معسكرات النزوح واللجوء، ولعدم تهيئة البيئة القانونية والسياسية للانتخابات العامة. وأكد أن تدخل السودان والتوسط في الشأن الداخلي في جنوب السودان نابع من وجود مصلحة حقيقية للخرطوم في استقرار جوبا.
مسائل رئيسية تواجه الاتفاق الأمني
من جهته، أوضح الخبير الأمني أمين إسماعيل مجذوب، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن هناك ثلاث مسائل رئيسية سيصطدم بها الاتفاق الأمني بين أطراف السلام في جنوب السودان، أولاها تشكيل هيئة القيادة العليا للجيش على أساس قبلي، معتبراً أن ذلك سيترك ارتدادات عكسية كبيرة على الدولة وعلى الجيش، ما يتطلب إدارته بحكمة وتروي.
أما المسألة الثانية، فمرتبطة بالعجز المالي عن تمويل القوات المشتركة، فضلاً عن صرف الرواتب عبر كشوفات بأسماء قد لا تكون موجودة على الميدان.
وأضاف أن المسألة الثالثة متعلقة بتوزيع الرُتب، خصوصاً على مستوى اللواء والفريق، مؤكداً أن السودان أكثر خبرة في شؤون جنوب السودان وسيساهم في تبديد تلك المخاوف والهواجس وتحقيق وحدة اندماجية كاملة للقوات في الجيش الشعبي لتحرير السودان.
وأشار مجذوب إلى أن السودان دخل إلى الوساطة بناء على اتفاق 2018، الذي لم يعط الخرطوم حق مراقبة الاتفاق ورعايته فقط، بل منحها فرصة للمساهمة في بناء وتأهيل الجيش في جنوب السودان، والمشاركة المباشرة في حماية آبار النفط في الجنوب، والمشاركة في التنمية وتطوير حقول النفط.
ورأى أن الحكومة الحالية تسعى لمواصلة رعاية العملية السلمية في الجنوب لارتباطها العميق بالسودان، سواء من الناحية الأمنية أو لجهة أهمية العملية في استمرار تدفق النفط الجنوب سوداني عبر الأراضي والموانئ السودانية.
وأكد أن السودان سيستفيد من تجربة إدماج القوات، لتطبيقها عنده، على الرغم من اختلاف طبيعة الحركات المسلحة بين البلدين، لافتاً إلى أن جميع الفصائل في جنوب السودان موافقة على الاندماج في الجيش الشعبي، عكس السودان، حيث لا تزال بعض القوات تصرّ على البقاء بعيداً عن الجيش الوطني.