سقوط ود مدني بيد "الدعم السريع": تراجع إضافي للجيش السوداني

21 ديسمبر 2023
فارون من ود مدني في القضارف الثلاثاء الماضي (فرانس برس)
+ الخط -

تعيد سيطرة قوات الدعم السريع في السودان، على مدينة ود مدني، وسط البلاد، خلط حسابات الحرب تماماً، وتفتح الباب أمام احتمال سقوط البلاد بالكامل تحت قبضة "الدعم السريع".

وأحكمت قوات الدعم، الاثنين الماضي، سيطرتها على المدينة الاستراتيجية، إثر معركة لم تستمر طويلاً مع الجيش بعد تمركز لها دام 3 أيام شرق المدينة، بعربات قتالية ومدافع ومضادات طائرات تحركت من العاصمة الخرطوم، واستولت في طريقها على قرى ومدن مثل رفاعة والهلالية وتمبول وودراوة وبرانكو.

وعبرت "الدعم"، الاثنين الماضي، جسر حنتوب، وسيطرت على مقرات الجيش والشرطة ومقر حكومة ولاية الجزيرة، وانتشرت بعد ذلك في أغلب أحياء وأسواق المدينة. وتهدد قوات الدعم السريع، في الوقت نفسه، باقتحام مدن أخرى داخل ولاية الجزيرة، مثل الحصاحيصا وأبوعشر والكاملين. وأعلن عدد من قادتها الميدانيين نيّتهم التوجه شرقاً للسيطرة على مدن مثل الفاو والقضارف وكسلا وصولاً إلى مدينة بورتسودان.

في المقابل، أكد الجيش السوداني، في بيان أمس الأول الثلاثاء، انسحابه من المدينة، مشيراً إلى أنه يحقق في أسباب انسحاب قواته من ود مدني.

تحولت ود مدني خلال الثمانية أشهر الماضية من الحرب إلى المركز الأول في كل شيء

وتقع مدينة ود مدني، وهي عاصمة ولاية الجزيرة، على بعد 180 كيلومتراً من الخرطوم. وكانت في العهد التركي المصري في القرن قبل الماضي وحتى العام 1924، عاصمة لكل السودان، وتعد ثاني أكبر المدن السودانية من حيث الكثافة السكانية، ومن حيث النشاط الاقتصادي بعد الخرطوم. كما يقع في ولاية الجزيرة، أكبر مشروع زراعي في العالم، هو مشروع الجزيرة الذي وصل عمره لمائة عام.

الحرب تنقل النشاط الاقتصادي إلى ود مدني

وخلال الثمانية أشهر الماضية من الحرب، تحوّلت ود مدني إلى المركز الأول في كل شيء، بعد أن نزح إليها أكثر من 500 ألف من سكان الخرطوم، وانتقل إليها كذلك أغلب النشاط الاقتصادي، وكذلك تحولت إليها الخدمات الصحية المتقدمة، وخدمات النقل إلى مدن سودانية بعيدة. وانتقلت إليها كذلك العديد من المؤسسات والوزارات الخدمية المركزية، ويعتبر سقوطها ضربة موجعة لا سيما للمدنيين.

أخبار
التحديثات الحية

وحسب شهود عيان، فإن عمليات نهب واسعة شهدتها المدينة عقب دخول قوات الدعم السريع، وبعد انسحاب الجيش والشرطة، بينما فر آلاف المواطنين إلى الولايات القريبة. كما امتدت حمى نزوح السكان في مدن أخرى بولاية الجزيرة، وشهدت أسعار السلع ارتفاعاً جنونياً بعد إغلاق الأسواق وانعدمت وسائل النقل لانعدام الوقود. وتشير التوقعات إلى أزمات إنسانية متتالية ستضرب كل مناطق وسط السودان بعد سقوط مدينة ود مدني، إذا لم يتم تدارك الأمر.

وأضافت سيطرة الدعم السريع على مدينة ود مدني وولاية الجزيرة بنسبة كبيرة، مدينة جديدة للمناطق التي سيطرت عليها خلال 8 أشهر من الحرب.

فقوات الدعم السريع سيطرت من قبل على الجزء الأكبر من ولاية الخرطوم، العاصمة السياسية والاقتصادية للبلاد، كما استولت على كل ولايات دارفور، عدا مدينة الفاشر التي تراجعت عن الاستيلاء عليها تحت ضغط دولي وضغط آخر من الحركات المسلحة، بسبب هشاشة الأوضاع بها، ووجود مئات الآلاف من النازحين بمعسكرات في المدينة.

كما سيطرت "الدعم" على مدن مركزية في إقليم كردفان باستثناء مدينة الأبيض، بينما لا يزال الجيش يبسط سيطرته على ولايات شرق السودان، القضارف، كسلا، البحر الأحمر، وكذلك ولايتي نهر النيل والشمالية، شمال البلاد، وكذلك على ولايتي النيل الأزرق والنيل الأبيض، لكن احتمال صمود كل تلك الولايات بات محل شك كبير خصوصاً بعد السقوط السهل لولاية الجزيرة.

"الدعم السريع": لم نسع لتلك الحرب

وادعت قوات الدعم السريع، في بيان، أنها لم تسع لتلك الحرب، وإنما أجبرت على خوضها دفاعاً عن النفس، وعن إرادة الشعب المتطلع إلى الحرية والسلام والحكم المدني الديمقراطي، مشيرة إلى أنها لم ترغب يوماً في مهاجمة ود مدني لولا تهديدات قائد الجيش عبد الفتاح البرهان المعلنة وتأكيداته بحشد 40 ألف مستنفر، وتجهيز الفرقة في ود مدني لتكون مركزاً للقضاء على "الدعم"، وما تبعها من تحركات كبيرة لعناصر "المؤتمر الوطني"، حزب الرئيس المعزول عمر البشير.

وأضاف البيان: إننا إزاء تلك التهديدات، وفي ظل التمنّع المتواصل لقيادات الجيش الموالية للنظام البائد ورفضها المطلق لأي دعوات للسلام عززنا وجودنا في عدد من مناطق ولاية الجزيرة، وكتب الله لنا نصراً عزيزاً بتحرير الفرقة الأولى مشاة ود مدني.

وتحدث عما سماه "حملات الغرف المأجورة روعت المدنيين الأبرياء وحرضتهم على "الدعم"، ما دفع المواطنين إلى النزوح، فيما تم إكراه أعداد كبيرة من المدنيين في مراكز الإيواء بالقرب من معسكرات الاستنفار على البقاء لاستخدامهم دروعاً بشرية من قبل الفلول".

ووجّهت قوات الدعم السريع، الدعوة إلى جميع المواطنين الذين نزحوا بالعودة إلى ديارهم، متعهدة بحمايتهم وضمان استقرارهم والحفاظ على أمنهم وسلامتهم، والحصول على كافة الخدمات الأساسية الضرورية وتأمين وصول المساعدات الإنسانية بتسهيل دخول المنظمات العاملة في الحقل الإنساني.

وأعادت التأكيد على صدور قرار بتشكيل قوة لمحاربة الظواهر السلبية، إضافة للتوجيهات المشددة لجميع القوات بالتعامل مع كل من يهدد حياة الناس بالحسم اللازم والمحاسبة الفورية.

وتعهدت بتأمين فتح الأسواق والمؤسسات العامة وتشغيل المستشفيات والمراكز الصحية ومحطات المياه والكهرباء. ووجهت نداء إلى الشرطة للقيام بواجبها كاملاً تجاه المواطنين. وحثت أهل الجزيرة، لا سيما الشباب والنساء، على الشروع فوراً في تشكيل لجان مدنية لإدارة ولايتهم.

بشير المصطفى: سقوط ود مدني بيد الدعم السريع بمثابة ضربة قاصمة للجيش

وذكرت قوات الدعم السريع أنه ليس لها رغبة في استبدال الجيش السوداني، "ولكن هناك حاجة ملحّة وضرورية إلى إعادة بنائه على أسس جديدة تباعد بينه وبين السياسة، ليكون جيشاً لكل السودانيين لا لحزب أو جهة".

وقال مستشار قوات الدعم السريع، اللواء المتقاعد صلاح عيساوي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن سيطرة "الدعم" على ود مدني تعني خنق الرئة التي كان يتنفس منها فلول النظام البائد، نافياً وجود خيانة داخل الجيش قادت إلى سقوط المدينة، "إنما جاء السقوط كنتيجة حتمية لعدم وجود جيش حقيقي"، مشيراً إلى أن قائد الجيش اتخذ القرار الصحيح الذي يحقن الدماء، بسحب قواته من هناك. وأكد عيساوي الأهمية الاستراتيجية لمدينة ود مدني التي تربط كل السودان، ما يسهّل على "الدعم السريع" السيطرة على بقية البلاد وإعلان حكومة جديدة في أقرب وقت.

سقوط ود مدني بيد "الدعم" ضربة قاصمة للجيش

وقال المحلل السياسي بشير المصطفى، لـ"العربي الجديد"، إن سقوط مدينة ود مدني بيد الدعم السريع بمثابة ضربة قاصمة للجيش، لأن مركز المدينة عسكرياً على غاية كبيرة من الأهمية، فهي خط إمداد للعاصمة الخرطوم وملتقى طرق تربط البلاد شرقاً حتى بورتسودان وغرباً حتى الأبيض والفاشر، وفي فترة ما بعد الحرب ربطت شمال السودان، وبالتالي استطاعت "الدعم" تأمين سيطرتها على الخرطوم، وسهّل عليها الوصول لولايات النيل الأبيض وسنار والقضارف.

وأضاف: إذا استمر الجيش في وضعه الحالي فما هي إلا أيام وتعم سيطرة "الدعم" على أجزاء واسعة من البلاد. ولفت إلى أنه بموازاة تقدّم قوات الدعم السريع تزداد معاناة المدنيين، لا سيما في ولاية الجزيرة التي كانت تحصل على الغذاء من ميناء بورتسودان الرئيسي وتوجد فيها العديد من منظمات الإغاثة، مضيفاً: في ظل قطع الطرق وخروج المنظمات، ستواجه المدنيين أزمات حادة في نقص الغذاء والوقود والدواء.

ورأى أن المخرج الوحيد للمتضررين هو تواضع الطرفين بالعودة للتفاوض من خلال منبر جدة، للاتفاق على وقف شامل لإطلاق النار وسحب المظاهر العسكرية الرئيسية من المدن الكبرى، وترك المستقبل السياسي للبلاد للقوى المدنية التي عليها تقديم تنازلات كبيرة لبعضها من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وضمان وحدة السودان وسيادة أراضيه. وكانت المفاوضات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في جدة السعودية بوساطة من الرياض وواشنطن، قد علقت الشهر الماضي، نتيجة تمسك الجانبين بمواقفهما.

من جهته، قال أستاذ الدراسات الاستراتيجية في الجامعات السودانية، اللواء المتقاعد محمد خليل الصائم، لـ"العربي الجديد"، إن الجيش السوداني، مهما جاءت النتائج في الأيام الماضية، فإنه متماسك ويمتلك زمام المبادرة، مضيفاً: لا يعني سقوط أي منطقة خسارته للحرب القائمة أصلاً على النصر والهزيمة.

واعتبر الصائم أن "محاولات مليشيا الدعم السريع للسيطرة على ود مدني التي لم تنتهِ فيها المعركة بعد، سببه فشل مخططها في الخرطوم، وعجزها عن الاستيلاء على السلطة"، متابعاً: "حتى المدن التي ذهبت إليها المليشيا لم يكن هدفها السيطرة عليها، بل الهدف الأهم لها، نهب المواطنين وسلبهم وإفقارهم وتجويعهم، وسط صمت المجتمع الدولي الذي يتعامل منذ تكوين الأمم المتحدة بازدواجية معايير تجعله صامتاً وغير متحرك تجاه الانتهاكات الجسيمة لقوات الدعم السريع".

ميرغني: سقوط مدني لم يكن هدفاً لقوات الدعم السريع، بل تكتيكاً لها لشغل الجيش عن حماية قواعد جوية في الخرطوم ومروي

أما المحلل العسكري، علي ميرغني، فقال لـ"العربي الجديد"، إن "سقوط مدني بمكانتها الاستراتيجية، لم يكن هدفاً لقوات الدعم السريع، بل تكتيكاً لها لشغل الجيش عن حماية قواعد جوية في الخرطوم ومروي ذات الأثر الكبير، حيث سلاح الطيران الذي لا تمتلكه وتخسر بسببه الكثير".

وأضاف أن "سقوط مدني تحت يدها ربما جاء بالصدفة وفي ظروف غامضة تدعو للتساؤل عن الأسباب، من دون تخوين قادة الجيش في المنطقة، ذلك لأن دخول ود مدني لم تطلق فيه طلقة رصاص واحدة، حسب ما جاء في مقاطع فيديو نشرتها قوات الدعم السريع".

وأوضح أن "سقوط مدينة ود مدني يعني عملياً انفصال ولايات كردفان ودارفور والنيل الأبيض، ويفتح الطريق لإمداد أقرب من طريق إمدادهم الحالي عبر الحدود الغربية، ولا سيما أن هناك دولاً على الحدود الشرقية تحوم حولها شكوك بدعم قوات الدعم السريع".

وحول مدى قدرة "الدعم السريع" على السيطرة على بقية أجزاء السودان، استبعد ذلك، وخصوصاً في غياب المشروع السياسي، وفي ظل عدم ثقة مطلقة من الشعب تجاه "الدعم"، بدليل أنه ما إن تدخل مدينة حتى يفرّ المدنيون منها بالآلاف. واعتبر أن المطلوب من قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، الخروج للشعب وتوضيح الحقائق له وأسباب سقوط عدد من المدن، وألا يترك الناس أمام الشائعات والإحباط.