تسلّم الرئيس التونسي قيس سعيد، اليوم الاثنين، مسودة الدستور الجديد، الذي أعدته "الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة"، خلال الأسبوعين الماضيين، وسط رفض واعتراض حزبي وسياسي ومدني واسع.
واستقبل الرئيس سعيّد، اليوم الإثنين، العميد صادق بلعيد، منسّق الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة، الذي أمدّه بمشروع الدستور الذي تم إعداده في إطار الهيئة.
وأوضح بيان للرئاسة أن سعيد أكّد على أن "مشروع الدستور ليس نهائيا، وعلى أن بعض فصوله قابلة للمراجعة ومزيد التفكير".
وبحسب البيان، فقد كان "هذا اللقاء فرصة للتداول بشأن جملة من المفاهيم والأفكار الجديدة، فضلا عن التطرق إلى مجريات الحوار في الفترة الماضية وما شهده من تبادل لوجهات نظر متعدّدة".
وسينشر مشروع الدستور الجديد المعروض على الاستفتاء، بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية، في أجل أقصاه 30 يونيو/حزيران، وذلك إعدادا للاستفتاء المزمع عقده في 25 يوليو/تموز المقبل.
وشرعت الهيئة الاستشارية الاقتصادية والاجتماعية، في الحوار الوطني والاجتماعات في 4 يونيو/حزيران الماضي، حتى 18 يونيو/حزيران، آخر اجتماعاتها. مشيرة، بحسب تصريحات مسيّريها، إلى أنها عقدت 4 جلسات حوارية. فيما يجهل التونسيون أي تفاصيل عن اللجنة القانونية الاستشارية المكلفة بصياغة الدستور وكواليس اجتماعاتها.
ولا يعلم أحد بعدُ ملامح هذا الدستور ولا حتى محتواه، في انتظار نشره لعموم التونسيين، سواء من الرئيس التونسي أو من منسق اللجنة الاستشارية الصادق بلعيد.
وصُدم خبراء القانون الدستوري ببعض ملامح الدستور الجديد التي كشفها تناقض التصريحات وتضاربها بين العميد بلعيد وأستاذ القانون أمين محفوظ ورئيس اللجنة الاقتصادية العميد إبراهيم بودربالة.
وقد صرّح رئيس الهيئة الاستشارية الصادق بلعيد، عقب الاجتماع الأخير للجنتين، السبت، بأنّ "مسودة الدستور ستتضمّن مبادئ عامّة ومواد من الدساتير الماضية، على غرار بعض المواد التي تخصّ مجال الحريات، الواردة في دستور 2014، فضلا عن بعض مكاسب دستور 1959".
واعتبر بلعيد أنّ "ما يميّز هذا الدستور عن الدساتير السابقة هو اهتمامه بالجانب الاقتصادي، باعتبار أنّ المرحلة الراهنة تقتضي إرساء نظام سياسي يدفع باقتصاد البلاد إلى الأمام"، مبيّنا أنّ الباب الأول من الدستور سيكون خاصا بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية وسبل النهوض بالاقتصاد التونسي.
ووفقا لبلعيد، فإن النظام السياسي الجديد لتونس لن يكون نظاما رئاسيا ولا حتى برلمانيا، بل سيكون ''نظاما تونسيا صميما، والباب الأول من الدستور الجديد بعد التوطئة يتعلق بأسس النهوض بالاقتصاد".
وبحسب تصريح سابق لبلعيد للتلفزيون الرسمي، فإن "الدستور الجديد سيعمل على تغيير طبيعة الحكومة، والتي ستتحول بمقتضاه إلى هيئة حُكمية ستفقد سلطتها التنفيذية، وستكون بالتالي ذات سلطة مبادرة ومراقبة فقط وستكلف بالنظام الاقتصادي".
وقال بلعيد إن "رئيس الجمهورية صاحب السلطة التنفيذية يعد أعلى من الهياكل الحزبية، ويقوم بتعيين رئيس الهيئة الحكومية بعد الانتخابات، وبإمكان رئيس الجمهورية تعيين شخص آخر إذا لم ينجح رئيس الهيئة الأول في منصبه، لكن إذا فشل رئيس الجمهورية في تعيين شخص ثان يتخلى رئيس الجمهورية عن الحكم فورا".
وأما البرلمان، فإن دوره سيقتصر على الجانب التشريعي، وفق تأكيدات بلعيد، الذي أبدى تحفظات إزاء مبدأ الفصل بين السلطات، معتبرا أن هذا المبدأ "غير مواكب للعصر"، وهو ما يحيل إلى إمكانية تدخّل السلطة التنفيذية الممثلة في رئيس الجمهورية في عمل السلطة التشريعية وهي البرلمان.
ولم يستبعد بلعيد، في تصريحاته، إمكانية "الاستغناء عن الهيئات الدستورية التي أنشئت في إطار محاصصة حزبية وتقسيم السلطة"، مرحّبا بإمكانية إنشاء هيئات جديدة، بحسب قوله.
وفوجئ الخبراء والمتابعون بتسريب جزء نص من الدستور الجديد، وسرعان ما عبر رئيس اللجنة الاقتصادية بودربالة عن أسفه لذلك، مؤكدا أنه "مجرد عمل أولي لا غير، وهي حصيلة ما قام العميد الصادق بلعيد بتجميعه من مقترحات من قبل الشخصيات الوطنية التي قدّمت مقترحاتها".
وفي تصريح له اليوم الإثنين، أكد بودربالة أن "النظام السياسي القديم ودستور 2014 وثغراته والحياة السياسية ما قبل 25 يوليو، هي التي دفعت الهيئة الاستشارية للتفكير في نمط سياسي يتماشى مع الوضعية التي تمر بها تونس".
وأكد بودربالة لإذاعة "إكسبرس" الخاصة، أن "اللجنة ارتأت الرجوع إلى النظام الرئاسي الذي يتولى فيه الرئيس تعيين حكومة تكون مسؤولة أمامه وهو رئيس السلطة التنفيذية"، وأضاف أن "العمل التشريعي ستقتصر صلاحياته على مراقبة عمل الحكومة وتوجيه أسئلة ولوائح لوم لها".
وأفاد بأن "بلعيد سيقدم اليوم النسخة الجاهزة من مشروع الدستور الجديد للرئيس قيس سعيد، والذي سيقوم بمراجعته ونشره يوم 30 يونيو للشعب التونسي للاستفتاء".
وقوبل مشروع الدستور الجديد برفض غير مسبوق من الأحزاب والحركات السياسية والمنظمات والمجتمع المدني، وبانتقادات من قبل خبراء القانون الدستوري والاقتصاد لمسار صياغته، ولما صدر عن ممثلي اللجنة الاستشارية من ملامح.
وعلّق الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، (مقاطع للحوار) نور الدين الطبوبي، على الوثيقة المسرّبة لباب السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي سيتضمنها مشروع الدستور الجديد، قائلا إنه "إذا ثبت أن هذه التسريبات الوثيقة الرسمية فعلى الدنيا السلام".
واعتبر الطبوبي، في تصريح صحافي اليوم الإثنين، على هامش اجتماع نقابي، أنّ "الدستور ليس موضوعا إنشائيا ولابدّ أن يتضمن فقط عناوين رئيسية حول الحقوق الثابتة".
ورأى المحلل السياسي والباحث في الفلسفة السياسية المعاصرة، شكري بن عيسى، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "الرفض الحزبي والمدني والمجتمعي سببه التمشي الشخصي لقيس سعيد الذي فرضه على الجميع بصفة قسرية، في هروب إلى الأمام بشكل أحادي، متجاهلا أي صوت معارض أو ناصح".
وشدد بن عيسى على أن "من أسباب الرفض والاعتراض على الدستور الجديد أن كامل المسار الذي فرضه سعيد مخالف للمنظومة الدستورية القائمة على الخروج عن الفصل 80 الذي أتاح به لنفسه اتخاذ التدابير الاستثنائية التي لا تسمح له بتعديل الدستور أو تغيير النظام السياسي، في مخالفة لدستور 2014 وللمعايير الدستورية الدولية".
وتابع أن "المسار الذي فرضه هو تمش أحادي، باعتبار أنه مخالف حتى للمراسيم التي اتخذها سعيد نفسه، ولم يتم احترامها عند تطبيقها، فمثلا اللجنة القانونية لصياغة الدستور لم تتشكل ولم تتكون باعتبار رفض عمداء كليات القانون والحقوق، ولم نعرف عنها شيئا".
وتابع المحلل: "كما أن اللجنة الاقتصادية الأخرى تشتغل بشكل مرتجل لتتغير تركيبتها حسب المزاج والطلب، بحضور أنصار نبيل القروي الذي نعته سعيد بالفساد سابقا في تناقض كامل".
وشدد الخبير على أنه "من حيث الشكل، فإنّ المسار واللجان لا تستجيب للمعايير، ناهيك عن أن الدستور هو أكثر من عقد اجتماعي، فهو ميثاق اجتماعي لا بد من أن يتم التداول فيه بطريقة جماعية ووفاقية، في مقابل أن ما قام به سعيد يقتصر على أنصاره ومؤيديه".
وأضاف بن عيسى أن "نوازع هذا الدستور تسلطية، باعتبار أنه يذهب في اتجاه إقامة سلطة فردية رئاسية، تقريبا شبه مطلقة. فحسبما تم تسريبه والتصريح به، فإنه لا استقلالية للحكومة بل هي هيئة حكمية، ويضع سعيّد نفسه في وضع متعال جدًا بسلطات شبه كاملة بين يديه بتهميش البرلمان، هذا إذا لم يذهب أصلًا في هذا النظام القاعدي".
وأشار إلى أنه "من كل الجوانب، هناك رفض من الجانب القانوني والشكلي والمحتوى، بالإضافة إلى إقصاء المنظمات الوطنية والأحزاب السياسية".
وبيّن المحلل أن "الشعب التونسي لم يطالب بتعديل الدستور بل إنه ليس مشكلته الأساسية، وقد بان ذلك في الاستشارة، حيث لم يشارك التونسيون رغم تسخير كل وسائل الدولة، في حين أن المشاركة كانت فضيحة لم تتجاوز 5 بالمائة". واستنتج بن عيسى قائلا "اختزال هذا الدستور هو مشروع أحادي شخصي، لا علاقة له بمستقبل البلد ومشاكل الشعب واحتياجاته".
وانتقدت أستاذة القانون الدستوري منى كريم الدريدي، في تعليق لـ"العربي الجديد"، "مسار وضع مشروع الدستور الجديد الذي تشوبه عيوب شكلية وجوهرية منذ البداية. فمن حيث الأصل، فإن التمشي برمته مخالف للدستور 2014 الذي ما زال ساري المفعول، بل يتم اعتماده من رئيس الجمهورية لإضفاء مشروعية على كامل مسار 25 يوليو".
وتابعت أن "مسار وضع الدستور مخالف بدوره للمراسيم التي وضعها سعيد، وفيه عدة تجاوزات قانونية"، متسائلة عن "سبب إخفاء أعمال اللجنة القانونية التي تعمل على صياغة مشروع الدستور، وعن سبب عقد اجتماعاتها بشكل مستتر وسري عن الإعلام والرأي العام ودون الكشف عن تركيبتها".
وبينت كريم أن "من حق التونسيين أن يعرفوا اليوم من كتب نص الدستور الذي سيعرض على الاستفتاء في 25 يوليو، فهل كتبه العميد بلعيد أم أن النص جاهز سلفا".
وأضافت أن "مسار صياغة مشروع الدستور يشوبه غموض وريبة، وهو ما سيزيد من اهتزاز الثقة في النص المعروض على الاستفتاء، في مخالفة لجميع قواعد الشفافية والتشاركية".