يقترب الحراك الأميركي - الأفريقي - الإماراتي المتعاضد في قضية سدّ النهضة، من إقامة محطة تهدئة، تتمثل في إقناع مصر والسودان بقبول توقيع اتفاق مؤقت لإدارة الملء الثاني للسد وتشغيله خلال الفترة الممتدة حتى فيضان عام 2022، عوضاً عن التوصل إلى اتفاق نهائي ودائم وشامل على قواعد الملء والتشغيل.
ووصل صباح أمس الأحد رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان إلى الإمارات، بدعوة من ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، للتباحث حول القضية وإمكانية التهدئة على الحدود السودانية - الإثيوبية أيضاً. وقبلها بساعات، التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في القاهرة بنظيره الكونغولي الديمقراطي فيليكس تشيسكيدي، رئيس الاتحاد الأفريقي، وأعلن أن مصر لن تقبل بالمساس بأمنها المائي، وبالتالي ضرورة التوصل إلى الاتفاق القانوني الملزم المنشود بشأن قواعد ملء وتشغيل سدّ النهضة الإثيوبي، والذي يحافظ على حقوق مصر المائية ويحقق مصلحة جميع الأطراف ويجنب المنطقة المزيد من التوتر وعدم الاستقرار، معرباً عن دعمه لجهود تشيسيكيدي التوفيقية.
تتواصل مصر والسودان حالياً حول الشروط الواجب توافرها للقبول بهذا الحل المؤقت
وبينما تحدّث الجميع صراحةً في القاهرة وأبوظبي والخرطوم، خلال لقاءات المبعوث الأميركي لمنطقة القرن الأفريقي جيفري فيلتمان، عن معالم مقترح الاتفاق المؤقت، القائم على تبادل البيانات خلال عملية الملء التي ستبدأ خلال أيام، ومن المقرر أن تنتهي في يوليو/ تموز المقبل، فإن مصر والسودان يتواصلان حالياً حول الشروط الواجب توافرها للقبول بهذا الحل المؤقت، المعروف على المستوى الفني بأنه لن يكون سبباً في أي ضرر خلال الفترة الحالية. لكن خطورة الحلّ المؤقت تكمن في أن إثيوبيا ستمسك بتلابيب التحكم في مياه النيل مستقبلاً، بلا شريك أو رقيب، وستتخذ أديس أبابا من سابقة ملئها السد مرتين بقرار سيادي حجّة للخروج عن أي اتفاق يمكن إبرامه مع مصر والسودان، وإقدامها على تغيير نسب التدفق ومعدلات التشغيل بين فترة وأخرى. ومن المتوقع أن تعمل إثيوبيا بهذا النهج، أخذاً في الاعتبار استنادها الدائم إلى اتفاق المبادئ الموقع بين الدول الثلاث في مارس/ آذار 2015، والذي يجيز لها إعادة ضبط القواعد من وقت لآخر، وأن الإخطار المسبق الوحيد الذي تكلّف به إثيوبيا ضمن الاتفاق هو إخطار دولتي المصب بأي ظروف غير منظورة أو طارئة تستدعي إعادة الضبط لعملية تشغيل السد.
وقالت مصادر دبلوماسية مصرية وأخرى غربية في القاهرة، لـ"العربي الجديد"، إن دولتي المصب طلبتا من الوسطاء ضمان أن يكون الحلّ الأمثل على المدى البعيد هو إقرار إثيوبيا سياسياً بضرورة مشاركة مصر والسودان في إدارة عمليات تغيير قواعد تشغيل السد السنوية، خصوصاً بعد انقضاء سنوات الرخاء الحالية، وإقدام الدول الثلاث على الدخول في مشاريع تكاملية سبق أن درستها الحكومات في عهد ما قبل رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، لتتحقق بالفعل مواد اتفاق المبادئ الخاصة بالعمل المشترك لتحقيق التنمية المستدامة. وعلى الرغم من أن المادة الخامسة من اتفاق المبادئ التي تفسرها إثيوبيا بهذه الصورة النصّية والضيقة، قد نصّت أيضاً على استمرارية التعاون والتنسيق حول تشغيل سد النهضة مع خزانات دولتي المصب، بإنشاء آلية تنسيقية مناسبة فيما بينها، فإن أديس أبابا تماطل أيضاً في استحداث تلك الآلية، بحجة أنه يمكن وضعها بعد إتمام الملء الأول.
وتعد الصياغة غير المحكمة لاتفاق المبادئ من الأسباب الرئيسية التي أوقعت مصر في هذا المأزق. فعلى الرغم من أحقيتها وفق قواعد القانون الدولي وسوابق المحاكم الدولية في الحصول على إخطار مسبق بأي تصرف على النيل سيؤثر على حصّتها من المياه، فإن تمسكها قبل أديس أبابا باتفاق المبادئ وحده لا يكفي لإنجاح المفاوضات، ولا يقنع المراقبين بمنطقية مطالباتها بالاتفاق على جميع النقاط المستقبلية العالقة قبل الملء الثاني.
وأضافت المصادر أن الوسطاء يقترحون تقديم ضمانات عملية لمصر والسودان، لانخراط إثيوبيا في مفاوضات للتوصل إلى اتفاق نهائي ممتد المفعول خلال العام الحالي، ولكن من دون تأثير ذلك بالسلب أو الإبطاء على عملية الملء الثاني، مع تأكيد عدم إيقاع أي ضرر بدولتي المصب. وذكرت المصادر أن مصر، التي سبق أن أبلغت كلّاً من الولايات المتحدة والاتحاد الأفريقي والإمارات وجميع الأطراف المعنية برفضها المطلق لأي اتفاق مؤقت، ربما لا تجد أمامها غير قبول الحلّ المؤقت إذا تمّت صياغته بصورة تضمن الدخول فوراً في مفاوضات قصيرة الأجل، وتحظى برعاية سياسية أكيدة من الولايات المتحدة، وصولاً إلى الاتفاق النهائي.
وبالنسبة لمفاوضات الاتفاق النهائي، تطلب مصر والسودان إنجازها قبل الملء الثالث للسد، مع ضرورة ضمان الولايات المتحدة وقوى دولية أخرى كالاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن، جدّية مشاركة إثيوبيا في أي مفاوضات لاحقة، سواء كانت برئاسة الاتحاد الأفريقي أو غيره. وكذلك ضرورة العودة إلى مسودة اتفاق واشنطن التي وقّعتها مصر منفردة بعد جولة التفاوض التي انتهت ربيع العام الماضي، للانطلاق منها كمرجعية فنية قانونية مقبولة يمكن إجراء تعديلات عليها في أضيق الحدود، مع قابليتها للتطبيق على الوضع الحالي، وتضمنها مزاوجة فنية سليمة بين الاعتبارات التقنية والقانونية.
تريد القاهرة والخرطوم إقرار إثيوبيا بضرورة مشاركتهما إدارة عمليات تغيير قواعد تشغيل السد السنوية
وسبق أن نشر "العربي الجديد"، أول من أمس السبت، أن مقترح الاتفاق المؤقت للعروض الإثيوبية والمقترحات الإماراتية السابقة بتبادل المعلومات وإدارة فترة الملء بالشراكة بين الدول الثلاث، قد ركز عليها المبعوث الأميركي خلال زيارته إلى القاهرة، باعتبارها أمراً محورياً على طاولة التفاوض، وتجعل مساعيه في هذا التوقيت على قدر كبير من الحساسية والدقة.
وتستمر جولة فيلتمان بشأن سد النهضة والأوضاع الإثيوبية أربعة أيام أخرى، يزور خلالها أسمرة وأديس أبابا. وبحسب المصادر، فإنه من الوارد عودة فيلتمان إلى القاهرة في نهاية الجولة، إذا تطلب الأمر ذلك، لأنه أكد أن "القرار الأميركي في التحركات الحالية لن يتأخر كثيراً لارتباط القضية بمواعيد يمكن أن يترتب على فواتها سلبيات جسيمة".
وخلال مارس/ آذار الماضي، بذلت الإمارات جهوداً سرية لإقناع مصر والسودان بحلول فنية غير جذرية تمكّن إثيوبيا في كل الأحوال من الملء الثاني للسد، وتحقق حالة مؤقتة من عدم الإضرار بالسودان ومصر تنتهي بنهاية فترة الفيضان الحالية، مع عدم التوصل إلى اتفاق نهائي وملزم لجميع الأطراف يضع قيوداً على التصرفات الإثيوبية المستقبلية. لكن القاهرة استطاعت استمالة الخرطوم والإعلان عن رفض هذه الحلول، التي كان أبرزها الاكتفاء بتبادل المعلومات.
وحاولت الإمارات إقناع مصر والسودان بمنحها فرصة للعب دور الوسيط لحلحلة قضية سد النهضة الإثيوبي، بالتركيز على ملف الاستثمارات في المناطق المتنازع عليها بين السودان وإثيوبيا من ناحية، والمساعدة في إقامة مشاريع للتنمية المستدامة بين البلدان الثلاثة من ناحية أخرى، مرتبطة بتوليد الكهرباء من الطاقة المائية وطاقة الرياح في محيط سد النهضة (ولاية بني شنقول - قمز) وتخصيص أراضٍ في المنطقة للزراعات الاستراتيجية لتوريدها إلى الإمارات ومصر. وأضافت المصادر أن الإمارات التي ترغب في حماية استثماراتها التي تدفقت على إثيوبيا في السنوات الأخيرة، وستزيد بإنجاز مشروع سد النهضة، تحاول في الوقت نفسه ضمان استمرارية النظام المصري في فلكها وعدم ابتعاده عنها.
وفي 24 إبريل/ نيسان الماضي، نشر "العربي الجديد"، نقلاً عن مصادر مصرية، أن الملء الثاني للسد بات قاب قوسين أو أدنى، وأن الجهد الدبلوماسي الدولي الذي تروّج مصر له بين الدول الكبرى وأعضاء مجلس الأمن غير الدائمين يقوم على "احتمالية امتداده إلى العام المقبل قبل الملء الثالث للسد"، وذلك بسبب المؤشرات التي تستبعد حدوث ضرر جسيم بمصر خلال فترة الملء الثاني. وقد بدأت إثيوبيا الإعداد لهذه المرحلة بالفعل، بسبب مؤشرات الفيضان الإيجابية من ناحية، وبدء إثيوبيا مبكراً في عملية تصريف المياه المحجوزة سلفاً من السد، والمتوقع أن تنعكس بزيادة "متوسطة" على مخزون بحيرة ناصر خلال شهر مايو/ أيار الحالي.
وشرحت المصادر هذا الأمر بأن وزير الخارجية المصري سامح شكري خلال لقاءاته الأفريقية المكثفة التي عقدها في سبع دول، ركّز على إمكانية امتداد المفاوضات عاماً أو عامين آخرين، سواء تحت قيادة الاتحاد الأفريقي أو غيره، وفي كلّ الأحوال تحت عيون مجلس الأمن، وأن هذه الجولة تضمّنت محاولات مصرية لتبديد بعض التصورات الأفريقية غير الصحيحة عن القضية، والتي استطاعت إثيوبيا ترسيخها طوال السنوات الماضية، على رأسها احتكار مصر لمياه النيل.
يذكر أن صيغة الخطاب المصري الموجّه الشهر الماضي إلى مجلس الأمن قد عكست رغبة مصر في الالتزام بالمسار التفاوضي لأبعد ما يمكن الوصول إليه، فيما يعد تأكيداً على تراجع نظام السيسي عن التلويح بالتدخل العسكري لحل الأزمة، واستمراراً للرهان على ضرورة تدخل القوى العظمى، وبالأخص الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين، بعيداً عن روسيا التي أعلنت بشكل ضمني حيادها، لإقناع إثيوبيا بالتوصل إلى اتفاق ملزم.