تصر إثيوبيا على رفع حدة التوتر في ملف سد النهضة. فبعدما اعترضت، خلال الاتصالات الأخيرة، على الوثيقة التي تقدمت بها الكونغو الديمقراطية، الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي، بدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، للتداول حولها بهدف إحياء المفاوضات الثلاثية، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية دينا مفتي، أمس، إن بلاده تنتظر دعوة كينشاسا لاستئناف المفاوضات، لكنها في الوقت نفسه ترفض أن تفضي المفاوضات إلى اتفاق ملزم.
هذا الأمر يُعتبر تفريغاً لكل جهود إحياء التفاوض من فحواها، فضلاً عن تجاهل البيان الرئاسي الصادر عن مجلس الأمن الشهر الماضي، والذي أشار إلى ضرورة التوصل لاتفاق ملزم، وهو ما اعتبرته القاهرة والخرطوم من الإيجابيات القليلة التي تضمنها هذا البيان.
تتمسك أديس أبابا برفضها وضع جدول زمني محدد لا يزيد على ستة أشهر لإنهاء المفاوضات
ورأت مصادر دبلوماسية مصرية، لـ"العربي الجديد"، أن توقيت التصريحات الإثيوبية مقصود تماماً، تزامناً مع جولة مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان في الشرق الأوسط، وعقب ساعات من مناقشته قضية سد النهضة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وتوافق الطرفين على ضرورة استئناف المفاوضات والتوصل إلى اتفاق نهائي ملزم.
وذكرت المصادر أن المحاولات الكونغولية، إلى جانب تلك التي تبذلها مفوضية الاتحاد الأفريقي، لتبديد الخلافات القانونية العديدة حول الاتفاق، لم تُفضِ إلى أي جديد، فما زال هناك خلاف حول المسار الإجرائي للمفاوضات، برفض أديس أبابا وضع جدول زمني محدد لا يزيد على ستة أشهر لإنهاء المفاوضات، خصوصاً بعد صدور بيان مجلس الأمن، والذي دعا إلى التوصل لاتفاق خلال مدة زمنية معقولة، فضلاً عن رفضها مشاركة الولايات المتحدة كمراقب في الاجتماعات المقبلة، بسبب الخلافات بين البلدين حالياً حول حرب تيغراي وتوقيع الرئيس الأميركي جو بايدن مرسوماً يسمح بتطبيق عقوبات على الحكومة الإثيوبية بسبب الخروقات الإنسانية والحقوقية خلال المعارك الدائرة حتى الآن.
وفي حال عدم اشتراك الولايات المتحدة، أو استبدالها، أو حتى إشراكها رغماً عن إثيوبيا، فإن الصيغة التي تقترحها الكونغو الديمقراطية، وتوافق عليها دولتا المصب، لن يكون من الممكن تطبيقها، والتي تتمثل في اشتراك الوسطاء معاً في صياغة حلول مقبولة من الأطراف الثلاثة في حال استمرار تباين وجهات النظر بينها، لا سيما مع عدم إحراز أي تقدّم في الوساطة المفترضة خارج مسار التفاوض المباشر، والذي تباشره دول مختلفة، مثل الاحتلال الإسرائيلي والإمارات.
وكشفت المصادر أن الشرط الإثيوبي القديم بعدم إلزامية الاتفاق إلا في حالة أن يفضي إلى اتفاق أوسع حول استخدامات النيل الأزرق، والمحاصصة الجديدة بين جميع دول الحوض بشكل عام، قد أضافت له إثيوبيا قسماً آخر خلال الاتصالات الأخيرة، يتمثل في أن تفصح مصر والسودان عن جميع تصرفاتهما المائية، لا سيما الخاصة بالسد العالي، الأمر الذي يعارضه البلدان تماماً، خصوصاً مصر. غير أن البلدين يبديان مرونة في إمكانية التباحث حول ذلك بعد إتمام عملية ملء سد النهضة وتشغيله بكفاءته القصوى، أي بعد فترة قد تمتد إلى سبع سنوات.
كما لم تسفر الاتصالات عن أي تقدّم في مسألة آلية فض المنازعات التي ستنشأ مستقبلاً حول تشغيل السد ومراحل الملء المتأخرة، نظراً لاعتراض إثيوبيا على إشراك الولايات المتحدة في الآلية الرباعية للوساطة التي كان منصوصاً عليها في الاقتراح المصري السوداني، وإصرارها على التعامل في النزاع مع الاتحاد الأفريقي فقط. كما تطالب إثيوبيا الآن بإلغاء أي شروط تتعلق بالإلزام، بحجة عدم تمكنها من الوفاء بذلك تحت تأثير تغير الظروف المواكبة لعمليتي الملء والتشغيل، وكذلك رفضها لوضع نصوص تقيد حقوقها المستقبلية بشأن التطورات التي ستطرأ على حوض النيل الأزرق، مثل السدود والمشاريع والبحيرات الصناعية.
تعترض إثيوبيا على إشراك الولايات المتحدة في الآلية الرباعية للوساطة
وأشارت المصادر إلى أن من العوامل التي استجدت على القضية أخيراً، إجراء اتصالات من الاتحاد الأفريقي -بمعزل عن مصر والسودان- مع تركيا والصين، للبحث عن إمكانية تدخل كل منهما في القضية بدلاً من الولايات المتحدة، أو إلى جانبها وبجانب الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، كحل محتمل لإقناع إثيوبيا بتوسيع آلية الوساطة، لتصبح خماسية أو سداسية، وأن ينطلق العمل من جديد على أرضية الوثيقة التي أعدتها الكونغو الديمقراطية. لكن هذه الاتصالات لم تفض إلى خطوات ملموسة حتى الآن.
وسبق أن قالت مصادر مطلعة، لـ"العربي الجديد"، إن جولة المفاوضات المزمع الدعوة إليها سوف تُدعى لها الوفود الاستخباراتية والدبلوماسية والفنية من الدول الثلاث خلال أكتوبر/تشرين الأول الحالي، بحال التوافق على إمكانية البناء على الوثيقة التي قُدمت، وذلك لتقديم تصور شامل لحل نهائي خلال جدول زمني محدود، لا يزيد على ستة أشهر. وهذه الجهود مدعومة من الاتحاد الأفريقي لا يمكن اعتبارها مبادرة جديدة، بمعنى أنها لا تقدم طريقة مختلفة لمباشرة المفاوضات، ولكنها تأتي في إطار تنسيق رفيع المستوى بين الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسيكيدي والبيت الأبيض، مدعوماً باتصالات أخرى إقليمية ودولية، بهدف البناء على البيان الرئاسي الصادر عن مجلس الأمن، والإسراع في تنفيذ فحواه بالعودة السريعة إلى المفاوضات بخريطة طريق محددة.
وعلى الرغم من أن القاهرة والخرطوم تعتبران البيان الرئاسي لمجلس الأمن تقدماً ملموساً في مقاربة المجلس للقضية، باعتبارها المرة الأولى التي يتطرق فيها إليها في بيان رسمي، حفاظاً على السلم والأمن الدوليين، وخصوصاً في منطقة القرن الأفريقي، لا سيما وأن إثيوبيا كانت تدفع بشدة، مدعومة من قوى أخرى، لتجاهل القضية تماماً، فإن البيان الرئاسي بحد ذاته يفتقر إلى الإلزام القانوني وحتى السياسي -على عكس ما ذكرت الخارجية المصرية في بيانها المرحب- إذ إنه يعبر بوضوح عن فشل الأغلبية في التوصل إلى اتفاق على قرار ملزم، كما يعبر عن عدم توافق الدول الخمس دائمة العضوية على مقاربة محددة للقضية.