عكست صيغة الخطاب المصري الموجه إلى مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة وأمينها العام أنطونيو غوتيريس بشأن قضية سد النهضة، رغبة القاهرة في الالتزام بالمسار التفاوضي لأبعد ما يمكن الوصول إليه. ويعد هذا الأمر تأكيداً على تراجع النظام المصري عن التلويح بالتدخل العسكري لحل الأزمة، واستمراراً للرهان على ضرورة تدخل القوى العظمى، وبالأخص الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين، بعيداً عن روسيا التي أعلنت بشكل ضمني حيادها، لإقناع إثيوبيا بالتوصل إلى اتفاق نهائي وملزم على قواعد الملء والتشغيل، سواء قبل الملء الثاني المقرر الانتهاء منه قبل يوليو/تموز المقبل، أو بعد ذلك.
وجاء في الخطاب الذي أرسله وزير الخارجية المصري سامح شكري للجهات الأممية المذكورة، وعلى رأسها دانغ دين كوي الممثل الدائم لفيتنام الرئيس الحالي لمجلس الأمن، تحذيرات مصرية متكررة من الإضرار بالأمن والسلم في المنطقة كلها، إذا أصرت إثيوبيا على تعنتها والملء الثاني دون اتفاق كامل مع دولتي المصب. كما اتهم الخطاب أديس أبابا بالتسبب في أضرار استراتيجية جسيمة بحياة شعبي مصر والسودان.
تحقيق أي إنجاز في مفاوضات السد يرتبط بتدخل أجنبي مؤثر
ولم تعلن الخارجية المصرية عن الخطاب رسمياً، لكن "العربي الجديد" حصلت عليه من مصدر دبلوماسي في ديوان الوزارة. وركز الخطاب، الذي يمكن وصفه بـ"عرض حال" كما حدث في الصيف الماضي، على استنفار اهتمام المجتمع الدولي، قبل أن تتطور الأزمة لنزاع غير سلمي، لكنه لم يدع مجلس الأمن صراحة للاجتماع لمناقشة الأمر، وهو ما فسرته مصادر دبلوماسية مصرية بأنها "محاولة لتلافي أخطاء اللجوء السابق لمجلس الأمن"، بحيث يتم الإعداد لفترة أطول على مستوى الحشد الدبلوماسي والدولي، قبل أن تنعقد جلسة استماع "تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه"، والمقصود بهذا في الوقت الحالي الاستمرار في المفاوضات تحت قيادة الاتحاد الأفريقي.
وأضافت المصادر أن الخيار الأمثل لمصر الآن هو أن يدعم مجلس الأمن بشكل واضح آلية التفاوض الرباعية المقترحة، بمشاركة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ولذلك جاءت الإشارة صريحة إلى هذه الآلية في الخطاب المصري. وذكرت المصادر أن تحقيق أي إنجاز في مفاوضات السد بات مرتبطاً بتدخل أجنبي كبير ومؤثر، لعملية وساطة شاملة على المستويين السياسي والفني، وأنه من الصعب تصور نجاح مسار المفاوضات الأفريقي، وأن مصر مؤمنة بأن حالة الضبابية التي تخيم على مصير المفاوضات لن تنتهي إلا باللجوء لمجلس الأمن، ورفع شكوى رسمية في الموعد المناسب، على أمل فتح الطريق لتدخل مختلف من أطراف غربية عدة، لا سيما بعد الإشارات التي تلقتها القاهرة في الأسبوعين الماضيين من واشنطن وعواصم غربية أخرى بعدم السماح بإيقاع أضرار بمصر أو السودان.
وأكدت المصادر أن تحويل دفة التحرك المصري من السلمية والدبلوماسية إلى أي مسار آخر "مرتبط بشكل أساسي باحتمالية وقوع الضرر، وهو أمر لم يحدث حتى الآن، وليس من المتصور أن يحدث خلال فترة الملء الثاني"، وبالتالي فحتى إذا بدأت إثيوبيا الملء فعلياً الشهر المقبل، وفقاً للمعلومات التي تلقتها القاهرة والخرطوم من أديس أبابا، فسوف تستمر محاولات التفاوض، ليس فقط بسبب تمسك مصر بصورتها كدولة مسالمة تحترم الشرعية الدولية، ولكن أيضاً لتفويت الفرصة على إثيوبيا، التي تاجرت بصورة واضحة في الأروقة الدبلوماسية بالتهديدات المصرية الأخيرة، لتكرس صورتها كطرف أضعف.
تحويل دفة التحرك المصري من السلمية والدبلوماسية إلى أي مسار آخر مرتبط بشكل أساسي باحتمالية وقوع الضرر
من ناحيتها، قالت مصادر فنية بوزارة الري إن المشكلة الحقيقية في الملء الثاني للسد، الذي أكد الإثيوبيون حريتهم الكاملة فيه مراراً، لن تكون في فداحة الأثر السلبي على مصر من حيث تقليل كميات المياه الواصلة إلى بحيرة ناصر، ذلك لأن إجمالي المياه التي سيتم تخزينها خلال فترة الملء الأول، وهي 13 مليار متر مكعب تقريباً قد تم بالفعل أخذ الاحتياطات اللازمة لتعويضها لمدة عام ونصف العام، فضلاً عن أنها في الواقع -وبالنسبة لفترة الرخاء الحالية- كمية تقل كثيراً عن كميات المياه التي كانت تنقص في السنوات العشرين السابقة من إيراد النيل لأسباب مختلفة، حتى عام 2019، وهي كميات تتراوح بين 6 و9 مليارات متر مكعب. لكن الأثر السلبي الحقيقي هو أن إثيوبيا ستمسك بتلابيب التحكم في مياه النيل مستقبلاً دون شريك أو رقيب. وذكرت المصادر الفنية أن حديث وزير الخارجية المصري أخيراً عن عدم مشاركة الدول الغربية في إنشاء سد النهضة، بل الشركات الأجنبية، يعتبر "صادماً"، لأن مشاركة المستثمرين في مشروع بهذه الضخامة لا يرتبط فقط بخططهم الخاصة.
وأوضحت المصادر أن تلك الدول ما زالت مقتنعة إلى حد كبير بالمصفوفات الإثيوبية، التي تزعم عدم إيقاع أي أضرار بمصر في أي مرحلة من ملء وتشغيل السد، على النقيض من المصفوفات والتقارير الفنية المصرية، التي لا تتحدث فقط عن خروج آلاف الأفدنة من الرقعة الزراعية على مراحل، ربما تبدأ في العام المقبل مباشرة، ولكن أيضاً بسبب المصروفات الضخمة التي يتحتم على القاهرة أن تنفقها في المستقبل البعيد لتحسين الظروف البيئية للمياه وتحسين جودتها وجعلها صالحة للشرب، بالنظر للتوسع الكبير الذي سيطرأ على استخدامها للأغراض الزراعية والصناعية والتنموية في كل من إثيوبيا والسودان.