كشفت مصادر دبلوماسية غربية في القاهرة عن إجراء إثيوبيا اتصالات واسعة النطاق مع العواصم الأوروبية والصين وروسيا لترويج رواية تتهم مصر والسودان بدعم جيوب التمرد من قوميات تيغراي وبني شنقول وقُمز، للإعداد لاحتلال منطقة سد النهضة والسيطرة على السد، وذلك استباقاً لجهود دبلوماسية تبذلها أطراف عدة، منها الجزائر، لحث الدول الثلاث على العودة إلى طاولة المفاوضات، والوصول إلى اتفاق عادل وشامل وملزم بشأن قواعد الملء في السنوات المقبلة وتشغيل السد.
وذكرت المصادر، لـ"العربي الجديد"، أن الرواية الإثيوبية تتشابك مع التصعيد الأخير مع السودان، واتهامه بدعم تيغراي، والذي دفع الخرطوم إلى استدعاء سفيرها في أديس أبابا للتشاور، وإصدار بيان مطول للدفاع عن المبادرة التي أطلقها رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، لتشجيع الأطراف الإثيوبية على حل الأزمة سلمياً، والتشديد على أن الاهتمام السوداني بهذا الملف ينبع من الحرص على الاستقرار الإقليمي.
لم يسبق للمسؤولين المصريين أو السودانيين أن تحدثوا بأي صورة عن احتلال المنطقة التي يقع فيها السد
وسبق لإثيوبيا أن استغلت تصريحات الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، ووزير خارجيته سامح شكري، عن "إتاحة جميع الحلول" للمصريين للدفاع عن حصتهم التاريخية في المياه، لتشكو في معرض مذكراتها المرفوعة إلى مجلس الأمن من احتمالية تعرضها للاعتداء، وهو ما تفاعلت معه روسيا التي وجهت في كلمتها خلال اجتماع المجلس انتقاداً لما وصفته "التهديد باستخدام القوة". لكن لم يسبق للمسؤولين المصريين أو السودانيين أن تحدثوا بأي صورة عن احتلال المنطقة التي يقع فيها السد، في ما طرحه خبراء قانونيون من البلدين ومؤثرون على وسائل التواصل الاجتماعي تحدثوا عن أن عودة إقليم بني شنقول-قُمز إلى السودان ستكون نتيجة لإخلال إثيوبيا باتفاقية 1902 الموقّعة مع بريطانيا، والتي كانت تشترط عدم إنشاء أي بناء إثيوبي على مجرى النيل الأزرق، إلا بموافقة بريطانيا والسودان تحت الحكم البريطاني المصري آنذاك.
وأضافت المصادر أنه سبق لمصر أن أبدت، من خلال مسؤولين استخباراتيين ودبلوماسيين، لبعض العناصر العسكرية في المجلس السيادي والخارجية في السودان تحفظها على طرح أي مبادرة بشأن النزاع الإثيوبي الأهلي، والتركيز على قضية سد النهضة فقط. لكن الخرطوم ردت بأن حمدوك أصر على إطلاق هذه المبادرة لإبداء حسن النوايا، وبموجب رئاسة السودان الحالية لمنظمة "إيغاد"، التي تضم إثيوبيا وإريتريا، المنخرطتين في صراع تيغراي، بالإضافة إلى جنوب السودان وجيبوتي والصومال وكينيا وأوغندا.
وأوضحت المصادر أن أحد أسباب هذه الحملة الإثيوبية عجز أديس أبابا عن الوصول إلى أي نقطة تفاهم مع الإدارة الأميركية الجديدة في قضية تيغراي، وهي تحاول فتح جبهات أخرى لاستدرار التعاطف من العواصم الكبرى، في ظل أزمة اقتصادية تتوقع الدوائر الغربية أن تشهدها البلاد بحدة، حتى مع استمرار تدفق المساعدات الصينية والروسية والخليجية، بسبب تزايد الإنفاق العسكري، والذي ساهم بشكل غير مباشر في غلق إثيوبيا عدداً من مقارها الدبلوماسية في العواصم الأفريقية والآسيوية والأوروبية، لتوفير نفقات استئجار المباني ومقار معيشة البعثات. وأشارت المصادر إلى أن استعاضة أديس أبابا عن اللقاءات المباشرة لبعثاتها الدبلوماسية، بالتوسع في إقامة ندوات واجتماعات دورية مع الدبلوماسيين الغربيين عن بُعد لإطلاعهم على تطورات القضايا المختلفة، وأن إثارة اتهامات من هذا النوع لمصر والسودان في الوقت الحالي، يسهم بلا شك في زيادة الاهتمام بالحكومة الإثيوبية.
من جهته، قال مصدر دبلوماسي مصري، لـ"العربي الجديد"، إن اتهامات الإثيوبيين يجب أن تبرهن للعالم إفلاس حكومة أبي أحمد، وعدم جديتها في التعاطي مع أي مبادرة حقيقية لحل قضية السد، وأن القاهرة ما زالت ترحب بأي مبادرة، بشرط عدم وضع شروط إثيوبية تعجيزية تعرقلها. وأضاف المصدر أنه يمكن تفسير التصرفات الإثيوبية الأخيرة إزاء السودان، والاتهامات التي تروّجها، بأنها رد فعل على مطالبات جديدة قُدّمت لها من الصين تحديداً في الآونة الأخيرة لإبداء مرونة في الملف، مع التعهد بتقديم دعم مالي كبير لمشاريع مستقبلية مقترحة للربط الكهربائي بين الدول الثلاث، الأمر الذي ترحب به مصر بالفعل، كمدخل لتعظيم الاستفادة من السد كمورد تنمية للجميع، ويتحمس له السودان، الذي يعتمد على نسبة معتبرة من الكهرباء المستوردة من مصر وإثيوبيا. وذكر المصدر أن الصين أكدت أخيراً لمصر، خلال الزيارات التي قام بها مسؤولون من بكين، استعدادها للعمل على حل مُرضٍ لجميع الأطراف، مع الاستمرار في تعهدها السابق بتقديم الدعم الفني لتلافي وقوع أي ضرر على مصر خلال مراحل الملء المتعاقبة.
مصدر دبلوماسي مصري: اتهامات الإثيوبيين يجب أن تبرهن للعالم إفلاس حكومة أبي أحمد
وسبق أن كشفت مصادر دبلوماسية أن المبادرة الجزائرية الجديدة للتوسط في قضية سد النهضة، تقوم في الأساس على التوفيق بين الدول الثلاث لإقناعها باللجوء إلى المادة العاشرة من اتفاق المبادئ، المبرم في مارس/آذار 2015، لإيجاد وساطة ملزمة تنهي حالة الجمود في المفاوضات المسيطرة على الملف، لفترة عام ونصف العام تخللها نجاح أديس أبابا في إنجاز مرحلتين من ملء السد. ويفتح المبدأ العاشر من الاتفاق باب الوساطة الدولية الملزمة، لكنه يتطلّب "اتفاق الدول الثلاث على ذلك"، وهو ما لم يتوفر رسمياً في أي مرحلة سابقة من النزاع، فالخرطوم التي تبدو من الناحيتين الفنية والاقتصادية مستفيدة من بناء السد، كانت تجدد ثقتها في إمكانية التغلب على الخلافات باستمرار المفاوضات، ثم عادت في الفترة الأخيرة لتطالب بالوساطة، أما أديس أبابا فهي ترفض اللجوء مرة أخرى، بعد جولة مفاوضات واشنطن مطلع العام الماضي، إلى الرقابة أو الوساطة السياسية بحجة أن القضية فنية فقط. أما القاهرة فتخشى استمرار إهدار الوقت من دون اتفاق نهائي ملزم، خصوصاً بعدما أصبح تحكم إثيوبيا السيادي في السد أمراً واقعاً بإنجاز مرحلتين من الملء.