يحاول الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تحجيم التطلعات الشعبية والخطاب الإعلامي المطالب بحسم قضية سدّ النهضة عسكرياً، خصوصاً بعد فشل مفاوضات كينشاسا في الكونغو الديمقراطية. وفي خطاب له، أمس الأربعاء، خلال افتتاح مجمع الإصدارات الحكومية المؤَمنة والذكية عن "خيارات مصرية مفتوحة للتعامل مع الأزمة"، شدّد السيسي على "التكلفة العالية التي تترتب على أي مواجهات عسكرية"، مطالباً المصريين بتذكر ما حدث بعد مشاركة جيشهم في حرب اليمن أوائل الستينيات من القرن الماضي، ثم الهزيمة في يونيو/حزيران 1967. وأكد أن "الاتفاق والتفاهم أفضل بكثير من أي بدائل أخرى".
وبالتزامن كان وزير الري والموارد المائية السوداني، ياسر عباس، يؤكد في مؤتمر صحافي أمس الأربعاء، أن فريق التفاوض السوداني وفريقا آخر مسانداً له، يواصل الاجتماعات لتحديد الخيارات الأفضل للسودان من النواحي الفنية والسياسية والقانونية. ولم يستبعد أن يكون خيار مجلس الأمن الدولي من بين تلك الخيارات المتاحة والممكنة والتي يكفلها القانون الدولي، إضافة إلى التصعيد داخلياً وخارجياً وإعلامياً، محملاً أديس أبابا مسؤولية ما جرى في مفاوضات كينشاسا.
نبرة السيسي الهادئة جاءت بعد ساعات من فشل اجتماعات كينشاسا
واتسم حديث السيسي بالهدوء وتفضيل السلمية، على عكس تهديد سابق له، متوّجاً في حينه ما يمكن وصفه بـ"الحملة الإعلامية التي شنتها وسائل الإعلام المقروءة والمرئية"، بتعليمات من المخابرات العامة المصرية بتصعيد الحديث عن "ضرورة الحسم بالقوة". ودعت تلك الوسائل إلى "استخدام القوة العسكرية"، طالما تشبثت أديس أبابا باستمرار العمل للملء الثاني المنفرد للسد، من دون اشتراط التوصل إلى اتفاق نهائي على قواعد الملء والتشغيل.
واللافت أن نبرة السيسي الهادئة جاءت بعد ساعات من فشل اجتماعات كينشاسا في وضع أسس لاستئناف المفاوضات الثلاثية، وصدور بيانين غاضبين من القاهرة والخرطوم يحملان المسؤولية لأديس أبابا، ثم رد الأخيرة بعدم تخليها عن حقها في الاستغلال "المشروع" لمواردها المائية، مغلقة الباب أمام الحلول الوسطى المقترحة، كآلية الرباعية الدولية.
وعاد السيسي لاستخدام محورين كانا يميزان أحاديثه عن سد النهضة في الفترة السابقة، التي شهدت فشلاً مستمراً للمساعي المصرية لفرض إلزامية الاتفاق على إثيوبيا. المحور الأول هو تحميل ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 مسؤولية إنشاء السد. وقال أمس: "أنا قلقت ع المياه من امتى؟ من 2011، أول ما بقتش أرتاح ولا أقدر اطمن من 2011، وتحديداً من 25 يناير، عرفت إن هيبقى عندنا مشكلة كبيرة قوي. وهقولكم لأنكم شريك أصيل في مواجهة التحدي، اللي حصل في 2011 كان هو المدخل للتحدي اللي احنا قدامه".
وفسّر مصدر فني بوزارة الري واكب تطورات المفاوضات الأخيرة حديث السيسي عن ثورة يناير، بأنه "نوع من تهيئة الرأي العام لأي تعثر أو فشل نهائي للمفاوضات الجارية، بالتوازي مع تهيئته للأخطار المائية التي ستواجه مصر الفترة المقبلة بعد بدء ملء السد للمرة الثانية". وشدّد على أن "الملء الثاني أصبح قاب قوسين أو أدنى، سواء نظمته إثيوبيا أو تركته للظروف الطبيعية".
والحقيقة أن إثيوبيا حاولت، أحياناً بالاستجداء وأحياناً أخرى بالوساطة، انتزاع اعتراف مصر بشرعية مشروع سد النهضة منذ عهد الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك، وحتى عام 2014 عندما تسلم السيسي السلطة، وفاجأ المصريين بطريقة جديدة غير معتادة لإدارة الملف وبلهجة تودد غريبة على المفاوضين والسياسيين المصريين، وقبلت إثيوبيا ذلك بصدر رحب. وتكلل التقارب بتوقيع اتفاق المبادئ في مارس/آذار 2015 بين السيسي ونظيره السوداني المخلوع عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي ميريام ديسالين. وهو الاتفاق الذي اعترف أولاً بحق إثيوبيا في بناء السدّ، الأمر الذي لم تكن مصر قد بادرت به من قبل، وأقر ثانياً بحقها السيادي في إدارته، من دون أن يقرر أي جزاء قانوني دولي عليها، في حال مخالفتها الاتفاقات السابقة في أعوام 1902 و1959 و1993.
وتحت إدارة السيسي أيضاً، غيرت مصر أكثر من مرة ثوابتها التفاوضية؛ ففي البداية كانت متمسكة بأن يتم ملء السد على سبعة أعوام، لكن وبقرار سياسي من السيسي تراجع الوفد الفني عن هذا الطلب في مفاوضات واشنطن. وطُرحت رؤية جديدة لترك الملء حسب الظروف الهيدرولوجية، على خمس مراحل قد تستغرق من عامين إلى ثلاثة أعوام. وفي نهاية المطاف سيتم ملء خزان السد في إثيوبيا بارتفاع 595 متراً، وستصبح جميع توربينات الطاقة الكهرومائية في السدّ جاهزة للعمل، مما سيؤدي إلى تناقص منسوب المياه في بحيرة ناصر جنوبي السدّ العالي. وسيؤدي انخفاض منسوب الفيضان في العامين المقبلين، ليقل عن مستوى 170 متراً، مما يعني خسارة 12 ألف فدان من الأراضي القابلة للزراعة في الدلتا والصعيد كمرحلة أولى، من إجمالي 200 ألف فدان تتوقع وزارة الموارد المائية والري المصرية خروجها نتيجة المدة الإجمالية للملء. وبعدما تلقفت إثيوبيا هذا التراجع المصري بالترحيب، عادت لتطالب بالمزيد، رافضة ربط القياسات ببحيرة ناصر، بحجة أن الحفاظ على منسوب المياه بها عند 165 أو 170 متراً قد يؤدي إلى حرمان سد النهضة من إمكانية الملء لأشهر عديدة متتابعة، نظرا لتدني مستوى الفيضان في بعض الأحيان إلى أقل من 30 مليار متر مكعب.
أما المحور الثاني الذي أحياه السيسي في حديثه أمس فهو ضرورة الاستعداد الداخلي لنقص المياه، فأسهب في سرد إيجابيات مشروع تبطين الترع، ثم وجه كلامه للمواطنين قائلاً: "لازم نخلي بالنا من كل نقطة مياه من الموجودة عندنا". وقصد السيسي ترشيد الاستهلاك وعدم الإضرار بالترع والمصارف وإلقاء القمامة في الترع التي تم تبطينها حديثاً، ويبلغ طول المرحلة الأولى منها 20 ألف كيلومتر، وتغيير نظم الري لتصبح أكثر قدرة على توفير المياه.
ترددت مصر في طرح الحل العسكري خلال المفاوضات خشية من سلبيات دبلوماسية
وتعليقاً على حديث السيسي والتوجهات المستقبلية التي أعلنها وزير الخارجية سامح شكري بدراسة مصر والسودان اللجوء مجدداً إلى مجلس الأمن، قالت مصادر دبلوماسية وحكومية مصرية لـ"العربي الجديد"، إن أجهزة النظام رصدت تصعيداً في الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، بناء على خطاب السيسي السابق. واعتبرت أنه كان من المهم للخيار العسكري أن يُطرح على طاولة المفاوضات مع الإثيوبيين، لكنه في الوقت ذاته، ربما تكون له سلبيات دبلوماسية، خصوصاً أن الإثيوبيين ركزوا في اتصالاتهم بالعواصم الغربية خلال الأسبوع الماضي على تعرضهم للتهديد العسكري، وهو ما لا تسمح به الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين بطبيعة الحال.
وأضافت المصادر أن السيسي يدرك جيداً طبيعة التصورات الغربية والشرقية للوضع في شمال أفريقيا وشرقها، وأن العمل العسكري ستكون له عواقب كبيرة، لكن الهدف الأساسي من التلويح، وهو تحريك تلك القوى، لم يتحقق بعد. وكشفت عن تباين في وجهات النظر داخل دائرة صنع القرار المحيطة بالسيسي، حول مدى فاعلية الاستمرار في الحل الدبلوماسي التفاوضي بالتوجه إلى مجلس الأمن الدولي، أو اتخاذ إجراءات دبلوماسية أيضاً، ولكنها أكثر صرامة مثل الانسحاب من اتفاق المبادئ، أو اللجوء لتصعيد عسكري قبل الملء الثاني.
وبحسب المصادر، فإن البعض يتبنّى الاستمرار في الخطة المعدة سلفاً باللجوء لمجلس الأمن في شهر إبريل/نيسان الحالي، التي كان متفقاً عليها مع السودان قبل تدخل الكونغو الديمقراطية، ودعوتها لجولة مفاوضات جديدة. في المقابل، يرى البعض أنه يجب إلغاء اتفاق المبادئ وتعرية الموقف الإثيوبي المستند إليه. ويعتبر آخرون أن النهج الإثيوبي المتعنت مستمر، ويسعى لمواصلة أكبر قدر من المماطلة حتى يفرض الأمر الواقع مع حلول موعد الملء الثاني، ووقتها لن يكون أمام مصر الكثير من الخيارات، وبالتالي فإن الحل الأنجع من وجهة نظرهم، هو التعجيل بالخيار العسكري بالتنسيق مع السودان، وهو ما يعتبره السيسي "حلاً مكروهاً".