مهّد توالي الأزمات والتضييق الاقتصادي الكبير في عموم سورية ومنها محافظة السويداء جنوبي البلاد، والناجم عن القرارات المتخبطة لحكومة النظام السوري، لاحتقان شعبي في المحافظة كان جاهزاً لينفجر في أية لحظة، ليكون نواة لانتفاضة صغرى كبرت شيئاً فشيئاً، لتشكل حراك السويداء الشعبي، الذي بدأ قبل 6 أشهر ولا يزال مستمراً حتى اليوم، وإن كانت بعض الشكوك باتت تخرج حول عزائم المشاركين به من أن يصيبها الملل مع عدم الوصول للأهداف.
وبعد حوالي 200 يوم على الحراك، لا يزال النظام يراهن على انتهاء الاحتجاجات بعد محاولة تفتيته بطرق عدة، لا سيما محاولة جر المحتجين إلى العنف واستخدام السلاح، ليتوفر له مبرر القضاء عليه، فيما لم يستطع حتى الآن العبور من هذا الجانب. وقد استخدم النظام، السلاح لأول مرة خلال الحراك، في منتصف سبتمبر/ أيلول الماضي، حين أصاب رصاص مسلحين ينتمون إلى حزب البعث، 3 أشخاص من المتظاهرين.
في المقابل لا يزال المحتجون مستمرين في لعبة عض الأصابع معه، والتي يدركون أنها ربما تطول، لكنهم يرفضون العودة عن حراكهم حتى تحقيق مطالبهم، بحسب الكثيرين ممن التقت بهم "العربي الجديد".
انطلاقة حراك السويداء
وانطلق حراك السويداء مشابهاً للعديد من التحركات التي سبقته، فيما كانت شرارته احتجاج سائقي وسائل النقل العامة على رفع أسعار المحروقات، في 15 أغسطس/ آب الماضي. وبعد محاولة الالتفاف على الحراك من قبل سلطات النظام، بمراضاة السائقين على حساب المواطنين، جاءت الدعوات من قبل الشارع للإضراب والاعتصام في 17 من الشهر ذاته، لتشمل الاحتجاجات في ما بعد عموم محافظة السويداء، ومركزيتها ساحة "الكرامة" وسط مدينة السويداء، مركز المحافظة.
وللمحافظة خصوصية من بين المحافظات السورية الأخرى، كون سكانها في غالبيتهم ينتمون لطائفة الموحدين الدروز، فلم يستطع النظام التعامل معها بالبطش الأمني المعهود وإيجاد مبرر إلصاق تهم الإرهاب والجماعات المتشددة بالمتظاهرين، فدفع بمجموعات تابعة لحزب البعث لمحاصرة الحراك.
لكن المحتجين هاجموا مقار الفرق والشعب الحزبية، وأغلقوها في 18 أغسطس، ليكرّس اليوم الأول في الحراك الحالي، إذ شهدت ساحة الكرامة حينها تظاهرة كبيرة طالبت بإسقاط النظام، ودعت للانتقال السياسي وتطبيق القرار الأممي 2254.
وهو القرار الذي أصدره مجلس الأمن الدولي عام 2015، "لتحقيق عملية الانتقال السياسي بهدف إنهاء النزاع في سورية".
كما نصّ على "تشكيل هيئة حكم ذات مصداقية، وتشمل الجميع وغير طائفية"، و"اعتماد مسار صياغة دستور جديد لسورية في غضون 6 أشهر"، ودعم إجراء "انتخابات حرّة ونزيهة على أساس الدستور الجديد في غضون 18 شهراً تحت إشراف الأمم المتحدة".
وكان تأييد رؤساء طائفة الموحدين الدروز في البلاد، نقطة فارقة في دفع الحراك، إذ أعلن شيخ العقل الأول في سورية حكمت الهجري مناصرته للحراك وتأييد مطالب المحتجين، وبالمثل فعل الشيخ الثاني للطائفة حمود الحناوي، فيما أيد الرئيس الثالث للطائفة يوسف جربوع المطالب المعيشية، نائياً بنفسه عن المطالب السياسية ذات السقف المرتفع.
وعن البدايات في الحراك، تشير الناشطة الحقوقية سلام عباس، إلى أنه "لا يمكن الاستخفاف بالحياة المعيشية للمواطن في أي بقعة جغرافية في العالم، لأن الانفجار سيأتي لا محالة"، معتبرة في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "ما حدث منتصف أغسطس الماضي، وأدى لامتداد الحراك وإطالة مدته، أمر متوقع، ومنطقي".
وتضيف: "حاولنا نحن أهل السويداء خلال السنوات الماضية أن نكون مسمار الأمان في البلاد ونجحنا في ذلك، فناصرنا الحراك السوري منذ بدايته ورفضنا القتل والقتال ضد أي سوري، واليوم نحن نكمل ما مشى عليه إخوتنا من باقي المحافظات، ولن نتراجع حتى تحقيق الانتقال السلمي للسلطة وتغيير المنظومة الحاكمة بالحديد والنار والقتل والذبح، وبسلميتنا فقط".
إرهاصات ما قبل حراك السويداء
وشهدت المحافظة، منذ العام 2019، تحركات عدة على خلفية تردي الأوضاع المعيشية في عموم سورية والمحافظة، والتي يعتبر الكثير من أبنائها من الموظفين في الدولة، والذين وجدوا رواتبهم الشهرية لا تكفيهم لأيام.
يأتي ذلك وسط التضخم وانخفاض قيمة الليرة أمام العملات الأجنبية، وبالتالي انخفاض القيمة الشرائية، بالإضافة إلى الغلاء والتحكم بالأسعار من قبل النظام، علاوة على نشر الفوضى المتعمد كمدخل لاستمرار فرض السطوة.
الناشط هاني عزام: سلطات النظام السوري لا تملك شيئاً، لا من الناحية الإدارية ولا الشرعية
ويشير الناشط المدني هاني عزام، وهو أحد أبناء السويداء، إلى أن "سلطات النظام السوري باتت غير قادرة على تسيير أمور البلاد المعيشية والخدمية"، مضيفاً في حديث لـ"العربي الجديد"، أنها "لا تملك شيئاً، لا من الناحية الإدارية ولا الشرعية، ولذلك لا بد لها أن ترحل".
ويعتبر عزام أن "السلطة، من خلال استكبارها وتعنتها، أوصلت البلاد إلى حالة اقتصادية لا ترقى بمستوى الشعب السوري الحضاري، لذلك من حقه أن تتغير هذه المنظومة، ويُعاد بناء الدولة وفق تطلعات الشعب بمنأى عن أي شيء آخر".
المرأة والفن... سمات لحراك السويداء
وكان حضور المرأة سمة رئيسية في حراك السويداء الأخير، وحتى كل التحركات السابقة التي رافقت الحراك الرئيسي في سورية منذ العام 2011. لكن في الحراك الحالي كان زخم حضور نساء محافظة السويداء واضحاً، حتى تصدرن المشهد.
ولم تسهم نساء السويداء بالاحتجاج فحسب، بل في تنظيم التظاهرات والاعتصامات وإدارة نشاطاته، ما دفع النظام إلى محاولات تشويه سمعة النساء المشاركات في الحراك عبر أدوات عدة.
الناشط بيان الحناوي: شكلت النساء، ولا زلن، العمود الفقري لحراك السويداء
ويقول الناشط السياسي والضابط المعتقل السابق، بيان الحناوي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن النساء "شكلن ولا زلن، العمود الفقري للحراك، ولوجودهن فضل كبير على ثبات الساحة وموقف إخوتهن من الرجال والشباب".
وكذلك كان للفن في حراك السويداء بصمته ودوره في إيصال رسالة محافظة السويداء للعالم أجمع، إذ سعى عدد من فنانيها عبر مواهبهم المتعددة، لبلورة الحراك بصيغة فنية راقية وحضارية. فقد حضرت رسوم الكاركاتير واللوحات الفنية، بالإضافة إلى اليافطات التي قُدمت مع عباراتها بطرق فنية مختلفة.
ويشير الرسام والنحات علي حرب، إلى دور الفن في صناعة وتحفيز الرأي العام بخفة ظله على القلوب من دون مواربة أو مهاترة أو تنميق أو تملق. ويقول لـ"العربي الجديد" إن "كل ثورات العالم التي انتصرت كان للفن يد في انتصارها".
التجمعات المهنية والأجسام السياسية
ومع دخول الحراك شهره الثاني، بدأ الناشطون السياسيون العمل على تشكيل تكتلات وأحزاب وتيارات تتفق مع الهدف الرامي للتغيير السياسي، وإن اختلفت أفكارها، لينبثق من الحراك أكثر من 20 جسماً سياسياً ونقابياً.
لكن الآراء في شارع المحافظة انقسمت بين مؤيد ومعارض لهذه الأجسام، مخافة حدوث شرخ في الساحة سيستغله النظام، وهو ما حاول فعلاً، ليتدارك المحتجون الأمر مطالبين بتشكيل جسم موحد، تذوب فيه جميع الأجسام القائمة، لتبقى الساحة الحكم في اتخاذ أي إجراءات حيال أي مستجد.
ويرى الناشط المدني أيمن صعب، أن حالة التعددية التي شهدتها المحافظة عبر الحراك وانبثاق الأجسام السياسية "حالة صحية، وهي من أكثر الحالات التي أغاظت النظام الذي اعتاد على حكم المواطنين بفكر واحد شمولي متسلط".
الناشط أيمن صعب أخذ على بعض المتحزبين تزمتهم لأفكارهم ومحاولة بثها في ساحة التظاهر
لكن صعب يأخذ، في حديث لـ"العربي الجديد"، على "بعض المتحزبين تزمتهم لأفكارهم ومحاولة بثها في الساحة (التظاهرات)، وادعاء تبني الحراك كاملاً من خلالها"، مشيراً إلى أن "من الضروري العمل باتزان بين التوجه الخاص ومحاولة احتوائه بالتوجه العام، وليس العكس".
من ناحية أخرى، سعى أصحاب الاختصاصات والمهن والحرف المشاركون في الحراك إلى تشكيل تجمعات مهنية شكلت نقلة نوعية في مسار الحراك، وزادت وهج صبغته المدنية، ما لبثت جميعها بعد انطلاقتها بشهر أن شكلت تجمعاً يضم جميع التجمعات المهنية مثل الفلاحين والعمال، إلى جانب الاختصاصات العلمية (معلمين وحقوقيين ومهندسين وصيادلة وأطباء)، ما أضاف صبغة نقابية للتجمع.
ويلفت الناشط السياسي عصام خداج إلى أن التجمعات النقابية كانت "صلة الوصل بين شرائح المهنيين على مختلف اختصاصاتهم من دون تمييز، ما ينفي صفة النخبوية المطلقة عن الحراك، وصبغة الشعبية المطلقة، ليمزج بين مكونين لا غنى لأحدهما عن الآخر".
ويقول لـ"العربي الجديد"، إن "الحضارة لا يمكن الوصول إلى قمتها إلا من خلال التجمعات التي تتصف بالمدنية، لأنها تضمن حقوق الجميع وواجباتهم، كما تضمن حريتهم".