سؤال الخريطة السياسية الصهيونية

30 يونيو 2024
من احتجاجات المطالبة باسقاط حكومة الاحتلال في تل أبيب (جاك جويز/فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- تواجه الصهيونية وإسرائيل أزمة سياسية وعملية معقدة، مع تسعى الوكالة اليهودية لتعزيز الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، في ظل الحروب وترويج معاداة السامية كحافز للهجرة، وتقديم محفزات مالية للمهاجرين.
- خطة الهجرة والاستيطان تتزامن مع دعم غربي قوي، خصوصاً من الولايات المتحدة، وسط تصاعد العمليات العسكرية والقتال، مما يؤدي إلى ارتفاع في أعداد الضحايا والدمار، وضغوطات لإيجاد مخرج للحرب.
- تحول في الخريطة السياسية للصهيونية من العلمانية إلى الدينية، مع تزايد التأييد لفلسطين وانتقاد الصهيونية. تواجه إسرائيل تحديات اقتصادية وأمنية، مما يثير تساؤلات حول استمرارية المشروع الصهيوني وإمكانية تجديد الدعم الغربي.

تواجه الصهيونية ومنتجها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول أزمةً سياسيةً وعمليةً. تروج الوكالة اليهودية بقوّةٍ، وهي الأداة التنفيذية للصهيونية، أو بالأحرى الحكومة الرسمية للمنظّمة الصهيونية، لأهمّية رفد إسرائيل بمزيدٍ ومزيدٍ من المهاجرين اليهود، من كلّ أصقاع العالم، ليحموا "المشروع"، ألا وهو "دولة إسرائيل". وبالرغم من حالة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، والحرب على الجبهة الشمالية مع لبنان، فإنّ هذه الوكالة تروِّج بواسطة هيئاتٍ صهيونيةٍ أخرى لرواية انتشار وتفشي ظاهرة معاداة السامية في أوروبا وأميركا، وأنّ الحلّ، كما كان في السابق، هو تكثيف الهجرة إلى إسرائيل، لأنّ موجات الهجرة، حتّى قبل 7 أكتوبر، شهدت تراجعًا مقارنةً مع عقودٍ سابقةٍ، إلّا أنّ هذه المؤسّسات تستخدم محفِّزاتٍ ماليةً تشجيعيةً للمهاجرين، مثل السكن المجاني، وتوفير أماكن للعمل في مستوطنات الضفّة الغربية والنقب والجليل، ولاحقًا في غلاف غزّة، عندما تتم عملية العودة إلى مستوطنات هذا الغلاف بعد انتهاء الحرب.

لا تتمّ خطة الهجرة والاستيطان بمعزلٍ عن عملية "طوفان الأقصى"، إذ إنّ زعماء الغرب، وفي مقدّمِهم الرئيس جو بايدن وإدارته، قد أعلنوا أنّه من حقّ إسرائيل الدفاع عن النفس، وهم بهذا يصرحون بوضوحٍ تامٍ بأنّ مشروع إسرائيل، وهو منتج الصهيونية السياسية، في خطرٍ وجوديٍ واضحٍ للعيان، وإذا انهار هذا المشروع، فهذا يعني انهيارًا مريعًا للمشروع الكولونيالي في الشرق الأوسط، الذي أسّست له بريطانيا وفرنسا، وورثته الولايات المتّحدة.

مع تقدُّم العملية العسكرية، التي تقودها إسرائيل، واتساع دائرة القتال، والارتفاع المستمر في أعداد القتلى والجرحى الفلسطينيين، والدمار الذي حلّ بقطاع غزّة، وتحرُّك المعارضين والمنددين بالحرب في الغرب خاصّةً، بدأت حكوماتٌ غربيةٌ بالمطالبة بإيجاد مخرجٍ للحرب، منعًا للحكم على إسرائيل بأنّها تنفذ إبادةً جماعيةً، وأيضًا للحفاظ على مشروعها وصورته المؤنسنة.

قام المشروع الصهيوني، ولا يزال، على قاعدة التطهير العرقي، هذا ما حصل عام 1948، وهذا ما يحصل حاليًا في قطاع غزّة

يرى عددٌ من الباحثين في الشأن الإسرائيلي من غير الصهاينة، أنّ هذه الحرب هي مرحلةٌ رئيسةٌ في نهاية المشروع الصهيوني، ومنهم المؤرخ إيلان بابيه.

الادّعاء بأنّ إسرائيل تعيش منذ تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو الحالية، في نهاية 2022 وحتّى 7 أكتوبر، في أزمةٍ داخليةٍ حول موضوع التغييرات القضائية، التي اتسعت وكادت أن تمزّق الشعب الإسرائيلي، هو أمرٌ غير صحيحٍ، فهي حكومةٌ صلبةٌ من حيث تماسك مكوناتها الائتلافية النفعية، إذ إن الأحزاب اليمينية والدينية المتطرفة تتحكّم بمساراتها وتوجهاتها، بل هناك محاولاتٌ مستمرةٌ منها لفرض أجندتها الفكرية على المشهد العام في إسرائيل. من الواضح والثابت أنّ هناك تحولاتٌ في خريطة طريق الصهيونية من سياسية إلى اتساع مساحة حضور الصهيونية الدينية، وتمسكها بتلابيب النصوص الدينية، وهذا بطبيعة الحال سيؤدي إلى تحولاتٍ في شكل ومحتوى المشروع الصهيوني من سياسي علماني إلى ديني متزمت.

تواجه الصهيونية عامّةً اتساع مساحة تأييد فلسطين والقضية والشعب الفلسطيني. هذه المرّة الأولى، وغير المسبوقة من حيث توقيتها، ومحتواها الداعي إلى تحرير فلسطين من البحر إلى النهر. حتى أنّ أصواتًا يهوديةً غير صهيونيةٍ في أوروبا والولايات المتّحدة تنادي بهذا الشعار.

من جهةٍ أخرى، أدركت دولٌ وشعوبٌ أنّ الصهيونية لم تعد مشروع تحريرٍ، كما تروّج له الرواية الإسرائيلية، وتجديد علاقة الشعب اليهودي مع أرضه وموطنه الأصلي، بل هي حركة فصلٍ عنصريٍ، وصولًا إلى نظام أبارتهايد شبيهٍ بجنوب أفريقيا سابقًا، وقابضٍ على 7 ملايين فلسطيني في فلسطين التاريخية.

لقد سدّدت عملية 7 أكتوبر ضربةً للاقتصاد الإسرائيل، المستند إلى دعمٍ خارجيٍ، سواء من الولايات المتّحدة أو من دولٍ أوروبيةٍ. إذ وجه المجهود المالي لتغطية نفقات الحرب، على حساب المشاريع الاقتصادية، ما يؤدي إلى جمودٍ، وبالتالي إلحاق ضررٍ، والمشروع الصهيوني مؤسّسٌ على قوّةٍ ماليةٍ، وهيمنةٍ اقتصاديةٍ في قطاعاتٍ اقتصاديةٍ وماليةٍ كثيرةٍ في العالم.

كشف السابع من أكتوبر عن إخفاق الجيش (يُعرف بـ"جيش الشعب") في توفير الحماية لمواطنيه، وهو الجيش الذي يهدف إلى ردع أيّ طرفٍ معاد للمشروع الصهيوني. ومن جهةٍ أخرى، لا يملك هذا الجيش القدرة على حماية إسرائيل، لا في الجنوب ولا في الشمال.

باعتقادنا أنّ الصهيونية، كما دول الغرب، لن تتخلى عن مشروعها "إسرائيل"، على الرغم من إخفاق حكومتها في حماية المشروع

كذلك جنحَ يهودٌ أفرادٌ وجماعاتٌ في أميركا عن تأييد إسرائيل، حين كانوا متأثرين بالدعاية الصهيونية، إلى تأييدهم فلسطين، وحقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم. إذ رأينا جمعياتٍ ومؤسساتٍ يهوديةً مناهضةً للمشروع الصهيوني تميل إلى دعم المطالب الفلسطينية.

أما الصهيونية السياسية؛ فترى أهمّية ومكانة حقّ اليهود في إقامة دولتهم في فلسطين من منطلق اعتبار فلسطين حقًّا من حقوق الشعب اليهودي، سواء الدينية، كما تنصُّ عليها التوراة، أو كحقٍّ سياسيٍ. عِلمًا أنّ الصهيونية ليست حركةً دينيةً بل علمانيةٌ، أو حتّى ملحدةٌ حسب بعض التعريفات. نجحت الصهيونية في خلط الأوراق بين السياسي والديني، ما عزّز مشروعها الاستيطاني الاقتلاعي والإحلالي في فلسطين، الموجه ضدّ الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه.

قام المشروع الصهيوني، ولا يزال، على قاعدة التطهير العرقي، هذا ما حصل عام 1948، وهذا ما يحصل حاليًا في قطاع غزّة. قُتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين، أطفالٌ ونساءٌ وأبرياء، بذريعة أنّ كلّ القطاع مسؤولٌ عن عملية 7 أكتوبر. وبالتالي دمرت المباني، والبنى التحتية، والمؤسسات الثقافية والتجارية والتعليمية وغيرها لمنع عودة الفلسطينيين في قطاع غزّة إلى ديارهم. وأيضًا طاول القتل الأطفال والنساء منعًا لتجدد الحياة واستمراريتها. وهذا بحدّ ذاته مسعىً لتحقيق تفوقٍ ديموغرافيٍ يهوديٍ على الفلسطيني.

هناك من متابعي تطور خريطة السياسة الصهيونية مَن يعتقد بتجديد فكرة "الجدار الحديدي"، التي طرحها زئيف جابوتنسكي، الأب الروحي والسياسي لمناحيم بيغن، زعيم حزب حيروت/ الليكود في عشرينيات القرن الماضي. هذا يعني متلازمة الفصل العرقي بين الشعبين اليهودي والفلسطيني، ما يوفر حياةً نقيةً ونظيفةً لليهود. هذا بحدّ ذاته فكرٌ صهيونيٌ يبجّل ويقدّس النوع والعرق اليهودي على حساب العربي الفلسطيني في فلسطين.

كما يعني الجدار الحديدي في ما يعنيه إبعاد اليهود عن ساحات اللاسامية في الغرب، بواسطة إقامة دولةٍ يهوديةٍ في فلسطين، بعد وضع أسسها الفكرية والاقتصادية والسياسية. لكن بيّنت الخريطة السياسية الصهيونية في الآونة الأخيرة أنّ المخاوف والتهديدات، التي لاحقت اليهود في الغرب، ما زالت قائمةً، وإن اتخذت شكلًا مغايرًا، فالجدار الحديدي ما زال راسخًا في العقل اللاواعي اليهودي.

تطرح في السياق ذاته أسئلةً صعبةً عن شكل ومضمون هذه الخريطة، فمن جهةٍ أراد هرتسل، أبو الصهيونية، جوابًا آنيًا للاسامية، مدركـًا أنّ اليهود بوصفهم أفرادًا لم ينجحوا في حالاتٍ كثيرةٍ في الوصول إلى جوابٍ شافٍ للاسامية، على الرغم من أنّهم ساروا في درب الاندماج داخل مجتمعات الغرب. وآمن هرتزل أنّه إذا نجح اليهود في التجمُّع في مكانٍ ما "دولة" وفي أن يكونوا شعبًا مشابهًا لسائر شعوب الأرض، فإنّ اللاسامية ستجد طريق نهايتها.

يرى عددٌ من الباحثين في الشأن الإسرائيلي من غير الصهاينة، أنّ هذه الحرب هي مرحلةٌ رئيسةٌ في نهاية المشروع الصهيوني

يعود السؤال هنا إلى ما قبل 7 أكتوبر: هل نجحت إسرائيل باعتبارها دولة (أداةٍ للصهيونية) في تحقيق حلم هرتزل؟ ما نراه أنّ الصهيونية وإسرائيل تواجهان العكس، فلا وجود لظاهرة كراهية اليهود لأنّهم يهودٌ، بل نقدٌ لاذعٌ لدولة إسرائيل، وانتقادًا لسياسات حكومتها. حتّى أنّ يهودًا منتشرين في العالم يوجِّهون نقدًا لاذعًا لحكومة إسرائيل، لكونها تُشكِّل خطرًا على وجودهم، وسير حياتهم اليومي في الأماكن يعيشون فيها.

هذا يعني أنّ الرّد على اللاسامية هو الأساس الدافع لتأسيس الصهيونية السياسية، فقد بلور في العقود الأخيرة، وأيضًا بعد 7 أكتوبر نوعًا جديدًا فيه إعادة دمج الديني والسياسي. ولكن بقي الصراع محتدمًا بين التيارين الصهيونية السياسية والصهيونية الدينية في قضايا منفردةً، الجمع بين الطرفين من منطلق وجود خطرٍ وجوديٍ على الشعب اليهودي وعلى إسرائيل.

ما نراه على أرض الواقع أنّ الخريطة السياسية الصهيونية قد استبدلت فكرتها الأساسية في توفير حمايةٍ وجوديةٍ لليهود في إطار الدولة، بأزمةٍ وجوديةٍ من نوعٍ آخر، من نوع الاستعداد لإيجاد حلٍّ للفلسطينيين، على قاعدة عدم تحمل مسؤولية النكبة وإنكارها المستمر، وتحميل الضحية كامل المسؤولية، وتطبيق عمليات طردٍ واقتلاعٍ. السؤال هنا: هل تستطيع الصهيونية في الإطار الراهن الاستمرار في توفير غطاءٍ حامٍ سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا لإسرائيل؟

باعتقادنا أنّ الصهيونية، كما دول الغرب، لن تتخلى عن مشروعها "إسرائيل"، على الرغم من إخفاق حكومتها في حماية المشروع. ما ستسعى إليه الصهيونية السياسية هو إعادة ترميم مستوطنات غلاف غزّة، والحدود الشمالية وتوسيع الاستيطان هناك، وفي مناطق أخرى، بما فيها الضفّة الغربية، للحيلولة دون قيام دولةٍ فلسطينيةٍ.

وفي المسار الموازي، ستسعى الصهيونية السياسية إلى إعادة بناء وهيكلة الرواية الصهيوإسرائيلية، بأنّ اليهودي أُلزِمَ بخوض درب آلامٍ صعبٍ لكونه ضحية، وعليه الاستمرار في شيطنة عدوه "الفلسطيني"، باعتبار إرهابيًا ويُمثّل حجر عثرةً أمام وجود وبقاء الشعب اليهودي، صاحب الحقّ في فلسطين. وأيضًا سترمم الصهيونية السياسية صورة إسرائيل بأنّها وجود وحضور "الأبيض" الراقي والمتقدِّم والمتطور في منطقةٍ متخلفةٍ ورجعيةٍ.

يبقى السؤال المركزي هنا: هل ستتفاعل المنطقة العربية والإسلامية من الناحية السياسية، وليس الدينية، في مواجهة هذا المشروع الصهيوني المتجدد؟ أم أن بعض دولها ستسعى مهرولةً إلى التطبيع معه، حرصًا على مصالحها الضيقة، وعلى بقائها.

المساهمون