أنهى قائد أركان الجيش الجزائري السعيد شنقريحة، أول من أمس الخميس، زيارة إلى فرنسا استمرت أربعة أيام، هي الأولى من نوعها منذ 17 عاماً، بعد فترة خلافات سياسية وتوقف لأفواج العمل المشتركة بين الجيشين، منذ إبريل/نيسان 2021.
لكن هذه الزيارة التي تأتي قبل أربعة أشهر من زيارة مرتقبة للرئيس عبد المجيد تبون إلى باريس، تثير الكثير من القراءات السياسية والأمنية حول مدى التوافق على إعادة بناء العلاقات التعاون الأمني والعسكري بين البلدين على ضوء التطورات الأخيرة، خصوصاً في منطقة الساحل الأفريقي (تضمّ مالي، بوركينا فاسو، النيجر، تشاد، موريتانيا)، حيث سيتمدد الدور الجزائري في مقابل انسحابات فرنسية متتالية من المنطقة.
وكشفت مصادر جزائرية مسؤولة لـ"العربي الجديد" أن الجزائر وباريس تقتربان من الاتفاق على اثنين من أبرز الملفات العالقة بين البلدين، تمت مناقشتها خلال زيارة شنقريحة إلى باريس، ولقائه قائد الجيوش الفرنسية تييري بوركار.
وتخصّ تلك الاتفاقات التفاهمات على "استعادة تدريجية للأرشيف الجزائري المنهوب من باريس، وتسليم وزارة الدفاع الفرنسية لنظيرتها الجزائرية، الخرائط الطوبوغرافية الخاصة بالتفجيرات النووية الفرنسية التي حصلت في الصحراء الجزائرية (ذكرت مجلة ذا أرتشيتيكشوال ريفيو البريطانية في يونيو/حزيران 2022، أن فرنسا أجرت 17 تجربة نووية في الصحراء الجزائرية بين عامي 1960 و1966)، وأماكن دفن النفايات النووية، والتفاهم على آليات تطهيرها".
وهي الخرائط التي كان قائد الجيش الجزائري قد طالب بها خلال زيارة قام بها قائد الجيوش الفرنسية إلى الجزائر في إبريل 2021، قبل أن تعطل الخلافات السياسية التي تلت الفترة اللاحقة اجتماعات لفوج عمل عسكري بين البلدين. وأفاد بيان لوزارة الدفاع الجزائرية الخميس، بأنه "تم التوقيع على ورقة طريق مشتركة تخص التعاون الأمني والعسكري" بين البلدين.
تفاهمات الساحل
لكن هذه التفاهمات، وعلى أهميتها كمكاسب بالنسبة للجانب الجزائري، تبقى هامشية مقارنة بالغايات الاستراتيجية للزيارة التي تخص قضايا الدفاع والأمن والتنسيق الاستخباراتي من جهة، وإعادة رسم التوازنات في منطقة شمال أفريقيا والساحل من جهة أخرى.
ويبرز في الفترة الأخيرة تحفز جزائري كبير ودعم غير مباشر لحراك القومية الأفريقية والتظاهرات المناهضة في عدد من الدول لدفع فرنسا خارج منطقة الساحل، والحد من تأثيرها في المنطقة التي تهم الجزائر كلياً ضمن مقتضيات أمنها القومي، خصوصاً بعد اتهامات في مالي وبوركينا فاسو لفرنسا عن تورطها في استخدام الجماعات المسلحة أو تسهيل نشاطها لتبرير وجودها في المنطقة.
اتفاق مرتقب بشأن تسليم الأرشيف الجزائري وخرائط التجارب النووية
وينبه خبراء إلى أن زيارة قائد الجيش الجزائري يمكن وضعها في إطار الجغرافيا السياسية المتحولة في المنطقة، إذ تحاول فرنسا الاعتماد على الجزائر للحفاظ على الحد الأدنى من مصالحها في منطقة الساحل بعد موجة الرفض التي تواجهها. وتُعدّ هذه المنطقة حيوية بالنسبة لباريس خصوصاً بسبب توفر اليورانيوم في النيجر ومالي تحديداً، الذي تحتاجه فرنسا لتشغيل مفاعلاتها النووية.
وقال الباحث الجزائري في مركز "أورسام" للدراسات في إسطنبول، عمر روابحي، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، إن "النخب الفرنسية مدنية كانت أو عسكرية، لا تفتأ في الفترة الأخيرة تعبر عن صدمتها إزاء الوضع الجيوسياسي المترهل والمتراجع الذي وصلت إليه فرنسا، وهم يراقبون الانسحاب والخروج من مناطق النفوذ التقليدية لفرنسا".
ورأى أن "أفريقيا تتغير على المستوى الداخلي نخباً وشعوباً"، مضيفاً أن "الوضع الجيوسياسي الدولي مؤات أيضاً لتغيرات جذرية جعلت فرنسا تخسر الكثير، وتبدو عاجزة اقتصادياً أمام النفوذ الصيني المتعاظم، وعسكرياً وأمنياً أمام التغلغل الروسي المتمدد، وثقافياً أمام إعادة اكتشاف الدول الأفريقية، لا سيما في غرب أفريقيا، للهويات المحلية وللإمكانات الثقافية ضمن المنظومة الأنغلوسكسونية".
ورأى روابحي أنه "في ظل كل هذه التطورات، تحاول فرنسا الرسمية الاعتماد على الجزائر لفتح الأبواب الأفريقية التي باتت تغلق في وجهها، ومحاولة توظيف علاقات الجزائر مع بوركينا فاسو المتينة في التخفيف من حدة الزخم المعادي لفرنسا المتنامي في بوركينا فاسو، والذي وصل إلى حد إمهال القوات الفرنسية مدة شهر لمغادرة البلاد".
ويفسر ذلك حسب قوله "لقاء الرئيس الفرنسي بقائد الأركان الجزائري في لقاء مباشر نادر، ما يدلّ على رغبة السلطات الفرنسية في تفعيل دبلوماسية التواصل المباشر مع أهم مركز من مراكز القوى في النظام السياسي الجزائري. مركز يقوده حالياً الجناح المقرب من روسيا، لعلّ وتيرة الانتكاسات الأمنية والعسكرية الفرنسية تخف، ويسهم الطرف الجزائري العائد بقوة لتأدية أدوار إقليمية في الجوار العربي والأفريقي في تخفيف حدة هذه الانتكاسات".
عمر روابحي: تحاول فرنسا الرسمية الاعتماد على الجزائر لفتح الأبواب الأفريقية
وفي هذا السياق، يُطرَح سؤال مهم حول طبيعة الملفات التي يفاوض من أجلها الجانب الجزائري، وهي ملفات كثيرة ومتداخلة. وقد أضافت تداعيات الحرب في أوكرانيا ومشكلات الطاقة، نقاط ارتكاز مهمة بالنسبة إلى الجزائر في التفاوض مع باريس، حول قضايا استعادة سلة من الحقوق التاريخية بالنسبة للجزائر، كالأرشيف وما تبقى من جماجم المقاومين الموجودة في متحف الإنسان في باريس، وخرائط التفجيرات النووية، ومسؤولية فرنسا في تطهير منطقة التفجيرات، إضافة إلى وضع نقاط تماس للتحرك الفرنسي في منطقة الساحل يمر عبر الجزائر.
وتضمن الأخيرة من خلال ذلك دوراً مركزياً في ترتيب الجغرافيا السياسية والأمنية للمنطقة، إضافة إلى مسائل التنسيق في مجالات مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، الحد من استغلال ناشطين جزائريين للأراضي الفرنسية لمحاولة زعزعة الاستقرار الداخلي للبلاد.
سياقات زيارة قائد الجيش الجزائري
من جانب آخر، يضع المحلل السياسي حسن خلاص زيارة قائد الجيش الجزائري إلى باريس، ضمن سياقين سياسيين، وقال لـ"العربي الجديد"، إن السياق الأول تفرضه المقتضيات التقنية، "تطبيقاً لبنود إعلان الجزائر في أغسطس/آب الماضي، حين أدرج البعد الأمني في صدارة أولويات التنسيق والتعاون بين البلدين ضمن الخريطة الجديدة في ما صار يعرف الآن باللجنة العسكرية والأمنية المشتركة التي تنعقد دورياً كل عامين وتقدم تقارير للقادة حول التطورات سيما مع الانسحابات المتكررة لفرنسا من منطقة الساحل والصحراء".
أما السياق الثاني، وفق خلاص، فهو "أن الزيارة تأتي قبيل زيارة دولة سيقوم بها تبون إلى فرنسا في مايو/أيار المقبل، ويبدو أن التعاون الأمني والعسكري من أولى اهتمامات هذه الزيارة".
وأضاف خلاص أن "الجزائر بحاجة إلى دعم تقني ولوجستي وسياسي من فرنسا للقيام بدور بهدف تفادي أي انفلات في المنطقة، خصوصاً في ظل الصراعات الجيوستراتيجية القائمة، ما يعني أن الجزائر لا تريد وضع كل بيضها في سلة واحدة". ولفت إلى أن "البعد العسكري والأمني لم يعد معزولاً عن الأبعاد الأخرى، ويريد الرئيسان ماكرون وتبون وضع إطار دائم ينظّم العلاقات الثنائية ويكون قادراً على الصمود بعد انتهاء فترتي حكمهما، لهذا من المنتظر أن تكون الاتفاقات ذات بُعد استراتيجي بعيد المدى".
وتزامناً مع زيارة قائد الجيش الجزائري، كان هناك حراك سياسي بين البلدين، إذ عُقدت الدورة التاسعة للمشاورات السياسية الجزائرية الفرنسية برئاسة الأمين العام لوزارة الشؤون الخارجية عمار بلاني، ونظيرته الأمينة العامة للوزارة الفرنسية لأوروبا والشؤون الخارجية، آن ماري دي كوت، الخميس الماضي، تحضيراً لملفات الزيارة التي سيقوم بها تبون إلى باريس في مايو المقبل.