"الصين هي أهم شريك سياسي لروسيا"، و"حجم التبادل التجاري بين البلدين في ازدياد مستمر"، و"بكين تدعم موسكو في خلافها مع الغرب"، تلك هي الخطوط العريضة للصورة التي يقدم بها الخطاب الإعلامي والرسمي الروسي وضع العلاقات بين البلدين، بينما يشكك خبراء في الشؤون الصينية في قوة الاصطفاف الروسي الصيني، معتبرين إياه أقرب إلى شراكة يغلب عليها الطابع التجاري قبل السياسي، ولا ترقى إلى التحالف الاستراتيجي.
ومنذ بدء الحرب الروسية المباشرة على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي، امتنعت بكين عن التصويت في المحافل الدولية لصالح أي قرار يدين موسكو، ولم تنضم إلى أي عقوبات اقتصادية أو قيود تجارية بحقها، فيما اقتصر عونها لأوكرانيا على مساعدات إنسانية بقيمة رمزية لم تتجاوز بضعة ملايين من الدولارات.
الصين لم تنحز بصراحة إلى روسيا
ومع ذلك، لم تنحز الصين لروسيا انحيازاً صريحاً، محافظة على علاقاتها المتشعّبة وشراكتها الاقتصادية الوطيدة مع كتلة الدول الغربية، التي لم تذهب بدورها لفرض عقوبات ثانوية غير مباشرة على من يتعامل مع موسكو، على عكس الاستهداف الأميركي للأطراف المساعدة لإيران في خرق العقوبات المفروضة عليها على خلفية برنامجها النووي.
وبموازاة اقتراب العام الأول من الحرب في أوكرانيا من نهايته، تنتظر الصين زيارة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، يومي 5 و6 فبراير المقبل، بينما تعول روسيا على زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى موسكو في الربيع المقبل، بدعوة من نظيره الروسي فلاديمير بوتين.
دميتري خودياكوف: ليست الصين حليفاً سياسياً أو أيديولوجياً لروسيا
ثمة ترجيحات بقدرة الغرب على الضغط على الصين للتأثير على موقفها الحيادي من الحرب الروسية الأوكرانية، نظراً لحجم التبادل التجاري الكبير الذي يربط الصين بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والبالغ في العام الماضي، نحو 760 مليار دولار و847 ملياراً على التوالي، في مقابل نحو 190 مليار دولار فقط على سبيل التجارة البينية بين روسيا والصين.
ويعتبر الباحث في الشؤون الصينية، مدير مركز الاستشراق والدراسات المقارنة بالأكاديمية الروسية للاقتصاد الوطني والخدمة العامة في موسكو، دميتري خودياكوف، أنه "على الرغم من الشراكة التجارية بينهما، إلا أن علاقة موسكو وبكين لا ترقى إلى مستوى التحالف السياسي والأيديولوجي".
ويجزم في حديثٍ مع "العربي الجديد" أن "بكين لن تفضل التجارة مع موسكو على مصالحها الاقتصادية مع الغرب". ويوضح خودياكوف: "الصين بالنسبة إلى روسيا هي اليوم أكبر شريك تجاري مقارنة مع الدول الأخرى، ولكن حصة الصين في التجارة الخارجية الروسية قبل الحرب الأوكرانية كانت أقل بمقدار الضعف مقارنة مع حصة الاتحاد الأوروبي، من دون بريطانيا وتركيا، ما يعني أن الصين لن تستطيع أن تحلّ مكان الشركاء التجاريين الغربيين المنسحبين من السوق الروسية".
ومنذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، عملت بلدان الاتحاد الأوروبي جاهدة على الحد من اعتمادها موارد الطاقة الروسية، وصولاً إلى استغناء بعضها عن الغاز الروسي وفرض حظر على النفط الروسي المنقول بحراً في نهاية العام الماضي، ناهيك عن انسحاب الشركات الغربية الكبرى من السوق الروسية.
ويظهر مسح تجريه وتحدّثه مدرسة الإدارة التابعة لجامعة "يال" الأميركية أن أكثر من ألف شركة أجنبية انسحبت من السوق الروسية أو قلّصت أعمالها بها منذ بدء الحرب، ومن أشهرها شركات "آبل" و"مايكروسوفت" و"بوينغ" الأميركية، و"بي أم دبليو" و"مرسيدس" الألمانيتين.
ومن اللافت أن قائمة الشركات المنسحبة لم تقتصر على العلامات التجارية الأوروبية والأميركية، بل شملت أيضاً بعض الشركات الآسيوية مثل "سامسونغ" الكورية الجنوبية و"هواوي" الصينية، مع استمرار توفر منتجاتها في السوق الروسية عبر آلية الاستيراد الموازي.
الصين ليست حليفاً لروسيا
ويقلل خودياكوف من أهمية روسيا بالنسبة إلى الصين كشريك تجاري، مضيفاً: "الآمال بأن الصين ستفضل العوائد عن التجارة مع روسيا التي قد يغريها بها الكرملين، على الخسائر الهائلة على المسار الغربي نتيجة للعقوبات الأميركية الثانوية المحتملة، لا أساس لها. ليست الصين حليفاً سياسياً أو أيديولوجياً لروسيا، ولم يعلن ذلك بشكل رسمي من الجانبين الصيني أو الروسي أبداً".
"فورين بوليسي": تجنبت بكين أي التزامات فعلية لمساعدة موسكو
ويلخص خودياكوف الموقف الصيني في الحياد والنأي بالنفس عن النزاع، بالقول: "ليس من مصلحة الصين أن يتم إضعاف روسيا بصورة حادة أو زعزعة استقرار الوضع بداخلها. تعتبر الصين أن أفضل حل هو إنهاء النزاع بسرعة، ولكن المسألة تكمن في شروط إنهائه. لا تملك الصين أدوات للتأثير المباشر والسريع على القيادة العسكرية - السياسية الروسية، ولكنها قد تزيد من متاعبها على المدى المتوسط والطويل لجهة تشديد السياسات التجارية وقطع قنوات الالتفاف على العقوبات التي يراهن عليها الكرملين".
في المقابل، يرجح نائب مدير عام معهد الاتصال الاستراتيجي والمشاريع الاجتماعية في موسكو، أندريه كوريوكين، اقتناع الصين وروسيا بأن الغرب هو الذي أشعل النزاع في أوكرانيا عن طريق "خنق" روسيا، متوقعاً أن تسعى الصين للجمع بين التقارب مع روسيا والحفاظ على علاقاتها الاقتصادية مع الغرب.
ويقول كوريوكين في حديثٍ مع "العربي الجديد": "من وجهة النظر الأميركية، تقع الصين بين موقفين متعارضين، فهي تسعى لدعم روسيا كشريكها الإستراتيجي من جانب، مع الحفاظ على دعمها المعلن لسيادة الدول ووحدة أراضيها من جانب آخر".
وحول تقديره لرؤية الصين لأبعاد الحرب الروسية الأوكرانية، يشير إلى أن "الصين تعتبر، وعن قناعة، أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين في حلف شمال الأطلسي أشعلوا النزاع عن طريق بذل جهود منسقة لخنق روسيا باستخدام مختلف الإجراءات غير المشروعة وعزلها دبلوماسياً وشيطنتها سياسياً، لمجرد دفاعها عن مصالحها المشروعة".
ويخلص كوريوكين إلى أنه "بتسليطها هذه العمليات على نفسها في قضية تايوان، قد تسعى الصين للتقارب مع روسيا من دون قطع قنوات التواصل مع الولايات المتحدة وغيرها من دول العالم لاسيما في مجالي التجارة والأعمال".
العالم يطوي صفحة الهيمنة الأميركية
من جهته، يرى رئيس النادي الأوراسي للتحليل في موسكو، نيكيتا ميندكوفيتش، أن السياسات الأميركية تجاه روسيا والصين في ملفي أوكرانيا وتايوان أدت إلى الارتقاء بالعلاقات الروسية الصينية إلى مستوى التحالف، معتبراً أن العالم يطوي صفحة الهيمنة الأميركية.
ويقول ميندكوفيتش في حديثٍ مع "العربي الجديد": "ترى الولايات المتحدة أن سياساتها العدوانية تجاه روسيا في أوكرانيا وحيال الصين في تايوان أسفرت عن تأسيس تحالف بين موسكو وبكين، وهي تسعى لإحداث انقسام بينهما وإفشال تعاونهما".
ويتوقع أن تتعامل الصين مع أي عروض أميركية بحذر، مضيفاً: "تعلم بكين أن واشنطن تدعم صراحة الانفصاليين في التيبت وتايوان، ولكن هيمنة الولايات المتحدة تذهب إلى الماضي، ولن يعود بإمكانها إملاء إرادتها في القارات الأخرى".
نيكيتا ميندكوفيتش: هيمنة الولايات المتحدة تذهب إلى الماضي
في المقابل، يرى باحثون سياسيون غربيون أن الأعباء السياسية والاقتصادية التي تتكبدها الصين جراء الحرب الروسية في أوكرانيا والاقتصاد المتهاوي وإجراءات منع انتشار فيروس كورونا قد تفسح مجالاً للتعاون الأميركي الصيني حول أوكرانيا، خصوصاً أن الحرب الضارية تنعش الدعم الدولي لتايوان، مما يشكل عبئاً على بكين أيضاً.
وذكر الباحثان في مركز "ستيمسون" الأميركي، روبرت مانينغ ويان صن، في مقال بموقع مجلة "فورين بوليسي" الأميركية في وقت سابق من يناير/كانون الثاني الحالي، أنه "منذ بدء الحرب، قدمت الصين دعماً خطابياً لروسيا وقامت بشيطنة أعمال الأطلسي، ولكنها تجنبت أي التزامات فعلية لمساعدة موسكو"، واصفين التحالف الصيني الروسي بأنه "براغماتي وعملي بعض الشيء، وربما تكون الولايات المتحدة تفوّت فيه فرصاً للتفرقة بينهما، في بعض الملفات على الأقل".
ورأى كاتبا المقال المعنون: "واشنطن تفوت الفرصة لتوجيه الصين ضد روسيا"، أن "الصين، شأنها في ذلك شأن غيرها من الأمم، تسترشد بالدرجة الأولى بمصالحها الخاصة".
ولفتا إلى أن "حرب بوتين في أوكرانيا شكلت ضربة لمصالح الصين الاقتصادية في وقت يمر فيها اقتصادها بمحنة"، كون الصين أكبر مقرض للدول النامية التي عانت من ارتفاع أسعار موارد الطاقة والغذاء والأسمدة، مما زاد من متاعبها في تحصيل قروضها.
ومع ذلك، عملت موسكو وبكين منذ بدء الحرب في أوكرانيا على عدم إخراج خلافاتهما المحتملة إلى العلن، إذ أجرى بوتين وشي مجموعة من الاتصالات الهاتفية، بالإضافة إلى عقدهما محادثات حضورية خلال قمة منظمة شنغهاي للتعاون في مدينة سمرقند الأوزبكية في سبتمبر/أيلول الماضي.
وفي اليوم قبل الأخير من العام الماضي، عقد بوتين وشي قمة افتراضية عبر الفيديو، اعتبر الرئيس الروسي خلالها أن التنسيق الروسي الصيني "يخدم إقامة نظام عالمي عادل يعتمد على القانون الدولي".