تتجمّع الملفات الخلافية بين روسيا والغرب، متحولة إلى "كرة ثلج" تنذر بهدم ما تبقّى من أسس اتفاقية الشراكة والتعاون، التي توصل إليها الطرفان في عام 1994، ودخلت حيز التنفيذ في عام 1997. وتضيف اتهامات جمهورية تشيكيا للاستخبارات العسكرية الروسية بتفجير مخزن للذخيرة في عام 2014، ملفاً خلافياً آخر في العلاقات التي وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ حقبة الحرب الباردة (1947 ـ 1991). وتنذر الأوضاع بأزمة دبلوماسية كبيرة بين روسيا والبلدان الأوروبية، على غرار أزمة تسميم العميل الروسي المزدوج سيرغي سكريبال وابنته يوليا في 4 مارس/آذار 2018، تبادل فيها الطرفان طرد نحو 300 دبلوماسي.
ومنذ الصيف الماضي توترت العلاقات الروسية ـ الأوروبية بسبب تسميم المعارض الروسي أليكسي نافالني، وازداد تدهور العلاقات مع اعتقاله فور عودته إلى روسيا في يناير/كانون الثاني الماضي، والحكم عليه لاحقاً بالسجن لمدة تصل إلى سنتين ونصف السنة. وساهمت الأحداث الأخيرة في شرق أوكرانيا منذ شهر مارس الماضي، وحشد روسيا قوات ضخمة على الحدود مع جارتها الغربية، في تأزم إضافي للعلاقات الثنائية في واحد من أكثر الملفات تأثيراً على العلاقات بين البلدين، وتسبّب في فرض حزم عقوبات أوروبية متتالية على روسيا منذ ضمّ شبه جزيرة القرم الأوكرانية والتورط في حرب إقليم دونباس في عام 2014.
بوريل: يحشد الروس 150 ألف جندي على الحدود مع أوكرانيا
وقد رفض المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، أمس الاثنين، تحذيرات الدول الغربية التي تعهّدت بردّ حازم في حال توفي نافالني. وقال: "لا يمكننا أن نقبل مثل هذه التصريحات من جانب ممثلي حكومات أخرى" معتبراً أن هذا الموضوع "يجب ألا يحظى باهتمام" من جانبهم. وأضاف "نحن لا نتابع الوضع الصحي للسجناء الروس". أما في ملف تشيكيا فاعتبر الكرملين أن قرار براغ طرد 18 دبلوماسياً روسياً متهمين بالتجسس هو "استفزاز".
من جهته، ندّد الاتحاد الأوروبي أمس الاثنين، بتصاعد التوتر مع روسيا معتبراً أن الوضع "خطير جداً" على الحدود مع أوكرانيا، كما اعتبر موسكو "مسؤولة" عن الوضع الصحي لنافالني. وقال وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل قبل اجتماع لوزراء خارجية الدول الـ27 عبر الفيديو إن "روسيا حشدت 150 ألف جندي على الحدود مع أوكرانيا"، وهو ما يعني حكماً زيادة احتمالات الحرب واجتياح كييف. وأضاف أن "العلاقات مع روسيا لا تتحسن، بل يتصاعد التوتر في مختلف المجالات". وحذّر بوريل من أن "الأوروبيين طلبوا من السلطات الروسية تقديم الرعاية الصحية لنافالني، لكن طلبنا لم يؤخذ بعين الاعتبار. الآن مع تدهور الوضع، سنعتبر السلطات الروسية مسؤولة عن صحة نافالني". كما أعلنت وزارة الدفاع الروسية أمس، أن طائرة "ميغ 31" لاحقت طائرة أميركية وأخرى نرويجية، كانتا في دورية فوق بحر بارنتس في القطب الشمالي.
وتطاول الخلافات الروسية الأوروبية، ملفات مثل قضايا التسلح، في ظلّ خشية أوروبا تحوّل أراضيها إلى ساحة لنشر صواريخ جديدة، يتراوح مداها بين 500 و5000 كيلومتر، بعد انسحاب الولايات المتحدة وروسيا من اتفاق الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى في العام الماضي. كما تعترض روسيا على نشر الدرع الصاروخية الأميركية في بولندا ورومانيا وبلدان البلطيق الثلاثة، ليتوانيا، إستونيا، لاتفيا. وتزداد مخاوف موسكو منذ انتهاء ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وعمل واشنطن في ظل إدارة جو بايدن المتواصل على تحسين العلاقات مع أوروبا، في إعادة توحيد حلف الأطلسي، وتوسعه شرقاً، ما تعتبره موسكو خطاً أحمر يهدد أمنها الداخلي. مع العلم أن روسيا بذلت جهوداً كبيرة وخاضت حروباً في جورجيا (2008) وأوكرانيا، لمنع توسع الحلف وضم أعضاء جدد من محيطها السوفييتي السابق. وفي مولدوفا، تدعم روسيا إقليم ترانسنيستريا (جمهورية بريدنيستروفيه الانفصالية)، وترفض سحب جيشها ومخازن الأسلحة الضخمة من الإقليم، في حين تدعم بروكسل وحدة وسلامة أراضي مولدوفا.
وبعيداً عن الخلافات التقليدية بين روسيا من جهة وبولندا وبلدان البلطيق من جهة أخرى، برزت في السنوات الأخيرة خلافات كبيرة بين روسيا وكل من النرويج، والسويد، والدنمارك، على خلفية زيادة القوة العسكرية لحلف الأطلسي في منطقة القطب الشمالي، وزيادة روسيا قدراتها الصاروخية في المنطقة. كما تراهن روسيا على البدء باستغلال الثروات الباطنية الضخمة من دون التوصل إلى اتفاق مع كندا والولايات المتحدة والنرويج والدنمارك على تقاسم منطقة جرف القطب الشمالي، والرهان على أن انحسار الجليد سوف يؤدي إلى زيادة نفوذها كقوة بحرية للنقل من شرقي آسيا والصين إلى أوروبا.
طاردت طائرة روسية طائرتين أميركية ونرويجية فوق بحر بارنتس
وفي السنوات الأخيرة، فرضت أوروبا عقوبات على روسيا بتهمة التدخل في الانتخابات، وتنفيذ هجمات سيبرانية على بعض الدول الأوروبية، ونشر وسائل الإعلام الروسية المدعومة من الكرملين أخباراً كاذبة لزيادة النقمة الشعبية على المهاجرين واللاجئين، وزيادة قوة اليمين المتطرف، إضافة إلى تصفية معارضين للرئيس الشيشاني رمضان قديروف في ألمانيا والنمسا والسويد.
وتمر العلاقات الروسية الأوروبية في أسوأ مراحلها منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق (1917 ـ 1991)، بعدما شهدت فترات مدّ وجزر في العقود الثلاثة الأخيرة، انتهت إلى قناعة عبّر عنها بوريل في 9 فبراير/ شباط الماضي بعد زيارته موسكو بأيام، قال فيها إن الزيارة عززت رؤيته بأن روسيا ترغب في الانفصال عن أوروبا، وتفريق الغرب. ووجه بوريل انتقادات قاسية لحكم الرئيس فلاديمير بوتين، وقال إن حكومة بوتين "عديمة الرحمة" ومستبدة وخائفة من الديمقراطية. وخلص في كلمة للبرلمان الأوروبي إلى أنه "يبدو أنه لا مجال تقريباً لتطوير بدائل ديمقراطية. هم لا يرحمون في خنق مثل هذه المحاولات"، مبدياً اعتقاده أن الكرملين ينظر للديمقراطية باعتبارها تمثل "تهديداً وجودياً".
وتكشف تصريحات بوريل عن تعثر المسار الذي اتبعته أوروبا في التعامل مع روسيا منذ تسعينيات القرن الماضي، والمنطلق من إمكانية إحداث تغييرات في روسيا للتخلص من الماضي الشيوعي الشمولي، والسعي لتعزيز قيم الحرية والتعددية في روسيا، والاقتراب أكثر إلى القيم الأوروبية.
وكانت موسكو وجهت ضربة قوية للدبلوماسية الأوروبية عندما بادرت في 5 فبراير الماضي إلى طرد ثلاثة دبلوماسيين أوروبيين أثناء زيارة بوريل ومحادثاته من وزير الخارجية سيرغي لافروف. وبدا واضحاً أن زيارة المسؤول الأوروبي "الاستكشافية" باءت بالفشل، علماً أنها الأولى على هذا المستوى منذ عام 2017، وبعدها قال بوريل من بروكسل إن الزيارة "أكدت أن أوروبا وروسيا ليستا على موجة واحدة. ويبدو أن روسيا تنأى بنفسها تدريجيا عن أوروبا، وتعتبر أن القيم الديمقراطية تهديد وجودي".
في المقابل، حملت تصريحات لافروف في الأشهر الأخيرة نهجاً تصعيدياً واضحاً، ففي لقاء مع الإعلامي الروسي فلاديمير سولوفيوف، في 12 فبراير الماضي، شدد لافروف رداً على سؤال عما إذا كانت روسيا جاهزة لقطع العلاقات مع أوروبا على خلفية عقوبات متوقعة، على ضرورة أن تكون موسكو مستعدة لهذه الخطوة، مستشهداً بالمثل المعروف "إذا أردت السلم، فاستعد للحرب".
وفي 23 مارس/آذار الماضي، حمّل لافروف بروكسل المسؤولية عن تقويض البنية التحتية للعلاقات بين موسكو والاتحاد الأوروبي بشكل كامل، وزاد أنه "ليست هناك علاقات مع الاتحاد الأوروبي كمنظمة هدمت البنية التحتية لهذه العلاقات بشكل كامل بقرارات بروكسل أحادية الجانب". ومع إشارته إلى أن "أوروبا قطعت العلاقات بمجرد هدم كافة الآليات التي كان يتم إنشاؤها على مدى سنوات طويلة"، أكد لافروف أن بلاده ما زالت تحتفظ بعلاقات مع دول أوروبية "تسترشد بمصالحها الوطنية" بشكل منفرد، مضيفاً أن روسيا مستعدة لتطوير العلاقات في حال تصليح الخلل القائم في العلاقات الثنائية. وشدّد على أن العلاقات يجب أن تُبنى "على أساس التكافؤ".
ويبدو أن تصريحات لافروف حول قطع العلاقات لم تكن زلة لسان، بل تعمّد توجيه رسالة حازمة إلى بروكسل ربما شكلت حداً فاصلاً جديداً في علاقات الطرفين، بدءاً من فرض شروط المنتصر على روسيا بعد انهيار السوفييت، ومحاولة نشر القيم الأوروبية في روسيا، والعمل على تغيرات في روسيا تقربها من أوروبا. وتلا ذلك اندلاع حروب الطاقة بين الطرفين بعد ثورتي جورجيا (2003) وأوكرانيا (2004 ـ 2005)، وأدت إلى بداية صعود روسيا في محيطها السوفييتي السابق، والنقمة الأوروبية بسبب حرب جورجيا في 2008. وشكّل ضمّ القرم وحرب الشرق الأوكراني في 2014 وما تلاها من عقوبات، ذروة الخلافات.
التصعيد الروسي ورفض النقاش في القضايا الداخلية، يهدفان إلى وضع ضوابط جديدة للعلاقات المستقبلية مع أوروبا
وتكشف تصريحات لافروف أن موسكو فقدت الأمل بإمكانية بناء فضاء أوراسي موحد من فلاديفوستوك في الشرق على المحيط الهادئ إلى لشبونة في البرتغال على المحيط الأطلسي في الظروف الراهنة. وتراهن موسكو حالياً على علاقات فردية مع العواصم الأوروبية من دون التنسيق مع بروكسل، منطلقة من فشل الأوروبيين في تبني سياسة خارجية موحدة في كثير من القضايا، وعدم بروز الاتحاد الأوروبي كقوة موحدة مثل الصين والولايات المتحدة. وتعتمد روسيا على قوانين الاتحاد الأوروبي بشأن توافق جميع الأعضاء فيما يخص قضايا السياسة الخارجية، ما يمنحها حرية كبيرة بالمناورة، وتجعل أي عقوبات أوروبية "من دون أسنان حادة". ففي حين ترغب بلدان البلطيق وبولندا بفرض عقوبات قوية، فإن فرنسا على سبيل المثال تدفع للحوار مع موسكو ضمن سياسة مستقلة، كما تتبع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل سياسة مستقلة تجاه روسيا والصين وتعارض وقف خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2"، فيما دول مثل النمسا أو إيطاليا عادة ما تكون متشككة بشأن العقوبات على روسيا. كما تحتفظ روسيا بعوامل ضغط داخل الاتحاد الأوروبي عبر علاقاتها القوية مع أحزاب اليمين المتطرف، والحركات المعادية للاجئين والأجانب التي ازدادت قوتها كثيرا بعد عام 2015.
وواضح أن التصعيد الروسي ورفض النقاش في القضايا الداخلية، يهدفان إلى وضع ضوابط جديدة للعلاقات المستقبلية مع أوروبا، تنطلق من رفض طرح القضايا الداخلية الروسية مثل قمع المعارضة السياسية وحرية الصحافة، ونزاهة الانتخابات، وغيرها.
وعلى الرغم من تلويح موسكو وبروكسل بقطع العلاقات نهائياً، في ظلّ التوقعات باتجاه العلاقات نحو الأسوأ، فإن الطرفين معنيان بمواصلة الحوار في عدد من القضايا أهمها، قضايا الحدّ من التسلح والطاقة والتجارة والسياحة والاستثمارات والمناخ والصيد البحري والجوانب الصناعية والزراعية، ومواضيع الأمن الإقليمي والإرهاب، ولكن موسكو ترفض بالمطلق ربطها مع القضايا الداخلية الروسية. وتحتم الأوضاع الدولية التنسيق بين موسكو وأوروبا في عدد من المشكلات الإقليمية مثل ليبيا، وسورية، وشرق المتوسط، والقوقاز رغم تضارب المصالح في عدد من هذه القضايا.