مازالت مفاوضات فيينا غير المباشرة بين طهران وواشنطن لإحياء الاتفاق النووي متعثرة، وسط غموض يكتنف إمكانية استئناف جولتها السابعة منذ توقفها في يونيو/حزيران الماضي، أي قبل أسبوع تقريباً من إجراء الانتخابات الرئاسية الإيرانية التي جاءت بالرئيس المحافظ إبراهيم رئيسي.
ويرتبط استئناف المفاوضات بقرار طهران العودة إليها بعد أن طلبت وقفها بحجة انتقال السلطة التنفيذية. فالحكومة الإيرانية "مازالت تجري مشاورات داخلية حول طريقة إدارة مفاوضات فيينا"، كما قال وزير الخارجية الإيراني الجديد حسين أمير عبداللهيان، الإثنين لنظيره البريطاني دومينيك راب في اتصال هاتفي.
ويأتي ذلك في وقت يصرّ فيه الطرفان الأميركي والأوروبي على عودة إيران إلى طاولة التفاوض سريعا، وسط تحذيرات من أن "التفاوض لإحياء الاتفاق النووي لعام 2015 قد لا يكون له أي معنى قريبا" في ظل تقدّم إيران السريع في برنامجها النووي، كما قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في وقت سابق من الشهر الجاري.
وأضاف بلينكن "مع استمرار إيران بالتقدم في برنامجها النووي، بما في ذلك تشغيل أجهزة الطرد المركزي الأكثر تطورا وتخصيب المزيد من اليورانيوم، سيكون من الصعب للغاية عندها استعادة جميع فوائد خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015 (الاتفاق النووي). لم نصل إلى هذه المرحلة لكنها تقترب".
لكن الحكومة الإيرانية الجديدة "اتخذت مواقف غامضة ومبهمة" حول الاتفاق النووي، حسب الكاتب والخبير الإيراني أحمد زيد أبادي، الذي أضاف أن رئيسي وأعضاء حكومته "قبلوا بمبدأ إحياء الاتفاق النووي لكنهم وضعوا شروطا بشكل عام حول منافعه وخاصة بشأن أبعاد رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية".
وأوضح زيد أبادي في مقابلة مع "العربي الجديد" أن "الجمهورية الإسلامية ترى في تعليق المفاوضات فرصة لإحراز التقدم في برنامجها النووي ووضع أطراف الاتفاق النووي أمام أمر واقع"، مشيرا إلى أن الهدف من ذلك "هو دعم موقفها في المفاوضات للمطالبة بتنازلات جديدة".
رسالتان متناقضتان
أما إيران المشغولة بالمشاورات الداخلية، حسب وزير خارجيتها، فبعثت فی الوقت ذاته، خلال الأيام الأخيرة رسالتين متناقضتين لأطراف مفاوضات فيينا، وبالذات الطرف الأميركي والطرف الأوروبي المصرّين على استئنافها فورا، ما زاد من الغموض حول رغبتها في إطلاق المفاوضات مجددا من عدمه.
وتمثلت الرسالة الأولى في الموافقة الإيرانية على زيارة المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي إلى طهران، الأحد الماضي، والتوصل إلى اتفاق معه لإجراء عمليات الصيانة لكاميرات المراقبة الدولية الموضوعة في المنشآت النووية الإيرانية واستبدال بطاقات الذاكرة في هذه الكاميرات. هذه الرسالة تحمل في طياتها إشارات إلى رغبة إيرانية في احتواء التوتر المتزايد مع الوكالة الدولية من جهة، واحتواء التصعيد مع الأطراف الغربية من جهة أخرى، ومنعها من استصدار قرار أممي ضدها داخل أروقة مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية في اجتماع المجلس هذا الأسبوع، والذي بدأ من الإثنين ويستمر لمدة ثلاثة أيام.
أما الرسالة الثانية التي جاءت نقيضا للرسالة الأولى، فبرزت في تعيين علي باقري الرافض للاتفاق النووي والمتحفظ على المفاوضات التي أدت إليه، نائبا لوزير الخارجية الإيرانية للشؤون السياسية، مكان الدبلوماسي الإيراني المخضرم عباس عراقجي، كبير المفاوضين الإيرانيين في مفاوضات فيينا.
وتعليقا على هذا التعيين، رجّح زيد أبادي، المقرب من الإصلاحيين، في حديثه لـ"العربي الجديد" أن يقود باقري فريق إيران لمفاوضات فيينا، قائلا إن تعيينه في هذا المنصب "يشكل خطوة من الحكومة للتغلب على الوضع الصعب الغامض راهنا"، الذي يقول إن الحكومة الإيرانية الجديدة تواجهه منذ فترة بشأن مصير الاتفاق النووي.
أما تعيين باقري المعروف بمعارضته الشديدة للاتفاق النووي في هذا المنصب فـ"في الوهلة الأولى يتعارض مع الغرض من خوض المفاوضات" لإحياء الاتفاق النووي، حسب زيد أبادي.
غير أن الكاتب الإيراني يرى أن هذه الخطوة "لا تخلو من الذكاء من زاوية أخرى"، مضيفا "إذا ما وقّع باقري على أي اتفاق فلن تنال الخطوة رفضا من قبل الأصوليين الأكثر تشددا، لأن مندوبهم هو الذي وقع عليه".
وأشار إلى أن النائب الجديد لوزير الخارجية للشؤون السياسية "قد لا يستطيع ولا يرغب في أن يعود من فيينا خالي الوفاض ليكرر تجربة المفاوضات الفاشلة والاستنزافية التي خاضها (المفاوض السابق) سعيد جليلي"، عازيا ذلك إلى الانطباع الموجود في ذاكرة معظم الإيرانيين حول هذه المفاوضات وجليلي نفسه.
وأضاف زيد أبادي أن "العودة من كل جولة تفاوض في فيينا بدون إنجاز يذكر تشكل ضربة سياسية لحكومة الرئيس رئيسي والتيار الأصولي، لا يمكن تعويضها، حيث ذلك يصور الأصوليين لدى الرأي العام على أنهم غير قادرين على التفاوض والتوصل إلى اتفاق".
"لا تعارض"
لكن الإعلامي والخبير الإيراني المحافظ محمد قادري، استبعد إمكانية ظهور أي تعارض بين اتفاق إيران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتعيين باقري نائبا لوزير الخارجية للشؤون السياسية، مشيرا إلى أنه "ليس محسوما بعد أن يكون السيد باقري هو كبير المفاوضين الإيرانيين". وأضاف أنه "حتى إذا تم تسليمه هذا المهام فذلك لا يعني إطلاق رصاصة الرحمة على سياسة الحكومة العامة لمواصلة المفاوضات".
ورفض قادري في مقابلة مع "العربي الجديد" أن يكون تعيين باقري في هذا المنصب تعبيرًا عن تشديد الحكومة الإيرانية موقفها من المفاوضات، معتبرا أن "ما يقال بأن ذلك دليل على تشديد هذا الموقف يعود إلى فضاء نفسي تروج له وسائل إعلام"، مؤكداً "السيد رئيس الجمهورية أعلن صراحة أننا نريد مواصلة المفاوضات".
"لا تغيير في موقف إيران من المفاوضات" كما يقول الخبير قادري، الذي أضاف أن "المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني هو الذي يحدد الاستراتيجيات حول المشاركة في المفاوضات ومواصلتها والمفاوضون يتوجب عليهم تنفيذها، سواء كان عراقجي كبير المفاوضين أو باقري أو غيرهما".
لكن لا يخفي قادري أنه في حال تم إسناد ملف إجراء المفاوضات إلى باقري فإن ذلك يحمل إشارات إلى تبني الحكومة الجديدة "توجها جديدا ومتشددا" في المفاوضات، قائلا إن "الحكومة ستدخل هذه المفاوضات بأجندة جديدة".
وأوضح أن "التوجهات السابقة لم تؤت أكلها ونحن جربناها خلال السنوات الثماني الماضية، إيران نفذت إجراءات طوعية، وهذه التوجهات خلقت انطباعا غير منطقي لدى الطرف الآخر كأن إيران في موقف ضعف بحاجة إلى التفاوض، لكن في الظروف الجديدة نحن لن نقبل باستمرار هذا المسار"، مشيرا إلى أن "تبني مقاربة متشددة في المفاوضات لا يعني تغيير استراتيجية البلاد من استمرار المفاوضات ... بالتالي فإن التشدد سيكون في التوجهات خلال المفاوضات".
وأضاف قادري أن تنفيذ القانون الذي أقره البرلمان سابقا يشكل أساس توجه الحكومة الجديدة في المفاوضات لتحقيق المصالح الإيرانية.
وكان البرلمان الإيراني قد أقر قانوناً جديداً مطلع ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بعنوان "الإجراء الاستراتيجي لإلغاء العقوبات"، ينص على اتخاذ خطوات نووية بغية إجبار الأطراف الأخرى على إلغاء العقوبات. ونفذت من هذه الخطوات حتى الآن رفع نسبة اليورانيوم المخصب إلى 20 في المائة ثم 60 في المائة، وتعليق تنفيذ البروتوكول الإضافي وخطوات أخرى، لكنْ ثمة بنود أخرى لم تنفذ بعد على الرغم من أن مواعيدها حلت، منها إنشاء مصنع اليورانيوم المعدني، الذي ينصّ عليه البند الرابع في القانون.
وظلت أوساط محافظة، لا سيما في البرلمان الإيراني، تتهم الحكومة السابقة خلال الشهور الماضية، بعدم تنفيذ هذا القانون بحذافيره، ما أبطل مفاعيله ومنعه من أن يحقق النتيجة المرجوة، حسب قولها، غير أن الرئيس السابق حسن روحاني وحكومته اعتبروا أن القانون كان قد عرقل التوصل إلى اتفاق في مفاوضات فيينا. واليوم تؤكد الحكومة الجديدة أنها ستخوض المفاوضات النووية على أساس التنفيذ الكامل لهذا القانون.
التفاهم مع "الذرية الدولية"
لكن ثمة مراقبين وأطرافا سياسية في إيران يرون أن التفاهم الذي وقعته حكومة رئيسي أخيرا مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لصيانة أجهزة المراقبة في المنشآت النووية الإيرانية، يأتي امتدادا للتفاهم الذي توصلت إليه حكومة روحاني مع الوكالة والذي نال انتقادات شديدة في الأوساط المحافظة وخاصة البرلمانيين، مع اعتباره "ناقضا" للقانون الذي أقره البرلمان المحافظ، والذي أوقفت إيران بموجبه تنفيذ البروتوكول الإضافي الذي يحكم الرقابة الدولية على البرنامج النووي الإيراني وفقا للاتفاق النووي.
وخلال الأيام الأخيرة، رأى خبراء إيرانيون وتيارات إصلاحية في تعليقاتهم على التفاهم الجديد مع الوكالة أنه ينم عن "انعطاف وتغيير" في موقف التيار الأصولي (المحافظ) الذي رحب بالاتفاق ورأه "نافعا" مع تأكيده على أنه "يسحب الذرائع" حول البرنامج النووي الإيراني.
وباستثناء مطالبة برلمانية بـ"الشفافية" حول هذا الاتفاق الذي رحبت به المجموعة الدولية، وحديث برلماني إيراني عن عدم إلمام البرلمان بالاتفاق، لم يسجل تحفظ أو معارضة بين المحافظين تجاه هذه الخطوة من الحكومة المحافظة الجديدة. وأمس الثلاثاء، وردا على هذه المطالبة، قال رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف، إن هذا الموضوع خارج أجندة جلسة البرلمان.
وتعليقا على الاتفاق الجديد بين الوكالة وإيران، اعتبر الناشط المحافظ المعتدل محمد مهاجري في تغريدة عبر "تويتر"، أن الاتفاق "انتصار كبير لرئيسي"، قائلاً إنه بهذه الخطوة حقق أهدافا عدة، مشيرا إلى أنه "أرضى غروسي وأحيا الأمل لدى الشعب (بالمفاوضات) وضرب قرار البرلمان عرض الحائط ووجه ضربة قاضية لقاليباف و(البرلماني المتشدد مجتبى) ذوالنور ووضع أفكار جليلي في الأرشيف وجعل المحافظين القلقين (من الاتفاق النووي) يصفقون"، على حد تعبيره.
لكن الخبير محمد قادري أكد لـ"العربي الجديد" أن "البيان المشترك الذي صدر بعد مباحثات غروسي" في إيران "كان واضحا"، مشيراً إلى أنه "يتكون من ثلاثة بنود و163 كلمة ولا يحمل أي تعارض مع القانون الذي أقره مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، لكي نتحدث عن أن الأصوليين تنازلوا أو أنهم لماذا لم يتخذوا موقفا ضده".
وتابع قادري أن التفاهم مع الوكالة لا يتعارض مع وقف إيران تنفيذ البروتوكول الإضافي، مؤكدا أن عمليات التفتيش على أساس هذا البروتوكول "متوقفة"، وأن بلاده لن تسمح للمفتشين الدوليين بإجراء تفتيش خارج اتفاق الضمانات بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. وأضاف أن بيانات كاميرات المراقبة "لن تسلم" إلى الوكالة الدولية وأن ذلك مرتبط بمصير الاتفاق النووي "لذلك لم يحدث شيء جديد لنتحدث عن تغيير في موقف المحافظين".
ويتوقع الخبير الإيراني أن تستأنف المفاوضات في فيينا خلال نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.